|
|
|
موضوع الغلاف |
|
رضوان شكرالله |
مياه الصرف المعالجة مورد استراتيجي للبلدان العربية تشرين الاول 2011 / عدد 163 |
|
|
|
شهد العالم العربي في العقود الثلاثة الماضية إجهاداً مائياً متنامياً، من حيث شح المياه وتدهور نوعيتها. هذه الأزمة التي تلوح في الأفق حفزت حكومات كثيرة على السعي الى مزيد من الاستعمال الكفوء لموارد المياه وتطوير أساليب لتضييق الفجوة بين العرض والطلب.
تعتبر إعادة استعمال مياه الصرف البلدية استراتيجية تدخّل لتطوير موارد مياه غير تقليدية. والزراعة هي الى حد بعيد المستهلك الرئيسي للمياه في معظم البلدان العربية، إذ تستأثر مثلاً بنحو 80 في المئة من مجموع إمدادات المياه في تونس، وما يصل الى 90 في المئة في سورية. لذلك، فان اعادة الاستعمال الموسَّع لمياه الصرف المعالجة في الري ولأغراض أخرى يمكن أن تساهم بشكل كبير في تخفيض «الإجهاد المائي» و«شح المياه» كجزء من منهج ادارة متكاملة للموارد المائية. ومن حيث الكمية الممكنة، لعل أفضل التدابير هو استعمال المياه المعالجة وفق الأصول لأغراض الري، كبديل من المياه الجوفية والسطحية التقليدية.
إن اعادة استعمال مياه الصرف المعالجة في المنطقة العربية تستهدف الزراعة بالدرجة الأولى، خصوصاً في تونس وسورية والأردن. ويزداد ري الحدائق العامة وملاعب الغولف بهذه المياه في بلدان مجلس التعاون الخليجي وشمال أفريقيا. لكن هناك قيوداً اقتصادية ومؤسساتية وصحية وبيئية تعيق استعمال مياه الصرف وإعادة تدويرها بشكل مستدام ومأمون. ويحتاج التصدي لهذه القيود الى جهد والتزام مشترك من قبل الحكومات العربية، والى دعم من منظمات اقليمية ودولية لزيادة كميات مياه الصرف المعالجة والجزء الذي يعاد استعماله.
وقد حفز شح المياه والحاجة الى حماية البيئة والموارد الطبيعية البلدان العربية على إدخال معالجة مياه الصرف واعادة استعمالها كمورد مياه اضافي في خططها الوطنية لادارة موارد المياه. لكن ما زال هناك مجال كبير لتوسيع تطبيقها.
التحدي الرئيسي لمعظم البلدان العربية هو تأمين الوصول الى مياه مأمونة وخدمات صحية نظيفة. ويقدر مجلس المياه العربي أن 83 مليون نسمة في المنطقة يحتاجون الى إمدادهم بمياه مأمونة، و96 مليوناً ما زالوا بحاجة الى خدمات صحية نظيفة للوفاء بالأهداف الانمائية للألفية. وقد وضعت حاجات السكان المتزايدين، الذين يقدر عددهم بنحو 345 مليوناً، ضغطاً مضافاً علـى مجموع سحب المياه. ويستهلك القطاع الزراعي نحو 86 فـي المئة مـن هـذا المجموع. وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن يزداد الطلب على المياه لاستعمالات منزلية وبلدية وصناعية، مدفوعاً بتوسع مُدني سريع وتصنيع وهجرة ريفية الى المدن.
وبناء على تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، يظهر الجدول ـ 1 حجم مياه الصرف التي يولدها القطاعان المنزلي والصناعي في مختلف البلدان العربية. وتصل نسبة مياه الصرف المعالجة الى 54 في المئة من المياه المولدة في المنطقة العربية، وهي أعلى مما في آسيا (35%) وأميركا اللاتينية/الكاريبي (14%) وأفريقيا (1%).
السبّاقون: تونس والأردن والخليج
تعتبر تونس والأردن وبلدان مجلس التعاون الخليجي دولاً رائدة عربياً في مجال استصلاح مياه الصرف وإعادة استعمالها.
لدى تونس خبرة طويلة (منذ 1965) في استعمال مياه الصرف المعالجة لري البساتين، خصوصاً ضمن مشروع سكرة للري الذي يبعد ثمانية كيلومترات عن العاصمة ويغطي مساحة 600 هكتار. في العام 2008، كان عدد محطات المعالجة العاملة في تونس 61 محطة، تجمع 0,24 بليون كيلومتر مكعب من مياه الصرف، منها أقل من 30 في المئة يعاد استعمالها لري بساتين الكرمة والحمضيات والزيتون والخوخ والإجاص والتفاح والرمان، والمحاصيل العلفية مثل الفصة والسرغوم، والمحاصيل الصناعية مثل القطن والتبغ والحبوب، وملاعب الغولف في تونس والحمامات وسوسة والمنستير. وتتم معالجة مياه الصرف حتى مستويات ثانوية، ويدفع المزارعون أسعاراً مدعومة مقابل المياه المعالجة التي يروون بها حقولهم.
