رسالة وزارة البيئة اللبنانية في 8 نيسان (أبريل) 2002 الى مصنع هولسيم للاسمنت (شركة الترابة اللبنانية)، التي وصفت دراسة الشركة حول استخدام الاطارات المستعملة كوقود جزئي بـ"المقبولة"، مع "ملاحظات تفصيلية"، ضاعفت من من حالة الهلع لدى سكان شكا ومنطقة الكورة في شمال لبنان. فسوابق التلوث من المصانع في منطقتهم غير مشجعة، حيث تنتشر الأمراض الصدرية والسرطان والحساسية بمعدلات مرتفعة تتطلب تفسيراً. ويمكن مشاهدة الغبار بالعين المجردة في سماء المنطقة، كما يمكن للغواصين معاينة طبقات من الترسبات الكلسية في مياه شواطئها، شبيهة بكثبان الثلج، ناتجة عن سنوات من رمي فضلات مصنع للاسمدة الكيماوية.
وتأتي مشكلة حرق الاطارات في خضم معركة تخوضها بلديات المنطقة لضبط استخدام مادة البتروكوك في مصانع الاسمنت. فسؤولو البلديات يعتمدون على قياسات حصلوا عليها تظهر نسبة تلوث مرتفعة في هواء المنطقة، ليتهموا حرق البتروكوك بالتسبب في انتشار حالات المرض والموت بالسرطان. وترد صناعة الاسمنت بقياسات تولت هي إجراءها، تظهر أن وضعها سليم ونسبة الانبعاثات منها تقل كثيراً عما هو مسموح عالمياً. وقد وصل الأمر بلجنة البيئة في بلديات الكورة وشكا الى التقدم بشكوى ضد مدير عام وزارة البيئة، بتهمة تبرئة ساحة مصنع للاسمنت وطلب وقف تسطير محاضر مخالفات بحقه، لعدم وجود تلوث منه. وتستند لجنة البيئة البلدية في شكواها الى أن الوزارة لم تقم بإجراء فحوصات مستقلة تؤكد هذا، بل اعتمدت على المشاهدة البصرية وأرقام المصنع نفسه، لتؤكد في كتابها أن "كل مستويات الانبعاثات الملوثة الخاضعة للرقابة كانت تحت الحدود المقبولة". وكان المطلوب القيام بقياسات لفترة طويلة من قبل مؤسسة علمية مستقلة، وعدم الاكتفاء بأرقام المصنع. علماً أن أحد المصانع المشكو منها رحّب باجراء فحوصات من هيئة مستقلة، لثقته بسلامة الانبعاثات من أفرانه. وحتى اليوم لا يوجد تقرير مستقل موثوق عن وضع تلوث الهواء من مصانع شكا.
عبر غبار معركة البتروكوك، برزت قصة حرق إطارات المطاط المستعملة. فهل وزارة البيئة مؤهلة لمراقبة هذا النوع من الحرق الملوث؟ ليست تقنية حرق الاطارات في مصانع الاسمنت بجديدة، لكن استخدامها في العالم محصور في مناطق قليلة وضمن شروط صارمة. ويقول مؤيدو هذه التقنية ان الكبريت الذي ينتج عن حرق الاطارات يمكن اعادة استخدامه في صناعة الاسمنت أيضاً، عدا عن التوفير في الطاقة. لكن نسبة الملوثات الناجمة عن حرق الاطارات عالية جداً، خاصة الديوكسين والرصاص وبعض المواد الهيدروكربونية، إذ تصل الى أضعاف كمية الملوثات نفسها من أنواع الفيول والفحم الحجري المستخدمة في أفران مصانع الاسمنت. وهذا يتطلب تدابير حماية مضاعفة خاصة ورقابة دقيقة. وقد استغربت منظمة "غرينبيس" التساهل في هذا الموضوع مع إعلان قرب تصديق لبنان على اتفاقية استوكهولم حول الحد من الملوثات العضوية الثابتة، التي يعتبر الديوكسين من أهمها. والمعروف أن نسبة الديوكسين مرتفعة جداً حول مصانع الاسمنت في شكا حتى قبل البدء بحرق اطارات المطاط. ومن المعروف أيضاً أن لا أجهزة متوافرة محلياً لقياس مستويات الديوكسين.
في البلدان حيث يسمح باستخدام الاطارات كوقود، تعطى فترة تجريبية لرقابة شديدة. ومع أن كتاب وزارة البيئة اشترط فترة تجريبية مدتها ستة أشهر، يشكك المطلعون بقدرة الوزارة على المراقبة. ففي بريطانيا تم منع مصنع اسمنت من حرق الاطارات، بعد شهور قليلة من بدء الفترة التجريبية التي أعطيت له، لعدم تمكنه من الالتزام بحدود الانبعاث. فمن يتولى مراقبة انبعاثات حرق الاطارات في لبنان؟ وتعترض بلديات المنطقة على اعطاء الوزارة "موافقة مبدئية" مع أنها تذكر في الكتاب نفسه مجموعة مشاكل ومعوّقات ونواقص، كانت وحدها كافية، في رأيهم، لرفض الترخيص.
ويقول المعترضون على حرق الاطارات إن السبب الحقيقي لاعتماد هذه التقنية هو التوفير في كلفة الانتاج، اذ إن صناعة الاسمنت تتطلب كميات ضخمة من الطاقة، وليس وراء العملية إطلاقاً رغبة في تدوير اطارات المطاط كنفايات مفيدة. فهناك أساليب أجدى كثيراً لتدوير الاطارات المستعملة، منها إعادة تلبيسها واستعمالها، أو فرمها وطحنها لفصل المعادن والخيوط والمطاط، واعادة استعمال كل هذه الأجزاء في صناعات مفيدة غير الحرق.
وقد أوضح خبير عالمي في تلوث الهواء لـ"البيئة والتنمية" أن حرق الاطارات المطاطية عملية ملوثة جداً لا ينصح باستخدامها الا بقيود شديدة. ويؤكد أنه "اذا تم تركيب الأجهزة اللازمة لتنقية الانبعاثات الكثيفة الصادرة عنها، تصبح العملية غير مجدية اقتصادياً". وفي حين يبني البعض حساباتهم على أن الاطارات المستعملة يجب دفع ثمنها، ففي الدول التي تطبق أنظمة بيئية متطورة، يفرض على أصحاب الاطارات المستعملة أن يدفعوا رسماً لقاء التخلص منها، ويستخدم هذا الرسم لدعم الجدوى الاقتصادية لتدوير الاطارات.
