ضبطت السلطات المصرية حاويات تحوي بضائع مشعة آتية من اليابان. واتخدت بلدان خليجية تدابير لفحص المستوردات اليابانية. ولكن يبدو أن الوضع في العراق ما زال خارج السيطرة، حيث تصل آلاف الأطنان مع البضائع اليابانية الملوثة إشعاعياً بطرق احتيالية
بعد عامين كاملين على كارثة فوكوشيما اليابانية وتسرب الإشعاع من مفاعلات محطتها النووية، عقب الزلزال والتسونامي اللذين ضربا اليابان في آذار (مارس) 2011، ما زال القلق سائداً من دخول البضائع اليابانية الى البلدان الأخرى خوفاً من تلوثها بالإشعاع.
وللقلق والخوف ما يبررهما في البلدان غير الأوروبية. ففي مصر، كشفت الأجهزة الرقابية مرتين خلال شهر واحد عن حاويات تحتوي على مواد مشعة آتية من اليابان إلى ميناء العين السخنة في خليج السويس. وشهد الشهر الماضي الكشف عن ثلاث حاويات سجلت الآلات التي داخلها نسبة إشعاع أعلى من الحدود المسموح بها، مما جعل إدارة الميناء تصدر قراراً بضرورة الكشف على أي حاويات آتية من اليابان. وكشفت التحقيقات أن الحاويات المضبوطة تحتوي على 53 طناً من المعدات الثقيلة المفككة ومعدات ميكانيكية، بعضها مستورد من أماكن مصابة بالإشعاع النووي في اليابان بأقل 80 في المئة من ثمنها الحقيقي، مشيرة إلى أن هناك من يستغل الوضع الراهن للكسب غير النظيف.
وحذر الدكتور فريد اسماعيل، عضو مجلس الشعب المصري السابق، من وجود مافيا من رجال الأعمال تستغل رخص سعر هذه السلع في اليابان، حيث يتم التخلص منها من دون مقابل تقريباً. وفي سبيل ذلك يتم الالتفاف على القانون ومخالفته، وهذا يشمل تغيير الخط الملاحي، ووجود عدة محطات يتم التنقل بينها للتمويه، وإصدار بيانات مزورة لبلد المنشأ. لهذا طالب اسماعيل بضبط المستوردين والتحقيق معهم حول مدى معرفتهم بهذه الشحنة ومدى تلوثها، وتطبيق أقصى العقوبات في حقهم إذا ثبت تورطهم.
وتعد مشكلة الحاويات المشعة من القضايا الجديرة بالاهتمام. وتبرز هنا أهمية دور الجهات الحكومية وجهات تنظيم الإشعاع النووي في كل بلد. وهذا ما أكد عليه محمود فكري، المدير العام السابق لحماية البيئة في الموانئ، الذي قال إنه منذ حادث فوكوشيما أصدرت الحكومة المصرية عدة قرارات تحمي مصر من دخول أغذية من اليابان أو الدول المجاورة لها. وقررت الكشف الإشعاعي في الموانئ المصرية عن طريق هيئة الطاقة على المعدات والآلات والمواد الأخرى التي ترد إلى مصر قبل السماح بدخولها البلاد. وإذا تبين تلوثها إشعاعياً، يتم إعادتها إلى الجهة التي أتت منها على نفقة العميل، وتظل في الميناء في منطقة عزل خاصة حتى إعادة تصديرها.
وأكد اللواء البحري محمد عبدالقادر جاب اللـه، رئيس هيئة موانئ البحر الأحمر، صدور قرار بمنع دخول أي سفينة حاويات إلى الموانىء المصرية على البحر الأحمر إلا بعد الحصول على شهادة «خلو من الاشعاع» من المنظمة الدولية لمعايير السلامة البحرية ("إيلاف"، 24/7/2011).
حذر في الخليج
تعالت في الخليج أصوات جمعيات المستهلكين الداعية إلى وضع آلية لفحص السيارات وقطع الغيار المستوردة من اليابان للتأكد من خلوها من التلوث الإشعاعي. وذلك بعدما رصدت سلطات الجمارك الروسية مستويات غير عادية من الإشعاعات النووية في بعض السيارات المستوردة من اليابان، فقررت تعزيز مراقبتها على الواردات اليابانية. وحذت دول كثيرة حذو روسيا، ومن بينها بلدان خليجية. ففي الإمارات، أوضحت جمارك دبي أنه في ميناء جبل علي، حيث تصل السيارات الواردة من اليابان، يتم فحص هذه السيارات بواسطة جهاز IP6500 الذي يعتبر من أحدث الأنظمة المتكاملة في العالم للمسح الإشعاعي للشاحنات والحاويات ومحتوياتها، ويستطيع كشف أشعة إكس وأشعة غاما وأشعة نيوترون. وكإجراء وقائي، يتم تمرير جميع الحاويات والشحنات القادمة من اليابان على هذا الجهاز المتقدم للتأكد من خلوها من المواد المشعة ("الخط الأخضر"، 11/7/2011).