في الأردن، تستعمل مياه الصرف للري منذ عقود. وكان إدخال اعادة استعمالها في الاستراتيجية المائية الوطنية للبلاد عام 1998 دليلاً على إعطائها أولوية عالية. وتمثل مياه الصرف المعالجة 10 في المئة من مجموع امدادات المياه، ويعاد استعمال ما يصل الى 85 في المئة منها. لكن جدير بالذكر أنها تُمزج مع المياه العذبة ومن ثم تستعمل لري غير مقيّد في وادي الأردن.
وفي العام 2009، تم إطلاق الاستراتيجية المائية الوطنية الجديدة. ولزيادة دعم استعمال مياه الصرف في الري، تقترح خطة 2008 ـ 2022، بين أمور أخرى، ما يأتي:
- ادخال تعرفات وحوافز مائية مناسبة لتعزيز كفاءة المياه في الري ورفع العائدات الاقتصادية للمنتجات الزراعية المروية.
- ادارة مياه الصرف المعالجة كمصدر مياه دائـم يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الموازنة المائية الوطنية.
- ضمان تعزيز المقاييس الصحية لعمال المزارع والمستهلكين، ووفاء المياه المنتجة في جميع محطات معالجة مياه الصرف البلدية أو الصناعية بالمقاييس الوطنية، ومراقبتها بانتظام.
ﷺ القيام دورياً بتحليل ومراقبة جميع المحاصيل المروية بمياه صرف معالجة أو مياه ممزوجة.
- تصميم وتنفيذ برنامج لتوعية الجمهور والمزارعين بفوائد استعمال مياه الصرف المعالجة، وطرق الري، ومعاملة الانتاج.
هناك 21 محطة لمعالجة مياه الصرف المنزلية في الأردن، أنتجت عام 2008 أكثر من 100 مليون متر مكعب من المياه المعالجة. وتقع المحطات في مدن كبرى، لكنها تخدم مناطق كبيرة تحيط بهذه المدن. وتستغل كل المياه الناتجة إما مباشرة للري وإما تخزن أولاً في خزانات أو سدود تستعمل للري. وتقدر وزارة المياه والري أن كمية مياه الصرف المعالجة التي تستعمل للري سوف تصل الى 223 مليون متر مكعب سنوياً بحلول سنة 2020. ومنذ عام 2002، تنفذ حكومة الأردن، بدعم من منظمات دولية، عدة مشاريع في العقبة ووادي موسى، هدفها إثبات أن اعادة استعمال المياه المستصلحة يمكن أن تكون موثوقة وقابلة للتطبيق تجارياً ومأمونة ومقبولة اجتماعياً ومستدامة بيئياً.
في مشروع مزرعة وادي موسى التجريبي قرب مدينة البتراء التاريخية، تستعمل مياه الصرف المعالجة لزرع تشكيلة من المحاصيل الزراعية بما في ذلك الفصَّة والذرة وعبّاد الشمس وحشيشة السودان، والمحاصيل الشجرية مثل الفستق الحلبي واللوز والزيتون ونخيل التمور والليمون والحور والبيسية والعرعر، وكثير من أنواع أزهار الزينة مثل السوسن والخبازى والبيتونيا والأقحوان.
أما في بلدان مجلس التعاون الخليجي، فيُستعمل نحو 40 في المئة من مياه الصرف المعالجة لري محاصيل لا تؤكل وعلف للماشية، فضلاً عن الحدائق العامة. في الكويت، تُعتبر محطة المعالجة في الصليبية المرفق الأكبر من نوعه في العالم الذي يستعمل نظم تنقية المياه الغشائية بواسطة التناضح العكسي (RO) والترشيح الفائق الدقة (UF). وتبلغ القدرة اليومية الأولية للمحطة 375 ألف متر مكعب، يمكن توسيعها الى 600 ألف متر مكعب يومياً في المستقبل. ويُعتقد أن مياه الصرف المعالجة سوف تساهم بنسبة 26 في المئة من مجموع الطلب الشامل على المياه في الكويت.