وفي خضم كل هذه الآراء، يؤكد الخبراء الحاجة إلى رأي علمي من مؤسسة مستقلة، بحيث يخرج موضوع البيئة من الافتراضات الى الوقائع. وهذا يحمي الصناعة النظيفة والناس، كما يعطي الأساس الثابت لقرارات المؤسسات الرسمية.
هواء قاتل وبحر ميت
منطقة الكورة تعاني منذ سنوات طويلة مشاكل بيئية خطيرة، ناتجة أساساً عن صناعات قائمة على الشاطئ الذي ترتفع فوقه تلال قرى القضاء. فعلى هذا الشاطئ تقع مصانع اسمنت وأسبستوس ومواد كيميائية، تؤمن فرص عمل لعدد كبير من سكان المنطقة. لكن الضريبة التي يدفعها الناس من صحتهم كبيرة أيضاً. فالامراض التنفّسية منتشرة، وحالات السرطان تتزايد، والشاطئ المقابل لمصنع الكيميائيات أشبه ببحر ميت.
في هذه الأجواء، قرر تجمّع بلديات الكورة إنشاء لجنة بيئية، ضمت ستة من رؤساء بلديات القضاء، إضافة الى رئيس بلدية شكا الساحلية المجاورة التي تقع فيها مصانع الاسمنت. وحاولت اللجنة، منذ قيامها قبل ثلاث سنوات، التصدي للوضع البيئي المتدهور. وفي غياب القياسات والاحصاءات الرسمية الدقيقة، اعتمدت على ما توفّر من معلومات وما يمكن ملاحظته بالعين المجردة.
يقول كمال مليّس، رئيس بلدية بترومين وعضو لجنة البيئة، إن قياسات مختبرات جامعية أظهرت أن نسبة ثاني أوكسيد الكبريت وثاني أوكسيد النيتروجين والغبار في هواء بعض قرى المنطقة تتجاوز الحد المسموح به بأضعاف. وأمام انعدام احصاءات وزارة الصحة حول الموضوع، جمعت لجنة البيئة البلدية معلومات عن أسباب الوفيات من رجال الدين في المنطقة، كانت نتائجها مذهلة. فقد تبين أن نسبة الذين يموتون بالسرطان تصل الى 70 في المئة في بعض القرى. وتراوحت نسبة الموت بسبب السرطان في عامي 1999 و2000 بين 57% في فيع، و53% في شكا، و50% في بترومين، و46% في بطرام. وهذا يفوق ضعفي المعدل العام، حيث تتركز الاصابات في المناطق المحيطة التي يصلها دخان المصانع مباشرة في الاتجاه الجنوبي الغربي. ولا يقتصر الأمر على السرطان، إذ تعم المنطقة أمراض صدرية وجلدية وحساسية متنوعة.
وتقول لجنة البيئة البلدية ان من أسباب التلوث الرئيسية استعمال مادة البتروكوك في صناعة الاسمنت في شكا، وهي مادة يتم انتاجها من نفايات صناعة البترول. واستعمالها في العالم محصور في المصانع البعيدة عن المناطق السكنية، وفق شروط صارمة تفرض انشاء مصانع ثانوية لتنقية الملوثات. وتؤكد اللجنة أن شروط السلامة هذه غير متبعة بدقة في حالة مصانع شكا، إضافة الى تخزين البتروكوك في مستودعات مكشوفة بين البيوت السكنية وفوق منابع المياه الجوفية. كما يتبين من احصاءات لجنة البيئة ان الاصابات بالسرطان تزايدت منذ بدأ استخدام البتروكوك كوقود. وتحذر من أن مصانع أخرى بدأت بتحويل آلاتها الى العمل على البتروكوك بدل الفيول، بسبب تدني كلفة التشغيل.
تركزت صناعة الاسمنت والكلس والأسبستوس (الاميانت) في شكا لأن التربة فيها ممتازة لهذا النوع من الصناعات، حسب فرج الله الكفوري رئيس بلديتها. ويضيف: "نتيجة هذه الميزة، خسرت هذه البلدة الساحلية التي يبلغ تعداد سكانها 20 ألف نسمة كل مزاياها الجميلة الاخرى. فقد خسرت شاطئها وجبلها وزراعتها، ودفع السكان الضريبة من صحتهم وحياتهم وأرزاقهم".
ويشير رئيس بلدية شكا على وجه الخصوص الى اخطار استعمال مادة البتروكوك من قبل مصانع الترابة. وينبه الى كارثة وجود نحو 50 ألف طن من هذه المادة مرمية بين منازل البلدة وعلى بُعد أمتار من نوافذ السكان، مما يجعل المشكلة تبدأ في التخزين قبل أن تصل الى انبعاثات الحرق. وإذ يؤكد أن مادة البتروكوك تحوي نسبة 6% من الكبريت، يتساءل: من سمح للشركة بهذا الأمر؟ "علماً ان الترخيص لبناء بيت دجاج يفرض ان يكون بعيداً ألف متر عن المناطق المأهولة لينال الترخيص". ويتابع: "أي قانون هذا وأي عدالة تلك، لقد كانت المنطقة مصنفة سكنية ثم صارت مصنفة سياحية وصناعية، وحصل أصحاب المصنع على مرسوم يبيح لهم وضع البتروكوك بين البيوت في الهواء الطلق".
بلديات الكورة وشكا طالبت باجراء فحوصات علمية لتحديد مكامن المشكلة واتخاذ إجراءات تصحيحية، لكن الأهالي ولجنة البيئة البلدية يؤكدون أن الوضع تفاقم نحو الأسوأ، فاستمر انتشار الملوّثات واستمرت الأمراض والوفيات.