وتزايدت المخاوف الأوروبية من السيارات الملوثة بالإشعاع النووي، على رغم أن غالبية مصانع السيارات اليابانية تقع على بعد مئات الكيلومترات من منطقة الكارثة الفعلية. فبعض المكونات وقطع الغيار للسيارات الأوروبية يتم استيرادها من اليابان، ويدعو المراقبون إلى تشديد الفحوص بعد كشف روسيا عن إشعاعات نووية تفوق 6 مرات المعدلات العادية المسموح بها. وسارعت الشركات اليابانية إلى النفي بشكل قاطع أن تكون السيارات التي ضبطتها السلطات الروسية جديدة، بل مستعملة لم يتم تصديرها عبر الشركات المصنعة. وأعلنت الرابطة اليابانية لصناعة السيارات أن مصانع التجميع الحالية كافة هي خارج نطاق التعرض لمستويات مرتفعة من الإشعاعات، مؤكدة أن "الإنتاج توقف نهائياً في جميع المصانع القائمة في المنطقة المنكوبة".
وتشترط بلدان أوروبية كثيرة إرجاع السيارات اليابانية إلى مصدرها في حال وجود مستويات غير مقبولة من الإشعاعات. ولكن لم تسجل حالات تذكر عن سيارات يابانية جديدة ملوثة بالإشعاعات.
«مافيا» في العراق؟
تتواصل تجارة البضائع الملوثة بالإشعاع الآتية من اليابان الى العراق، حيث لا يمر شهر من دون أن تكشف سلطات الحدود مثل تلك البضائع. ولا تزال عملية التخلص منها بطيئة، ما جعل وزارة البيئة العراقية تطلب من إدارات المنافذ والمعابر الحدودية ضرورة تحديد أماكن عزل خاصة للبضائع والآليات الملوثة إشعاعياً بانتظار إعادتها الى بلد المنشأ منعاً لحدوث أضرار بيئية ("صوت العراق"، 6/3/2013). يذكر أن وزارة البيئة كانت أعادت خلال العام الماضي ومطلع العام الجاري عشرات البضائع والآليات الملوثة الى بلد المنشأ. وفوق ذلك، طلبت اليابان من العراق إعفاء بضائعها المصدرة إليه من شهادة فحص الإشعاع "أسوة ببقية الدول العربية"، وهذا يدعو إلى التساؤل. وأبلغ الجانب العراقي الجانب الياباني أنه سيدرس الموضوع مع وزارة البيئة.
حيال هذا، حذّرت عضو لجنة الصحة والبيئة في مجلس النواب أمينة سعيد حسن وزارة البيئة من إعفاء اليابان من شهادة فحص الاشعاع على بضائعها الواردة إلى العراق، مشيرة الى أن هذه سابقة خطيرة وتهدد حياة العراقيين. وحذرت وزارة البيئة من السماح للبضائع اليابانية وبضائع أي دولة بالدخول إلى الأسواق العراقية من دون شهادة الفحص الاشعاعي ("شفق نيوز"، 18/1/2013).
وكانت وزارة البيئة أعلنت قبل يومين من هذا التحذير حجز كميات جديدة من المواد الملوثة اشعاعياً في ميناء أبو فلوس في محافظة البصرة، بعدما كشفت عليها الفرق الفنية التابعة لمديرية بيئة البصرة، حيث تمكنت من ضبط ثلاث قطع ملوثة ("صوت العراق"، 15/1/2013). وقبل ذلك كشفت الوزارة عن دخول أربع آليات وثلاث حاويات ملوثة إشعاعياً عبر ميناء أبو فلوس وأم قصر إلى البصرة، مؤكدة إعادتها إلى دول المنشأ ("السومرية نيوز"، 20/11/2012). كما دخلت الى العراق مئات الإطارات والدراجات الهوائية الملوثة بالإشعاع.
ولفت مجلس محافظـة البصرة الى أن الفساد الاداري يلعب دوراً كبيراً في دخول مواد ملوثة وانتشارهـا في الأسواق العراقية. وقال نائب رئيس المجلس أحمد السليطي إن «مسألة وجود مواد ملوثة ودخولها إلى العراق أمر يحصل باستمرار، فهناك تجار يدفعون أموالاً لتمرير مواد كهذه الى داخل الأسواق العراقية». وطلب أن يكون الفحص في بلد المنشأ بدل الموانئ العراقية لكي لا ترسل مثل هذه المعدات الملوثة اشعاعياً، وأن توضع قوانين صارمة لمنع دخولها الى العراق ("المسلة"، 30/10/2012).
وكانت عضو لجنة حقوق الانسان البرلمانية النائبة أشواق الجاف طالبت القضاء بإنزال أقصى عقوبة بالمتورطين بملف دخول البضائع الملوثة اشعاعياً إلى البلاد، كما طالبت لجنة النزاهة البرلمانية "بالتدخل في هذا الموضوع الخطير المسبب للأمراض المهددة لحياة المواطنين" ("طريق الشعب"،31/7/2011).
وتلقت إدارة صحيفة "المستقبل العراقي" تهديدات لوقف نشر أي أخبار ذات صلة بقضية السلع اليابانية الملوثة، بعد نشرها تقريراً أماطت فيه اللثام عن وصول آلاف الأطنان من البضائع الملوثة من اليابان بطرق احتيالية، من خلال تغيير جهة المنشأ باستخدام وثائق مزورة، بمشاركة تجار عراقيين وعرب وأميركيين. وتضم هذه الشحنات أجهزة كهربائية وإطارات وسيارات وغيرها ("المستقبل العراقي"، 13/6/2011).
السؤال الذي يطرح نفسه: متى ستردع الحكومة العراقية تجارة استيراد البضائع الملوثة بالإشعاع والمهددة لصحة المواطنين وحياتهم؟
الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي وباحث بيئي عراقي مقيم في السويد.