لبنان وسورية ومصر
في العام 2001، تم انتاج 310 ملايين متر مكعب من مياه الصرف المنزلية والصناعية في لبنان. وفي 2004، تمت معالجة 4 ملايين متر مكعب فقط، وتم استعمال مليوني متر مكعب لري غير مسجل رسمياً. ويعاد استعمال مياه الصرف غير المعالجة للري في مناطق متعددة من لبنان، كما يحدث في منطقة البقاع، حيث يتم سد بعض المجارير عمداً لتحويل مياه الصرف الى الري. وفي مناطق أخرى، يتم تصريف هذه المياه في الأنهار أو الجداول التي تستعمل للري، كما يحدث في عكار والبقاع (رأس العين وزحلة).
إن الاستعمال غير القانوني وغير المنضبط لمياه الصرف غير المعالجة، بشكل مباشر أو غير مباشر، ممارسة شائعة في بعض أنحاء لبنان يعود تاريخها الى الأزمنة القديمة. ولا تُحترم القيود المفروضة على المحاصيل. وقلما يتبع المزارعون أو العمال التوصيات المتعلقة بالصحة العامة، وكثيراً ما يهملون انتعال أحذية عالية الساق وقفّازات وقائية.
وقد أظهرت التجربة أن التماس مع مياه الصرف المعالجة ثانوياً يمكن أن يثير الحساسية وأمراضاً جلدية ومَعِدية ـ معوية. واستهلاك منتجات رُويت بمياه صرف غير معالجة يمكن أن يعرض المستهلكين لمخاطر صحية لا يستهان بها. ومياه الصرف غير المعالجة التي تستعمل لري منتجات وخضار تؤكل غير مطبوخة يمكن أن تسبب انتقالاً لأمراض دودية تسببها مثلاً دودة الصَّغَر (Ascaris) والدودة السوطية (Trichuris). وقد أظهرت أدلة كثيرة أن الكوليرا يمكن أن تنتقل بالطريقة ذاتها. ولتجنب تفشي هذه الأمراض، يجب معالجة مياه الصرف بالشكل المناسب لتتماشى مع نوع المحصول الذي يجب أن يُروى وفق اجراءات الوقاية الصحية المكيفة.
في سورية، تستأثر محطتا دمشق وحمص لمعالجة مياه الصرف بأكثر من 98 في المئة من كل مياه الصرف المعالجة، إذ تبلغ قدرة الأولى 177 مليون متر مكعب في السنة والثانية 49 مليون متر مكعب في السنة. وقد تدخل حيز التشغيل محطات جديدة هي قيد الانشاء في مدن أخرى مثل حلب واللاذقية. ووفق منظمة الصحة العالمية عام 2005، يعاد استعمال نحو 177 مليون متر مكعب من مياه الصرف المعالجة سنوياً لري 9000 هكتار في دمشق.
وتنتج مصر نحو 3,5 بليون متر مكعب من مياه الصرف البلدية سنوياً، بينما قدرة المعالجة الحالية هي في حدود 1,6 بليون متر مكعب. وتُستهدف قدرة معالجة اضافية تبلغ 1,7 بليون متر مكعب بحلول سنة 2017، لكنها لن تكون كافية لتلبية الزيادة المستقبلية في إنتاج مياه الصرف من مصادر بلدية، ولذلك لا يتوقع انخفاض الأحمال غير المعالجة التي ستصل الى الأجسام المائية. وتنتج منطقة الدلتا وحدها أكثر من بليوني متر مكعب في السنة، غالبيتها ناشئة من أكبر مركزين مُدُنيين في مصر هما القاهرة والاسكندرية. وتخدم محطات المعالجة 55 في المئة من سكان القرى والمدن. ويعاد استعمال معظم مياه الصرف المعالجة لري المحاصيل الغذائية والصناعية والوقودية والتجميلية والحزام الأخضر والغابات والأشجار على الطرق الصحراوية. ويُفترض تنظيم اعادة استعمال المياه في مصر بناء على المرسوم 2000/44 الذي يحدد نوع التربة وطريقة الري والمحاصيل التي يمكن ريها.
قيود سياسية
لا يوجد التزام سياسي ولا سياسة أو استراتيجية وطنية لدعم معالجة مياه الصرف واعادة استعمالها في معظم البلدان العربية.