في مواجهة هذه الحلقة المفرغة، لجأت بلدية شكا الى استخدام صلاحيتها المحلية في تسطير محاضر مخالفة بحق المصانع، بقيت فعاليتها موقتة. ويعترض أصحاب المصانع على ممارسة البلدية المحلية في هذا المجال، إذ ما هي الخبرة العلمية لشرطي بلدي في تحديد نسبة الملوثات من مداخن مصنع اسمنت وتسطير مخالفات ضده وإيقافه عن العمل اعتباطياً؟ وردّ رؤساء البلديات مطالبين وزارة البيئة باجراء فحوصات من جهات علمية مستقلة، بالتعاون مع البلديات، وإعلان النتائج للرأي العام. ويبدو أن هذا لم يحصل، لأن الوزارة لا تملك التجهيزات لاجراء الفحوصات المطلوبة، فاعتمدت في تقاريرها على الأرقام التي قدمتها المصانع نفسها. غير أن الرئيس التنفيذي لشركة الترابة الوطنية بيار ضومط، وهي معنية مباشرة بالمسألة، طالب بتكليف جهة مستقلة إجراء الفحوصات على انبعاثات مصنعه، لأنه يعتقد أنها ضمن المستويات المقبولة. لكن الوضع استمر على ما هو عليه، وبقيت التقارير الرسمية تعتمد على التقديرات.
الترابة الوطنية:
الانبعاثات أقل من المسموح
يؤكد ضومط أن شركته تلتزم بمعايير صارمة في إنتاجها، "وهي لم تحصل على قروض من "مؤسسة التمويل الدولية" (IFC) التابعة لمجموعة البنك الدولي إلا طبقاً لمواصفات دقيقة وضعت قيوداً على أساليب التصنيع وفرضت شروطاً لسلامة العمال والبيئة المحيطة". وأبرز ضومط رسالة من المؤسسة تاريخها 21 آذار (مارس) 2002، تثني على التزام شركة الترابة الوطنية بالمعايير، وتوضح أنها منذ عام 1994 "تقوم باستمرار بتحسين عملياتها، مما جعلها ليس أكثر فعالية فحسب بل أكد تقيدها الكامل بمتطلبات البيئة وصحة العمال وسلامتهم التي تشترطها مؤسسة التمويل". وأضافت الرسالة: "إن اهتمامكم بالمسائل البيئية أدى الى تجاوز مصنعكم للمقاييس التي تفرضها مؤسسة التمويل الدولية بنسب عالية، وعلى سبيل المثال انبعاثات الغبار التي تقلّ عن الحد المطلوب بثلاثين في المئة". والرسالة موقعة من سامي حداد، مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مؤسسة التمويل.
وتردّ البلديات بالسؤال عن مصدر أرقام مؤسسة التمويل، فهل هناك طرف مستقل يقوم بالقياس أم ان هذه هي قياسات المصنع؟ ويشككون في دوافع هذه الرسالة التي جاءت من البنك المموِّل، في وقت يواجه المصنع ضغوطاً من البلديات. "فمن مصلحة الجهة الممولة الدفاع عن وضع زبائنها لحمايتهم وتمكينهم من تسديد القروض". وتضع بعض الهيئات علامات استفهام حول طريقة عمل مؤسسة التمويل الدولية وسجلها البيئي.
وقد أطلعنا مدير مصنع الترابة سامي حداد (شخص آخر غير المدير في مؤسسة التمويل) على تقرير عن الانبعاثات أعدته سنة 1997 شركة ألمانية تدعى "لورجي"، يثبت نتائج فحوصات أجرتها حول انبعاثات المصنع بين 24 و27 شباط (فبراير) 1997. ويقول التقرير إن القياسات "أجريت خلال عمل فرني المصنع بطاقة كاملة وباستخدام البتروكوك بنسبة مئة في المئة". وجاء في النتائج أن نسبة الغبار 26 مليغراماً في المتر المكعب، مقارنة مع المقياس الألماني للحد الأعلى لسنة 1986 البالغ 50 مليغراماً في المتر المكعب. وجاء في التقرير نفسه أن نسبة ثاني اوكسيد الكبريت كانت 252.6 مليغراماً في المتر المكعب (الحد الأعلى المقبول في ألمانيا 400) وأوكسيدات النيتروجين 191 مليغراماً في المتر المكعب (ألمانيا 1300). ولم يوضح التقرير أين تم أخذ القياسات. كما أطلع السيد حداد "البيئة والتنمية" على مراسلات لاثبات التزام المصنع عرض أسعار لتعيير معدات القياس (calibration).
لعبة الأرقام
في حين يظهر تقرير "لورجي" أن قياسات الانبعاثات على المداخن أقل من النسب المقبولة، أظهر تقرير لفريق بحثي من طلاب الجامعة الأميركية صورة مغايرة، لكن لقياسات أجريت في القرى المحيطة بالمصانع. فقد أخذ الطلاب قياسات على فترة ثلاثة أسابيع بين 15 أيار (مايو) و12 حزيران (يونيو) 1999، وفي مواقع وقرى مختلفة. فنسبة الجزيئات (الغبار) كانت بين 67 و316 ميكروغراماً في المتر المكعب، وهي في 50% من القياسات تتجاوز100 ميكروغرام في المتر المكعب (الأرقام العليا المقبولة من وكالة البيئة الأميركية 260 ميكروغراماً في 24 ساعة و75 ميكروغراماً كمعدل سنوي). أما نسبة ثاني اوكسيد الكبريت فكانت أعلى كثيراً من المعدلات المقبولة (راجع الجدول).
يمكن اعطاء تفسيرات "بريئة" متعددة للفوارق في الأرقام، منها فارق السنتين بين القياسات، واختلاف مواقع وضع أجهزة القياس بين "لورجي" وطلاب الجامعة الأميركية، وامكانية وجود مصادر تلوث أخرى أدت الى ارتفاع النسب في قياسات الطلاب، مثل حركة السير. ويقول الخبراء إن محركات السيارات قد تساهم الى حد ما في ارتفاع ثاني اوكسيد النيتروجين، لكن مساهمتها شبه معدومة في انبعاثات الغبار وثاني اوكسيد الكبريت. كما انه لا يمكن حصر مصدر التلوث بمصنع واحد، إذا اُخذت القياسات في القرى المجاورة لشكا، اذ ان هناك عدة مصانع في المنطقة تصدر عنها انبعاثات غازية.