في المغرب مثلاً، بالاضافة الى القيود المالية وانعدام الوعي لدى مؤسسات السلطات الحكومية، لا توجد سياسة وطنية لاعادة استعمال مياه الصرف. ومؤخراً، تم اطلاق خطة رئيسية وطنية للخدمات الصحية بغية حماية موارد المياه. وبمساعدة من منظمات دولية، خصص المغرب موازنة تبلغ نحو أربعة بلايين يورو (اليورو حالياً نحو 1,4 دولار) لمشاريع صرف صحي سيتم انجازها بحلول سنة 2015. وقد أظهرت تجارب اختبارية لري محاصيل متعددة (خضار، أعلاف، حبوب، نباتات زينة) فائدة استعمال مياه الصرف المعالجة في زيادة انتاج المحاصيل وتوفير الأسمدة وحماية البيئة. لكن الخبرة المكتسبة ولدت قليلاً مـن التقدم فـي الممارسة نتيجة قيود سياسية. وفي العام 2008، أطلقت الحكومة المغربية مشاريع متعددة لاعادة الاستعمال، ركزت أساساً على توفير مياه الري لملاعب الغولف ولأغراض تجميل المناظر الطبيعية في مدن مراكش وبنسليمان وأغادير، تغطي مساحة 3000 هكتار.
ينزع كثيرون في المنطقـة العربيـة الى الشك في سلامة استعمال مياه الصرف المعالجة لأنهم غير متأكدين من نوعيتها. وإذ تتوافر مياه الصرف غير المعالجة مجاناً، يصعب إقنـاع المزارعين بدفـع رسـوم مقابل ميـاه مستصلحـة يعتبـرون أنهـا ليست ذات نوعيـة جيـدة. وتشير مشاريع عـديدة الى أن الطلب علـى المياه المستصلحة من قبل المزارعين هو أدنى عموماً من الطلب علـى مصادر مياه عذبة بديلة. هذا الارتياب يبدو جليـاً فـي تونس، حيث السعر الذي يفرض على المزارعين مقابل مياه الصرف المستصلحة هـو أدنى أربع مرات مـن سعر المياه العذبة. ولعل العائق الأهم عدم جواز استعمال المياه المستصلحة لري محاصيل عالية القيمـة، ما يثبط عزيمة نحو نصف المزارعين المعنيين. وقد تبين أن القبول الاجتماعي والأنظمة الخاصة بخيارات المحاصيـل والاعتبـارات الزراعيـة الأخـرى تؤثـر بقـوة على القرارات المتعلقـة باعادة استعمال المياه.
في فلسطين، تصطدم مشاريع اعادة استعمال مياه الصرف في الضفة الغربية بعقبات سياسية، إضافة الى العقبات المالية والاجتماعية والمؤسساتية والتقنية. وهي لا تزال مرتبطة بالحقوق المائية الفلسطينية، لأن اسرائيل تعتبر مياه الصرف المعاد استعمالها جزءاً من مجموع الحصة الفلسطينية في المياه العذبة. وما زالت تُفتقد رؤية متكاملة تشمل الجوانب السياسية والمؤسساتية والسياسة المائية والتوعية والتسويق والتعرفات.
لهذه الأسباب جميعاً، تتطلب إعادة تدوير مياه الصرف في البلدان العربية التزاماً حكومياً طويل الأجل. ويجب تكريس جهد أكبر لانتاج مياه صرف معالجة جيدة النوعية تستعمل في الري غير المقيّـد، مع تعزيز الوعي الجماهيري والامتثال التنظيمي والمراقبة.
التأثيرات الصحية والأمان البيئي
يُعتقد أن المخاوف على الصحة البشرية والبيئة هـي أهم القيود التي تعيق اعادة استعمال مياه الصرف المعالجة. والحال في كثير من الأحيان أن محطات المعالجة في البلدان العربية لا تعمل بشكل مرض، وفي معظم الحالات يتجاوز المحتوى الجرثومي للمياه المعالجة الحدود القصوى المقبولة قانونياً وصحياً. وهذا يعزى الى عدم وجود موظفين مدربين يملكون مهارات تقنية لتشغيل هذه المحطات، فضلاً عن الافتقار الى موازنة كافية للصيانة.
يسبب الري بمياه صرف معالجة بشكل غير كاف مخاطر صحية جدية، نظراً الى أنها مصدر رئيسي لكائنات ممرضة موجودة في البراز، مثل الجراثيم والفيروسات والأوليات والديدان التي تسبب أمراضاً مَعِديّة ـ معوية لدى البشر. كذلك يسبب استعمال هذه المياه مخاطر مباشرة وغير مباشرة على الصحة البشرية نتيجة استهلاك محاصيل وأسماك ملوثة. والمزارعون الذين هم على تماس مباشر مع مياه الصرف والتربة الملوثة معرضون أيضاً للخطر، كما يمكن أن تصاب المواشي بأمراض تنقلها هذه المياه.
مياه الصرف في المنطقة العربية محمَّلة بمواد إضافية قد تكون مضرة، مثل المعادن الثقيلة وملوثات عضوية وغير عضوية، ومواد صيدلانية، وهذه يجب ازالتها جميعاً قبل اعادة استعمال مياه الصرف. كما قد يتعين إزلة مكونات غير عضوية ذائبة، مثل الكالسيوم والصوديوم والكبريتات. ويشكل تصريف مجاري المياه الصناعية غير المعالجة في شبكة الصرف الصحي عبئاً إضافياً على نوعية المياه المعالجة، التي في النهاية سوف يعاد استعمالها في الزراعة. وهذه هي حال صناعات مصائد الأسماك في أغادير بالمغرب، إذ تصرِّف أحمالاً كبيرة من الملح الذي يزيد ملوحة المياه المعالجة في محطة لمزار.
ومن حيث الأمان البيئي، قد يؤدي الري العشوائي بمياه الصرف الى مشاكل مثل تدهور بنية التربة، خصوصاً تكتلها نتيجة ارتفاع محتوى الجوامد العالقة في المياه المعالجة، مما يتسبب برداءة الترشيح وتملح التربة وتسمم النبات. وفي الأردن، ما زالت مستويات الملح في التربة تميل الى الازدياد في بعض المناطق التي رُويت بمياه صرف معالجة، ويُنسب ذلك الى ملوحة مياه الصرف، فضلاً عن سوء ادارة العمل في المزارع. ويعني ارتفاع الملوحة أن بعض المحاصيل الأقل مقاومة لا يمكن ريها بمياه الصرف.
وتشمل التأثيرات البيئية المحتملة للري بمياه الصرف تلوث المياه الجوفية والسطحية، فضلاً عن تدهور الموائل الطبيعية والنظم الايكولوجية. في تونس، على سبيل المثال، العائق النوعي البيئي الرئيسي لإعادة استعمال مياه الصرف هو ارتفاع مستوى النيتروجين فيها.
المقاييس والأنظمة
ثمة عنصر مهم في معالجة مياه الصرف واعادة استعمالها بشكل مستدام هو صياغة مقاييس وأنظمة يمكن تنفيذها. المقاييس غير الواقعية والأنظمة التي يتعذر تنفيذها قد تسبب ضرراً أكثر من غياب المقاييس والأنظمة، لأنها تُحدث وضعاً من اللامبالاة تجاه القواعد والأنظمة عموماً، لدى الملوِّثين والإداريين على حد سواء. فعلى سبيل المثال، قد تكون كلفة معالجة مياه الصرف وفق مقاييس ميكروبيولوجية عالية عائقاً كبيراً، الى حد السماح باستعمال مياه الصرف غير المعالجة لتلبية أهداف الإنتاج الزراعي.
تُبنى المقاييس والأنظمة عادة على ممارسات دولية. وتُبنى معظم مقاييس إعادة استعمال مياه الصرف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الخطوط التوجيهية الصادرة إما عن وكالة حماية البيئة الأميركية وإما عن منظمة الصحة العالمية. لكن في بعض الحالات هناك حاجة لوضع مقاييس وخطوط توجيهية أكثر تكيفاً تأخذ في الاعتبار ظروف كل خطة وكل بلد.
لقد طورت بعض بلدان المنطقة خطوطاً توجيهية صحية لاعادة استعمال مياه الصرف، كما يبين الجدول ـ 2. على سبيل المثال، تبنت البحرين والأردن والمغرب، كلياً أو جزئياً، الخطوط التوجيهية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة. وتبنت بلدان أخرى، مثل الكويت وعُمان والسعودية والامارات، خطوطاً توجيهية مماثلة لتلك المعمول بها في بعض الولايات الأميركية (حيث معدل البكتيريا القولونية البرازية يجب أن يقل عن 2,2 مستعمرة في كل 100 مليليتر). وقد أرست هذه البلدان البنية التحتية الخاصة بالمعالجة واللازمة لتحقيق هذه المتطلبات. وفي حين أن بلداناً أخرى تستخدم قوانين الصحة العامة الوطنية لتنظيم ممارسات اعادة الاستعمال، تفتقر بعض البلدان الى أي نوع من الخطوط التوجيهية التنظيمية.