ويؤكد خبير في تلوث الهواء وجوب عدم حصر القياسات في مخارج محددة، إذ ان هناك مصادر عدة محتملة للتلوث في مصانع الاسمنت، ليس أقلها تخزين الوقود والمواد في الهواء الطلق.
السيد سامي حداد شكك بأرقام طلاب الجامعة الأميركية "التي أخذت على الطرقات وبأساليب تجريبية". أما السيد بيار ضومط، فرحّب باجراء فحوصات للهواء من جهة مستقلة، مع تفضيله أن تكون أجنبية من خارج لبنان.
غير أن التفاوت الكبير في الأرقام، مهما كانت الملاحظات حول دقتها واساليب جمعها، يشكل سبباً كافياً لتكليف هيئة مستقلة مختصة إجراء فحوصات موثوقة.
البيئة: لا مخالفات تستدعي الغرامات
بناء على شكاوى طرحت بواسطة محافظ الشمال خلال اجتماعات دورية حول المصانع، وجه مدير عام وزارة البيئة الدكتور برج هتجيان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 كتاباً الى المحافظ يطلب فيه عدم ملاحقة مصنع الاسمنت. والسبب، وفق كتاب المدير العام، "ان هذا الموضوع، الذي أشبع تحليلاً ومراقبة من قبلنا، يجب الا يستمر مصدر قلق لأي من الجهات لناحية الالتزام بالمستوى المقبول للانبعاثات في الهواء الجوي، ولناحية السلامة البيئية والصحة العامة. وهو لا يشكل في حال من الأحوال مخالفة تستدعي اتخاذ اجراءات قسرية من نوع التغريم أو تسطير محاضر ضبط أو أي إجراء آخر من قبل السلطات المحلية أو الأمنية المعنية بالسلامة العامة".
وترد لجنة البيئة أن المعلومات التي استند اليها الكتاب، كما جاء في مقدمته، كانت من المشاهدات البصرية وأرقام المصنع نفسه، ولم تكن قائمة على فحوصات أجرتها الوزارة بواسطة طرف علمي مختص ولفترة طويلة. فقد جاء في بداية كتاب المدير العام: "… قام الخبير المختص في وزارة البيئة يوم 28/11/2001 بزيارة ميدانية الى معمل الشركة المذكورة، وتأكد مما كنا قد أكدناه لمرات عديدة في تقارير سابقة، بما لا يدع مجالاً لأي شك أو احتمال، أن الانبعاثات البيضاء المنطلقة من المدخنة هي بخار الماء المكثف بسبب برودة حرارة الجو".
ويضيف الكتاب: "خلال الزيارة تم التأكد من أن كل مستويات الانبعاثات الملوثة الخاضعة للرقابة (الغبار، ثاني أوكسيد الكبريت، أكاسيد النيتروجين، أول أوكسيد الكربون) كانت بعيداً تحت الحدود المقبولة…"
وتتساءل لجنة البيئة في البلديات: من أين حصل الخبير على معلوماته، وهل كان يحمل أجهزة قياس؟ وكيف أمكنه التأكد من أن مستوى الانبعاثات هي تحت الحدود المقبولة اذا كان لم يجرِ قياسات من جهة مختصة مستقلة؟ وذكّر أحد أعضاء اللجنة بتقرير أصدرته وزارة البيئة قبل خمس سنوات، "كان بمثابة شهادة حسن سلوك لمصنع ينتج الأسبستوس (الأميانت) في المنطقة نفسها، في وقت كان العالم يمنع استخدام الأسبستوس".
فقد وضع التقرير شروطاً لتدابير السلامة داخل المصنع، فاستخدمته شركة "اترنيت" كغطاء للاستمرار في تصنيع منتجات الأسبستوس، وبيع أنابيب لجر مياه الشرب، من دون اعتراض الوزارة. وبررت وزارة البيئة موقفها بالاستناد الى تقرير لمنظمة الصحة العالمية يقول إن "لا دليل على أن الأسبستوس يضر بالجهاز الهضمي". فتم غض النظر عن استخدامه في أنابيب المياه، رغم اعتراض الخبراء من أن المخاطر لا تقتصر على الجهاز الهضمي، لأن شعيرات الأسبستوس تتطاير أثناء قص الأنابيب عند تركيبها في المواقع، وتتحول هذه الأنابيب الى نفايات سامة مدفونة تحت التراب، تتسبب بمشكلة التخلص منها عند انتهاء عمرها المقدَّر بثلاثين سنة. فأين ترمى وكيف؟ إذ لا يجوز أن يتم تفتيتها لئلا تتطاير الألياف السامة المسببة للسرطان. أما اليوم وقد أغلق مصنع اترنيت المنتج للاسبستوس، بسبب الافلاس، فهل لدى الوزارة خطة للتخلص من فضلاته والمواد المخزنة فيه على نحو سليم بيئياً؟
اللافت أن بعض المسؤولين يُرجع سبب اصابات السرطان في المنطقة اليوم الى الآثار المتراكمة لمصنع الأسبستوس. وعلى هذا ترد لجنة البيئة في اتحاد البلديات: "الأشخاص أنفسهم الذين اعتبروا مصنع الأسبستوس آمناً قبل خمس سنوات وسمحوا بعمله، يحمّلونه اليوم مسؤولية السرطان ويبرئون مصنع الاسمنت. فهل يغيرون رأيهم بعد فترة، وبمن علينا أن نثق؟"
وذّكر أحد سكان أنفه برفض الوزارة تقريراً لمنظمة غرينبيس حول التلوث في البحر مقابل مصنع الكيميائيات في سلعاتا، حيث أظهرت صور الغواصين طبقات كثيفة من مادة بيضاء تغطي قعر البحر لمسافات طويلة، وانعدام الحياة البحرية كلياً في المنطقة، "فأصرّت الوزارة أن البحر نظيف، وكأن ما ظهر في الصور كان بودرة أطفال. وكان الأجدى تكليف مؤسسة أبحاث مستقلة إجراء فحوصات علمية".
الشكوى الرقم 454:
البلديات تقاضي مدير البيئة
قالت لجنة البيئة البلدية في بيان لها يرد على كتاب المدير العام للبيئة: "نسأل سعادة المدير العام من أين لنا في الكورة وفي شكا والجوار الاصابات السرطانية والأمراض الرئوية والجلدية؟ وماذا عن بقايا البتروكوك، ونسبة الكبريت فيه أضعاف المسموح به، التي تتقاذفها الرياح في كل المنطقة مغطية الدور والباحات والسطوح بالغبار السام"؟
وأضاف البيان: "إننا نشير ومنعاً للالتباس الى أن استنتاجات سعادة المدير هي استنتاجات مغلوطة وغير موثوقة ومبنية على قراءات معدات الشركة نفسها. وهذا غير مقبول ويدعو الى التساؤل وطرح الكثير من علامات الاستفهام، ويفرض علينا التذكير بما طالبنا به مراراً لجهة تركيب معدات قياس بيئية من قبل الوزارة وبمشاركة البلديات، الأمر الذي لم يحصل لأسباب تبقى رهن المسؤولين المعنيين. كما أن لدينا وثائق تدحض ما أورده مدير عام البيئة في كتابه، وهي موثوقة أجرتها جهات عدة في الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية ومكتب دار الهندسة ومنظمة غرينبيس وغيرها، وجميعها تبين أن الملوثات تبلغ أضعاف النسب المسموح بها محلياً وعالمياً، وبالطبع فان هذا هو بالفعل سبب الأمراض المستشرية في المنطقة المجاورة للشركة".
وانتهى البيان الى "مطالبة وزارة البيئة بشراء معدات قياس خاصة بها واشراك البلديات بتشغيلها والاشراف عليها، وتوثيق نتائجها، على أن يرافق ذلك مسح صحي وبيئي شامل لمنطقة الكورة وشكا والجوار، وتوجيه كتاب الى البنك الدولي المقرض الأساسي لشركات الاسمنت يتضمن المخالفات البيئية الحاصلة ويدعوه الى إلزام الشركات بالشروط البيئية والصحية ومراقبتها بشكل دائم".
وخلص البيان الى إعلان اللجنة عن تقديمها شكوى الى النيابة العامة الاستئنافية في الشمال. وجاء في الشكوى التي قدمت بتاريخ 28/1/2002 وتحمل الرقم 454:
"من المعلوم والثابت لدى كل المواطنين، خصوصاً هؤلاء المقيمين في شكا وأنفه وبلدات القلع وفي الجهة الشرقية لشركة الترابة الوطنية أنها، بدواخينها غير الخاضعة للمواصفات القانونية الالزامية من قوانين البيئة، وباستعمالها محروقات بغير المواصفات المطلوبة وغير المطابقة للقوانين البيئية، تتسبب باستمرار في تلوث البيئة، خصوصاً لسكان القرى القريبة منها، ما أدى ويؤدي الى ازدياد إصابات اهلها بمرض السرطان القاتل وأمراض الربو والحساسية وغيرها. ورغم المطالبات الكثيرة للشركة بتنفيذ التوصيات والقرارات والقوانين المتعلقة بالبيئة، ورغم البيانات الاعلامية التي تدعوها الى الامتثال لقواعد منع التلوث، فانها ما تزال تعبث بها جميعاً وتعمل على إقناع مسؤولين، على ما يبدو، بصحة مزاعمها، مع الاشارة الى أن أربع مؤسسات دحضت مزاعمها وأثبتت العكس وهي: مختبر الجامعة الاميركية، مختبر الجامعة اللبنانية الاميركية، مكتب دار الهندسة، منظمة غرينبيس. وجميعها أخذت عينات من الشركة وأجرت اختبارات وأثبتت ان انبعاثات الشركة تتجاوز القانون اللبناني للانبعاثات بشكل فاضح وقاتل".
وأضافت الشكوى: "إن المسؤول الأول عن هذا الوضع وزارة البيئة، ممثلة بمديرها العام الدكتور برج هتجيان، الذي تجاوز كل التقارير وكل الشكاوى وكل المطالبات، معتبراً أن الشركة تقوم بكل واجباتها وأن صناعتها لا تشكل بأي حال من الاحوال مخالفة تستدعي اتخاذ إجراءات قسرية من نوع التغريم أو تسطير محاضر ضبط أو أي إجراء آخر. إن تدخل سعادة مدير عام وزارة البيئة بهذا الشكل الفاضح، بناء على قراءات معدات شركة الترابة الوطنية ودون الاستناد الى فحوصات مخبرية مستقلة دقيقة وموثقة، يشكل إخلالاً بوظيفته وإساءة لاستعمال السلطات المفوض بها لحماية المواطنين، ويقتضي إلزامه بالرجوع عنها لمخالفتها المادتين 370 و371 من قانون العقوبات ومحاسبته قانونياً".
وخلصت الشكوى الى أنه "من حق وزارة البيئة ومديرها بالذات وصف الوضع البيئي بعد تحليله أو طلب تحليله (لكن الوزارة لم تجرِ التحاليل بنفسها بل اعتمدت على قراءات الشركة)، ومن حقه إعلام المواطنين عن الوضع والعمل على تجنب أضراره. وقد تجاوز سعادة مدير البيئة، بإيعازه الى سعادة محافظ الشمال بعدم اتخاذ أي تدبير احترازي أو سواه ضد شركة الترابة الوطنية، صلاحياته وأساء استعمال سلطاته، وتطبق بحقه المادة 371 عقوبات التي تنص على أن كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه مباشرة أو غير مباشرة ليعوق أو يؤخر تطبيق القوانين أو الانظمة (…) يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر الى سنتين. ومن ناحية ثانية، إن تصرف سعادة مدير عام البيئة يشكل إهمالاً لما كلف القيام به ويسبب ضرراً للبلديات وللمؤسسات العامة ويوفر شروط تطبيق المادة 371 عقوبات التي تنص على انه اذا ارتكب الموظف في الادارات أو المؤسسات العامة أو البلديات دون سبب مشروع اهمالاً في القيام بوظيفته، عوقب (…). وفي حالتنا الحاضرة فان الاهمال ثابت، كون سعادة مدير وزارة البيئة أخذ برأي شخص يدعي انه خبير وقد يكون له مصالح خاصة، طالما انه لم يجر القياسات والاختبارات بنفسه ولم يوثق النتائج استناداً الى معايير علمية في وزارته، ويعلم عن وجود اثباتات من مختبرات مهمة ودقيقة وجامعية عن تلوث البيئة، وبدلاً من أن يستأنس بها ويناقشها، اتخذ موقفاً مغايراً لها ومخالفاً للواقع وللحقيقة، وكذلك لم يضع معدات قياس الملوث في تصرف وزارته والبلديات المعنية على الرغم من تكرار هذا الطلب. ولهذه الاسباب نطلب اعتبار هذه الشكوى بمثابة إخبار والتحقيق بها وملاحقة من يثبت تورطه وكل من تدخل أو حرّض على عدم تطبيق القانون بوجه المخالفين".