اعتمدت البلدان العربية مناهج مختلفة لحماية الصحة العامة والبيئة. لكن العامل الرئيسي الذي يسيِّر استراتيجية تنظيمية لاعادة استعمال مياه الصرف هو العامل الاقتصادي، خصوصاً كلفة المعالجة والمراقبة. وقد وضعت غالبية بلدان مجلس التعاون الخليجي خطوطاً توجيهية أو مقاييس منخفضة المخاطر بشكل وقائي (مثل مقاييس كاليفورنيا) مبنية على مفهوم تكنولوجيا متقدمة ذات كلفة عالية. لكن المقاييس العالية وتكنولوجيات الكلفة العالية لا تضمن دائماً انخفاض المخاطرة، لأن الخبرة التشغيلية غير الكافية وارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة والاشراف التنظيمي قد تكون لها تأثيرات سلبية.
وتفضل البلدان العربية المنخفضة الدخل استراتيجية أخرى لضبط المخاطر الصحية من خلال اعتماد تكنولوجيا منخفضة بكلفة منخفضة، بناء على توصيات منظمة الصحة العالمية. ويجب التنبه أيضاً لحالات تكون فيها الأنظمة القائمة غير كافية للتعامل مع حاجة نشاطات اعادة استعمال المياه. في مصر مثلاً، ينص القانون على مقاييس صارمة لاعادة الاستعمال المباشر، كما أن أنواع المحاصيل التي يمكن ريها بمياه صرف معالجة محدودة جداً. لكن أياً من هذه الأنظمة الصارمة لا ينطبق على إعادة الاستعمال غير المباشر لمياه الصرف بواسطة قنوات التصريف الزراعية، التي هي ممارسة شائعة في مصر. هنا، القوانين ذات الصلة تنظم فقط المقاييس الخاصة بالتفريغ في قنوات التصريف الزراعي. وعملياً، لا تتقيد نوعية المياه المعالجة في كثير من محطات المعالجة وأجهزة التفريغ المباشر بهذه المقاييس. كما لا تنص القوانين على أي قيود تتعلق بالمحاصيل التي تروى بمياه قنوات التصريف.
ممارسات عربية
يمكن تقسيم البلدان العربية الى ثلاث فئات رئيسية وفقاً لممارسات التخلص من مياه الصرف:
الفئة الأولى تشمل البحرين وعُمان والسعودية وقطر والكويت والإمارات. تتبع جميع البلدان في مجلس التعاون الخليجي طرقاً مماثلة للتخلص من مياه الصرف. ويعاد استعمال نسبة عالية بعد معالجة لاحقة في ري الأراضي الزراعية أو في تجميل المناظر الطبيعية، بينما يتم التخلص من البقية في البحر بعد خطوات من المعالجة المتقدمة. هذه الممارسة شائعة في منطقة الخليج بسببب توافر محطات معالجة متقدمة ومجهزة جيداً. وتُتبع مقاييس نوعية صارمة قبل التخلص وإعادة الاستعمال، لكن يعتقد أنه يمكن تخفيف بعض المعايير من أجل استعمال كامل للمياه المعالجة ثانوياً التي تتزايد كميتها باستمرار.
الفئة الثانية تشمل مصر والعراق والأردن والمغرب وسورية. وتتبع هذه البلدان أنظمة معتدلة للتخلص من مياه الصرف، لكن المياه الناتجة من محطات المعالجة لا تفي بالمقاييس الوطنية أو الدولية. وهذا قد يكون ناتجاً من تواضع القدرات أو من عدم قدرة محطات المعالجة القائمة على تلبية أحمال كبيرة من مياه الصرف الداخلة اليها. لذا يتم تصريف نسبة عالية من المياه الناتجة في أجسام مائية سطحية لاستعمالها لاحقاً في الري. وتحدد الأنظمة في هذه البلدان أنواع المحاصيل التي يمكن ريها بهذه المياه المعالجة، كما يجوز استعمالها لتجميل المناظر الطبيعية أو لأغراض صناعية. وفي حين لا يُسمح بالتخلص من مياه الصرف غير المعالجة في الوديان أو تفريغها في الأراضي، يبدو أن هناك خرقاً لهذه الأنظمة في المناطق الريفية المحرومة من شبكات المجاري.
الفئة الثالثة تشمل الضفة الغربية واليمن ولبنان، حيث يتم التخلص من جزء كبير من مياه الصرف في الوديان والأنهار، وبالتالي تستعمل لري الأراضي الزراعية بلا معالجة. وقلما يُعطى للعمال والمنتجات والتربة واحتمال تلوث المياه الجوفية أي اعتبار يتعلق بالاشراف البيئي والصحي. وفي اليمن، تُستعمل مياه الصرف للري حيثما وجدت.