وتلي تواقيع أعضاء لجنة البيئة البلدية: فارس ناصيف رئيس بلدية أميون، وجان عبدالله رئيس بلدية فيع، ومكارم مكاري رئيس بلدية أنفه، وجورج شوبح رئيس بلدية بكفتين، وعوني السمروط رئيس بلدية كفريا، وكمال مليّس رئيس بلدية بترومين، وفرج الله كفوري رئيس بلدية شكا.
لا تعليق
مدير عام وزارة البيئة الدكتور برج هتجيان رفض التعليق على الموضوع "لأنه في يد القضاء". أما عن احصاءات الأمراض والوفيات، فقال انها من مسؤولية وزارة الصحة.
هناك كارثة بيئية ـ صحية حول مصانع شكا، يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، كما يمكن جمع قصصها المأسوية من أطباء القضاء والعائلات المفجوعة والمرضى المعتلين.
من حق البلديات، وهي سلطة الحكم المحلي المسؤولة مباشرة عن مصلحة المواطنين، ان تخاف وتصاب بالهلع من انتشار الحالات الصحية المفجعة، وتتساءل عن السبب. ومن واجبها ملاحقة المسؤولين في السلطة المركزية بحثاً عن جواب. ومن حق المصانع الدفاع عن نفسها وعن مصالحها، إذ لا يجوز إيقاف عملها وعرقلة نشاطها اعتباطياً. كما من واجب الوزارة الدفاع عن حقوق الجميع، وفي الطليعة مصلحة الناس.
ولا يضع حداً للهلع والخوف الا خطوات جدية من السلطات المركزية، تبحث عن الحقائق وتكشفها للرأي العام وتتخذ تدابير لمعالجة المشكلة. وهذا يكون عن طريق الدراسة العلمية المختصة، من قبل مؤسسة مستقلة لا ترتبط بمصالح تجارية مع أي من الأطراف. ولا يجوز أن تبنى المعلومات على أرقام انتقائية تقدمها الاطراف المشكو منها أصلاً.
وقد لا يكون الحل ما تطالب به البلديات وزارة البيئة بشراء معدات قياس واستخدامها. فالذين يزورون مبنى وزارة البيئة يلاحظون شاحنة كبيرة متوقفة أمامه منذ نحو سنتين، كُتب عليها انها مختبر متنقل لفحص المياه. وهي لم تتحرك من مكانها منذ جاءت هدية من الحكومة الفرنسية، "لأن الوزارة لا تملك الخبرات والميزانية لتشغيلها" حسب ما قاله مصدر مطلع. فهل تتبعها معدات قياس الهواء الموعودة؟
الحل الجذري يكون في انشاء "المؤسسة الوطنية للبيئة" التي وعد بها البيان الوزاري ولم ترَ النور. مهمة هذه المؤسسة، كما وعدت الحكومة، إجراء الدراسات والأبحاث العلمية حول شؤون البيئة، لتكون السياسات مبنية على وقائع وليس على افتراضات. وعلى المؤسسة المستقلة التعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية ومراكز الأبحاث والجامعات.
والى أن ترى هذه المؤسسة النور، على وزارة البيئة تكليف أحد مراكز الأبحاث الجامعية بمراقبة الانبعاثات من مصانع شكا على أساس علمي دقيق. وقد تفكر الوزارة بإيداع المختبر المتنقل لفحص المياه أحد المراكز الجامعية العاملة أيضاً، لعل السيارة تتحرك قبل أن يضربها الصدأ.
أم أن القضاء سيسبق الوزارة بتكليف جهاز علمي مستقل إجراء مسح بيئي وصحي لمنطقة شكا والكورة؟
كادر
قصص واقعية من شكا والكورة
الموت بالسرطان وأمراض الصدر والخوف
مصطفى عاصي
يتساقط الموتى بمرض السرطان منذ سنوات في شكا وقرى الكورة، بشكل صامت ومخيف. وتطول قافلة الضحايا وينتظر المصابون أجلهم للحاق بها قريباً. والى جانب هؤلاء يعاني عشرات السكان إصابات في الجهاز التنفسي ولا سيما الربو، من جراء تلوث الجو بدخان وغبار شركات الترابة، فيما يعيش الأصحاء رُعب الانتظار وهاجس الاصابة أو الضغط والتعب النفسي، من جراء ارتفاع عدد الوفيات والاصابات والروائح الكريهة.
يتداول أهالي شكا لائحة من 20 شخصاً حصدهم مرض السرطان عام 1999، ثم لحق بهم ستة عام 2000، والحبل على الجرار. ويروي انطوان فرح نعوم من البلدة حكاية مرض زوجته أنطوانيت منذ أربعة أشهر بسرطان الثدي، ومرض ابنه ميشال (17 سنة) بانسداد شرايين قلبه، وموت والده عام 1999 بالسرطان. ويُصر على اقتيادنا الى منزله، البعيد 50 متراً عن تلة البتروكوك في حرم معمل شركة الترابة الوطنية، ليرينا بلاط الغرف الأبيض الذي مال لونه الى الاسود بعدما غطته طبقة سميكة وصلبة من غبار البتروكوك. ويقول: "اذا كان البلاط الذي ننظفه كل يوم هكذا، فكيف ستكون صدورنا!" مضيفاً: "لقد نصحني طبيب زوجتي أن اغادر شكا اذا كنت أريد أن تظل على قيد الحياة".
منذ قرابة ثلاثة أشهر ماتت امرأة تدعى ام عزيز في شكا بمرض السرطان، ثم مات شاب يدعى سليم كيروع منذ شهر، وقبله توفيت ابنة جورج القاضي البالغة من العمر 18 عاماً، وكلاهما ماتا بالسرطان.