إن مراقبة نظم اعادة استعمال مياه الصرف في كثير من البلدان العربية هي مخالفة للأصول وغير متطورة بشكل جيد. والأسباب الرئيسية ضعف المؤسسات، ونقص الموظفين المدربين، والافتقـار إلـى معدات المراقبة، والارتفـاع النسبي فـي الكلفة التـي تتطلبها عمليات المراقبة. وقد يسبب إهمال اجراءات المراقبة المنتظمة تأثيرات خطيرة على الصحة ونوعية المياه والاستدامة البيئية. وبالاضافة الى ذلك، مـن المهم ادخال اجراءات تقنية وتنظيمية تصدر بشكل منهجي وموثوق تحذيراً الـى مديري اعادة استعمال هـذه المياه بحدوث أعطال وشيكة فـي تشغيل محطة معالجة مياه الصرف، تفادياً لتدفق المياه غيـر المعالجة فـي شبكة التوزيع.
اختيار تكنولوجيا المعالجة المناسبة يمكن أن يخفف مشاكل التمويل والمراقبة. فمحطات مياه الصرف تحتاج عموماً الى رساميل كبيرة ومشغلين متخصصين ومدربين جيداً. لذلك، قبل اختيار تكنولوجيا معالجة مياه الصرف والاستثمار فيها، يجب القيام بتحليل لفاعلية الكلفة وتقييمها مقابل الخيارات المتوافرة الأخرى. والحلول البسيطة التي يمكن تشغيلها وصيانتها من قبل قوة عمل محلية مدربة تعتبر غالباً الأكثر ملاءمة واقتصاداً بالكلفة. ويجب أن يعتمد اختيار التكنولوجيا على نوع اعادة الاستعمال، وكذلك انتقاء خيار إعادة الاستعمال على أساس معقول. المياه المستصلحة هي مورد مائي قيّم، لكنه محدود، ويجب أن تكون التكاليف الاستثمارية متناسبة مع قيمة المورد.
إضافة الى ذلك، يجب أن يكون موقع اعادة الاستعمال أقرب ما يمكن من مرافق معالجة مياه الصرف وتخزينها. كما يجب أن تكون تكنولوجيات المعالجة مستدامة بيئياً ومناسبة للأوضاع المحلية ومقبولة من المستخدمين ويمكن احتمالها من قبل أولئك الذين عليهم أن يدفعوا مالاً مقابل الحصول عليها.
وعلى الدول العربية أن تخصص الأموال اللازمة لدعم الأبحاث التطبيقية المخصصة لتطوير عمليات معالجة مستدامة لمياه الصرف، قابلة للتكيف مع الأوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية والمناخية في المنطقة.
كادر
خطوط توجيهية لإدارة مياه الصرف في البلدان العربية
الجوانب السياسية والتنظيمية
تحتاج اعادة استعمال مياه الصرف المعالجة في المنطقة العربية الى دعم سياسي قوي وتطوير استراتيجيات مناسبة تعزز اعادة الاستعمال في سياق خطة شاملة لادارة موارد المياه في كل بلد. ويجب تنفيذ مقاييس تتماشى مع الأنظمة القائمة أو الجديدة لحماية البيئة ووقاية صحة المستهلك. والبلدان العربية مطالبة بالحاح بأن تطور خطة عمل شاملة لاعادة استعمال مياه الصرف المعالجة، على أن تكون لها أدوار تنفيذية محددة بوضوح. ويجب اعادة النظر بالخطة وتكييفها دورياً كلما تم اكتساب معارف.
الصحة والبيئة
تونس والأردن هما مثلان جيدان على البلدان التي اتخذت خطوات مهمة باتجاه كسب دعم سياسي لاعادة استعمال مياه الصرف. وجدير بالذكر أن هذين البلدين حققا أعلى معدلات إعادة استعمال مياه الصرف في المنطقة حتى الآن.
لتخفيف المخاطر الصحية والبيئية، يجب أيضاً وضع قواعد ومقاييس مشتركة لاعادة استعمال مياه الصرف المعالجة في المنطقة العربية. وفي هذا السياق، من المهم التقيد بالمعايير الاطارية التي نصت عليها الخطوط التوجيهية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، وتكييفها لتتماشى مع الأوضاع المحلية في كل بلد عربي. ويجب تقييم خيارات قابلة للتطبيق قائمة على مستويات معالجة مختلفة واستعمالات نهائية مختلفة لمياه الصرف (بما في ذلك المحاصيل الغذائية وغير الغذائية أو تجميل المناظر الطبيعية أو تجديد المياه الجوفية) بغية تحديد المعايير الخاصة بالقبول الاجتماعي.