ويذكر رئيس بلدية كفريا عوني السمروط وفاة 38 شخصاً خلال السنوات الخمس الأخيرة في البلدة، تسعة منهم حصدهم سرطان الرئة وثلاثة بقصور التنفس وستة بالذبحة القلبية.
أما في بلدة فيع فقد توفي 13 شخصاً بمرض السرطان من أصل 24 ميتاً، حسب احصائية لمجلس رعية البلدة. ويؤكد مختار البلدة سيمون نقولا انه منذ خمسة اشهر مات ثلاثة من أبناء البلدة بسرطان الرئة. ويلفت الى ندرة الموت الطبيعي في البلدة، قائلاً: "معظم الوفيات سببها سرطان الرئة والضحايا هم من الصغار ومتوسطي العمر". ويشير الى انه حرر 25 وثيقة وفاة بالسرطان منذ تسلمه زمام المخترة قبل ثلاث سنوات، من أصل 40 وفاة. ويتساءل: "لماذا هذه الاصابات الكثيرة بسرطان الرئة في بلدتنا؟" ويجيب: "حتماً بسبب الدخان السام القادم الينا من شركات الترابة، هذا الدخان الذي يحرمنا النوم الهانئ حتى نكاد نشعر بالاختناق".
وكيفما جال المرء في قرى الكورة فانه يصادف المرض والبيوت المفجوعة. لكن الناس يتحاشون الحديث عن السرطان، خوفاً من استرجاع الذكريات الأليمة أو خجلاً.
يقول جورج حيدر من فيع، الذي فقد شقيقه سامي (16 عاماً) بمرض السرطان: "لو جلت على كل البيوت لاكتشفت حالات سرطانية، ومن يدري، ربما نحن مصابون". ويؤكد ان مداخن شركات الترابة هي السبب، "بناء على كل الندوات والدراسات التي تحدثت عن الموضوع". لقد فقد جورج اخاه وعمه وجاره في فترة قصيرة.
ألين الصديق (18 سنة) وعمتها الصغيرة عبير (15 سنة) أصيبتا منذ سنة بسرطان الرئة، وهما تتجاوران الفراش في المنزل نفسه في بلدة كفريا. تقول ألين: "عرفت باصابتي منذ سنة. يمكن أن تكون شركات الترابة السبب، لكنني اؤكد أن ليلنا جحيم هنا من الرائحة الكريهة والغبار الأسود المنبعث طوال الليل. كل سكان القرية يفكرون في الرحيل للنفاذ بحياتهم، لكنهم لا يستطيعون بفعل الضائقة الاقتصادية".
وتروي رداح، قريبة ألين، أن أحد أصدقائها تحدث مع مسؤول حكومي بخصوص كثرة الاصابات بمرض السرطان في شكا وجوارها، فردّ عليه بأن القصة عويصة ومستعصية، واقترح أن يبحث الأهالي عن السبب، "الذي يبدو انه وراثي"!
تتحلى ألين بوعي وإيمان كبيرين وتقول: "أتمنى ان يصير للانسان قيمة في لبنان. من المخجل التحدث عن مشاكل بيئية مثل ثقب الأوزون وتغير المناخ، في وقت نموت فيه ولا من يسأل عنا".
يشرح الدكتور انطوان بولس، وهو من بلدة شكا، طبيعة الامراض التي لها علاقة بتلوث الهواء المنتشرة بين أهالي بلدته. ويؤكد ان مادة البتروكوك تسبب أمراضاً في الرئة تؤدي الى السرطان. ويذكر بولس سرطان الرئة، او ما يعرف بالـ mozothelium، وهو يصيب غشاء الرئة وينتج عن الاسبستوس (الأميانت)، وسرطان المثانة الذي أصاب عدداً من عمال شركات الترابة بسبب المواد الكيميائية المستخدمة، إلتهاب القصبات الهوائية.
ويؤكد الدكتور انطوان الحايك، الاختصاصي في أمراض الجهاز التنفسي، أن تأثيرات البتروكوك تقتصر على الجهاز التنفسي، وتظهر بوضوح على شكل تحسسات إلتهابية وجفاف في الرئة. ويطالب بوقف استعمال البتروكوك فوراً، عازياً سبب كثرة الاصابات بالامراض التنفسية والصدرية الى هذه المادة. ويقول: "من حق اهالي قرى الكورة المقابلة لشركات الترابة ان يعيشوا حياة طبيعية دون مرض، إذ ليس المهم إضافة سنين على الحياة انما المهم إضافة حياة على السنين التي نعيشها".
وبالفعل، يعاني أهالي شكا والجوار من مرض الربو وأشكال متنوعة من أمراض التنفس. ومنهم حبيب عيسى (50 سنة) الذي أصيب بالربو حديثاً ومنزله يبعد ثلاثة أمتار عن معمل الترابة.
جورج الطويل (31 سنة) متزوج وله ولدان مصابان بالحساسية في الجهاز التنفسي هما دالي (6 أشهر) وغسان (سنة ونصف). قال له الطبيب المعالج في مستشفى الكورة أن هواء شكا ملوث، ونصحه بتغيير السكن حفاظاً على صحة العائلة.
التلوث الجوي زاد اعباء ربات المنازل أيضاً وجعلهن ينظفن منازلهن ثلاث مرات في اليوم لتراكم الغبار الاسود. تقول روزاليت نقولا من بلدة فيع: "نخشى نشر غسيلنا الأبيض في الخارج كي لا يتسخ بالغبار المحمول الى البلدة مع الهواء الليلي الجنوبي الغربي".
وفي شكا تبدو وطأة البتروكوك أشد كثيراً من بقية المناطق. فهذه المادة المستعملة منذ 15 عاماً أحالت لون الشرفات وجدران المنازل الخارجية الى أسود.
وتتعدد اشكال عذابات الاهالي وتطال معظم تفاصيل حياتهم. فالتلوث الجوي حرمهم من أكل ثمار بساتينهم من خضر وفواكه. ويقول المزارع حنا خليل جعجع من شكا: "لا أحد يتجرأ على شراء محاصيلي، الغبائر والمواد الكيميائية أفسدت الثمار".
بعد كل هذا، هل من حل يوقف هذه الحلقة الجهنمية؟
يقول مختار بلدة فيع: "شركات الترابة مدعومة من السياسيين. حتى لو نزل كل أهالي الكورة في تظاهرة واعتصموا امام الشركات، فان اصحابها لن يهزهم شيء".
أما المواطنة فريدا صالح من بلدة الهري فتقول: "لن تزاح هذه الشركات عن صدورنا إلاَّ اذا حصل زلزال مُدمر".
كادر
محرقة إطارات المطاط
اعتراض اتحاد بلديات الكورة لا يقتصر على شركة الترابة الوطنية وعلى استخدامها مادة البتروكوك، بل يتعدى ذلك الى الاعتراض على قرار وزارة البيئة "الموافقة المبدئية" لشركة هولسيم (HOLCIM)، الترابة الوطنية سابقاً، بحرق الاطارات المطاطية لتوليد طاقة بديلة عن استعمال الفحم الحجري.
يقول رئيس بلدية كفريا عوني السمروط إن شركة هولسيم كانت تستخدم الفيول والفحم الحجري، والآن تنوي اللجوء الى حرق الاطارات المطاطية. "كنا سابقاً نثني على الشركة لعدم استعمالها مادة البتروكوك ولأنها حسنت شروطها الفنية قليلاً. لكنها الآن تفاجئنا بقرارها، وتفاجئنا أيضاً وزارة البيئة بسماحها بحرق الاطارات، رغم كل ما يعتري الدراسة من ملاحظات وشوائب. ونخشى ان يكون الأمر أسوأ من البتروكوك". ويكشف السمروط ان الشركة بدأت فعلاً بجمع الاطارات، مؤكداً ان بلدية كفريا والاهالي البالغ عددهم 1600 نسمة، ومعهم سكان القرى المجاروة، لن يسمحوا بحرق الاطارات. وحصلت "البيئة والتنمية" على كتاب وزارة البيئة الذي وافقت بموجبه، مبدئياً، على حرق الاطارات بناء على طلب مقدم من شركة الترابة اللبنانية في كانون الثاني (يناير) 2002. وقد حصلت الشركة على الموافقة المبدئية رغم تسجيل عدد من الملاحظات "التفصيلية" في كتاب الوزارة نفسه، يظهر منها انها أساسية جداً وتتعارض مع اعتبار الدراسة "مقبولة". وهنا هذه الملاحظات:
1. لم تحدد الدراسة بشكل دقيق كميات النفايات التي تتولد عن تنفيذ المشروع.
2. إن معايير التقييم المتعلقة بموضوع مشاركة المجتمع المحلي في جمع الرأي حول المشروع غير مذكورة في الدراسة.
3. إن معايير التقييم المتعلقة بالالتزام الواضح من قبل المؤسسة المعنية بتنفيذ المشروع بمراعاة الخطط البيئية المشار اليها في الدراسة غير مذكورة.
4. لم تحدد الدراسة نوعية وكمية المواد الأولية في الانشاءات المطلوبة للمشروع.
5. لم تتناول درس حالة الظروف غير الاعتيادية (الحوادث).
6. لم تتم الاشارة الى موضوع برنامج المراقبة الذاتية الذي تقوم به معامل الترابة في لبنان تحت اشراف وزارة البيئة، إذ ان البرنامج يظهر بوضوح صعوبات شركة الترابة اللبنانية لناحية التحكم بانبعاثات غازات أكاسيد النيتروجين، مما يستلزم معالجة هذا الموضوع قبل البدء باستعمال الاطارات كوقود جزئي بديل.
7. إن الدراسة لم تشر الى الشروط البيئية المبدئية لعملية تخزين الاطارات المطاطية.
8. يجب ألا تتعدى مدة الانبعاثات المتجاوزة للحدود القصوى المقبولة 15 دقيقة متواصلة للغازات والملوثات من مداخن معامل الترابة، وليس ساعة كاملة كما تشير الدراسة.
واشترطت وزارة البيئة قبل اعطاء الموافقة النهائية:
1. استكمال الدراسة كي تصبح جاهزة.
2. أخذ موافقة وزارة البيئة المسبقة على الشروط البيئية والفنية قبل التعاقد مع جامعي الاطارات.
3. اخذ موافقة وزارة البيئة المسبقة على طريقة نقل وتخزين الاطارات وعلى خطة مواجهة الطوارئ.
4. اعتماد مدة تجريبية أقصاها ستة أشهر تكون فيها الشركة تحت المراقبة المباشرة لوزارة البيئة، تتابع خلالها مراقبة كل أنواع الانبعاثات ودرجة توافقها مع المواصفات الوطنية والدولية، وتنفيذ كل التعديلات التكنولوجية الضرورية لتحقيق هذا التوافق، وخلال الفترة ذاتها يُصار الى تنظيم النشاطات الهادفة الى مشاركة المجتمع المحلي في تفهم وقبول المشروع.
*
وتحذر لجنة البيئة البلدية "من أن تصبح الصيغة الغامضة للرسالة غطاء لمباشرة حرق الاطارات، وجعله أمراً واقعاً في المستقبل، مثل البتروكوك قبله". ويتخوف السمروط من التفسيرات المحتملة لوصف كتاب المدير العام للدراسة بـ "مقبولة"، كما يتخوف من المقطع الأخير الذي "يشترط قبل إعطاء الموافقة النهائية …" وكأن الرسالة "موافقة مبدئية"، "اذ ان البند الرابع في المقطع نفسه يتحدث عن اعتماد مدة تجريبية لستة أشهر تخضع خلالها الشركة للمراقبة وتسوّي أمورها، وكأن هذه الفترة التجريبية تبدأ من تاريخ الرسالة".
**
وأوضح ان الوزارة تعتمد على قياسات المصنع لجهة الغبار، حيث انها لا تملك أجهزة فعالة خاصة بهذا الموضوع. لكنه أضاف: "يستطيع الخبير التحقق بالعين المجردة من كون نسبة الغبار في الحدود المقبولة، إذ عندما تتجاوزها تصبح كثافته عالية ويمكن ملاحظتها". أما بالنسبة الى أوكسيدات الكبريت وأوكسيدات النيتروجين، فأكّد أن خبير الوزارة يدقق بالأرقام التي يزوّده بها المصنع بواسطة آلة فحص نقالة يستخدمها".