وإضافة الى المتطلبات الإلزامية، يوصى بوضع أفضل الممارسات لاستعمال مياه الصرف في مختلف البلدان في تطبيقات متنوعة، على أن تتضمن نصوصاً معينة من أجل عدم إفساد نوعية المياه الجوفية، ومنع الارتشاح من الخزانات، واختيار فترات التطبيق بناء على أحوال الطقس. كما يجب أن تشمل اختيار معايير للمحاصيل ولطرق الري المناسبة. ويعتمد خيار طريقة الري بمياه الصرف على نوعية المياه المعالجة، والمحاصيل التي يجب زرعها، وتقاليد المزارعين وخلفياتهم ومهاراتهم، وعلى الخطر المحتمل الذي يهدد المستخدمين والصحة العامة. وتوفر تقنيات الري المركزية (بالفوارات والتنقيط والنضيض) أقصى حماية صحية للمزارعين لأنها توصل مياه الصرف مباشرة الى النباتات.
كان الأردن من أوائل البلدان العربية التي تبنت الخطوط التوجيهية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة بشأن اعادة استعمال المياه المعالجة في الري. وبدعم من مشروع المياه المستصلحة، تم اقتراح خطوط توجيهية اضافية لنوعية مياه الري ونوعية المحاصيل، ولنظم المراقبة والمعلوماتية. كما أن المشروع طور خطوطاً توجيهية زراعية من أجل الاستعمال المأمون للمياه المستصلحة في وادي الأردن، بهدف تخفيض استعمال الأسمدة التجارية والتكاليف المرتبطة بها. واضافة الى ذلك، ساهم تنفيذ نشاطات المراقبة بمزيد من الشفافية في ما يتعلق بالصحة والتأثيرات البيئية للري بمياه مستصلحة.
هناك حاجة أيضاً لخطط مفصلة لتخفيض كمية المواد أو العناصر أو المركبات التي قد تكون خطرة وتنتهي في المجرور، ومن ثم في مياه الصرف أو في الحمأة (الرواسب). وتنجم هذه المواد الكيميائية عن الاستعمال اليومي لمنتجات التنظيف والمطهرات ومستحضرات العناية الشخصية والأدوية. لذلك، يجب تزويد المستهلكين بمعلومات حول خطورتها وكيفية التخلص منها بطريقة لا تلوث مياه الصرف.
ادارة الطلب على المياه
ان استراتيجيات ادارة الطلب على المياه والحفاظ عليها هي المناهج الأقل كلفة لتخفيض السحوبات. لذلك، لكي تفي اعادة الاستعمال بالمراد، يجب أن تكون جزءاً من استراتيجية مائية أكبر تدير الطلب بفعالية. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك محطة الصليبية لمعالجة مياه الصرف في الكويت، التي سوف تساهم بنسبة 26 في المئة من مجموع الطلب على المياه.
ويجب تكييف اعادة استعمال مياه الصرف وفق خطة يسيرها الطلب من خلال التركيز على مشاريـع تلتزم باعادة الاستعمال. وهناك مثال جيد على ذلك توضحه الشراكة بين مصلحة توزيع المياه في مراكش (RADEEMA) وحكومة المغرب ومالكي 24 ملعب غولف، بحيث تساهم مصلحة التوزيع بمبلغ 46,7 مليون دولار، ومالكو ملاعب الغولف بـ36,7 مليون دولار، والدولة بـ16,1 مليون دولار. وسوف تنتج المحطة 24 مليون متر مكـعب من مياه الصرف المعالجة ثلاثياً التي سوف تستعمل للري. ومثال جيد آخر هو الشراكة القائمة بين ملاعب الغولف في أغادير ومراكش ومصالح المياه في هاتين المدينتين المغربيتين، لتزويدها بمياه صرف معالجة مستمرة. والطلب على مياه الصرف المعالجة يدفعه شح هذا المورد في مراكش وارتفاع ملوحة المياه الجوفية في منطقة أغادير.
التوعية
على البلدان العربية أن تطور إطاراً لنشر المعرفة المكتسبة من مرافق معالجة مياه الصرف القائمة في المنطقة العربية. ويؤدي تقاسم المعرفة الى تحسين توافر المعلومات حول الفوائد الاقتصادية والمالية، وأحجام مياه الصرف المعالجة والمعاد استعمالها، والفوائد التي يجنيها النظام الاقتصادي المائي، واستعادة كلفة نظم اعادة استعمال المياه.
ويجب على صانعي السياسة تطوير خطط وحملات توعية ذات أبعاد وطنية لنشر ثقافة استعمال مياه الصرف المعالجة، ونقل المعلومات الحديثة حول تكنولوجيات التصنيع وحماية المحاصيل الملائمة الى السلطات المسؤولة والى المستخدمين النهائيين.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
اضف تعليق |
|
|
|
|
|
|