عندما نبحث عن الحلول العلمية لقضايانا ومشكلاتنا، ومنها مشكلة التلوث، ضروري أن نلجأ الى تراثنا وموروثاتنا الثقافية والدينية، لنستمد منها برامج للاصلاح البيئي، ونبحث عن طرق عملية لتبني تلك البرامج وتحقيقها. ولا مانع بعد ذلك من الاستفادة بخبرات الآخرين وتجاربهم، مع توظيفها طبقاً لمتطلباتنا واحتياجاتنا.
لقد رأينا كيف سعت المجتمعات البشرية وراء تملك الثروات الارضية. وكان من أبرز نتائج هذه الطموح، وذلك الجموح، وتلك الرغبة في التمدن، ما أثقلت به البيئة من مشكلات، ومنها مشكلة تلوث المياه. انطلاقاً من الواقع البيئي المزري، فلا قيمة لتطبيق المناهج التكنولوجية لإزالة آثار التلوث ما لم يشعر الانسان، دينياً وثقافياً، بأنه المسؤول الأول والأخير عن حضارة صنعها لنفسه ولبني جنسه.
شرَّع الاسلام قواعد سامية لارساء مبدأ كف الأذى ودفعه. ومن المقومات البيئية التي وجه أتباعه الى كف الأذى عنها الماء، ذلك السائل المنهمر من شآبيب رحمة الله، حيث وجدنا النبي (صلعم) يحرص على نظافة الماء وطهارته وتنزيهه من النجاسات، ولو بطريق الخطأ، فقال "اذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثاً فانه لا يدري أين باتت يده".
ونهى الاسلام عن تلويث المياه، سواء كانت مياه الطهارة والوضوء، أم مياه الغرس والزرع، أم مياه الشرب، لأن تلويثها يضر بالانسان والحيوان والنبات. وانسجاماً مع كف الأذى ودرء المفسدة ودفع الضرر، أنشأ الرسول مناطق حرام، أي حمى، تحمي الكائنات البرية والغابات على حدود المجاري المائية وحول المرافق والقرى. وسيراً على نهج الرسول، أقام العديد من الخلفاء الراشدين مناطق حمى، كحمى الشرف والربضة، كانت مثالاً رائعاً للوعي البيئي في النظرة الاسلامية الشاملة، التي لا تقدم فقط قواعد عامة ومبادئ ايمانية، بل تقدم أيضاً مجموعة من التشريعات تعطي شكلاً عملياً لهذه القواعد والمبادئ، ومنها كف الأذى عن مقومات البيئة ولا سيما الماء. فهل من سبيل الى استلهام روح تلك التشريعات وتحقيقها في واقعنا البيئي؟
وبمعنى آخر: هل من سبيل الى إقامة مناطق حرام حول الموارد المائية، تمنع عنها ملوثات المصانع الواقعة على الأنهار، ومياه المزابل، وفضلات المستشفيات، ومصافي النفط…؟
لقد تضافرت النصوص الاسلامية داعية الى التوسط والاعتدال في مرافق الحياة، حتى لا يركن الانسان اليها فتغريه. يقول تعالى: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" (القصص 77).
واذ نؤكد على ضرورة الموازنة بين الأهداف المادية والأهداف غير المادية خلال عملية التنمية، في مجتمع اسلامي يعيش في مناخ سليم، ينبغي ألا ننسى واقع إنسان العصر الحديث، عصر الطاقة بشتى صورها وأشكالها، وعصر الاستغلال البشع والاستهلاك الزائد لكل الموارد الطبيعية ومنها الماء. فمن الواضح أن الاسراف في الانتاج وإشباع الرغبات في غير ضرورة يؤدي الى الاضرار بالصحة العامة، لأنه يفضي حتماً الى تلوث الهواء والمياه وغير ذلك. كذلك فان هذا الاسراف يتعارض رأساً مع أحد المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها المنهج الايماني، وهو مبدأ الترشيد والاعتدال في استغلال مكونات البيئة.
انه ترشيد في كل أمر. ترشيد في الانفاق: "والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" (الفرقان 67). وترشيد في المطعم والمشرب: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" (الأعراف 31). وترشيد في استخدام الماء، ولنا في رسول الله إسوة حسنة، فقد كان يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكي كما جاء في الحديث. وكان يوصي بالاقتصاد في الماء عند الوضوء أو الغسل حتى في حال توفره وكثرته. وقد روى عبدالله بن عمر أن الرسول مر بسعد وهو يتوضأ فقال: "لا تسرف"، فقال: "يا رسول الله أوفي الماء إسراف"، فقال: "نعم وإن كنت على نهر".
انطلاقاً من هذا التقنين الصادر عن العترة الطاهرة، نتساءل اليوم: أين نحن من هذه الرؤية النافذة الى قيمة هذه الطاقة الفائقة، طاقة الماء؟
إن التبذير في الماء في مجتمعنا العصري فاق التبذير في ماء الوضوء والغسل، حتى بات يشمل كل الموارد المائية، سواء أكانت للشرب أم للاستعمال أو للسقي والري الزراعي أم لتوليد الطاقة الكهربائية أم لزيادة الانتاج الصناعي، وغير ذلك. ومن الواضح أن المياه المنصرفة في البيوت والحمامات والمستشفيات، ومن الأراضي الزراعية والمعامل الصناعية وغيرها، تصبح مياهاً ملوثة. ومن ثم فان الانسان كلما أسرف في استعمال الموارد المائية في نشاطاته المختلفة، وفي نمائه وازدهاره، كلما كانت هذه الموارد عرضة للتلوث. فهل من سبيل الى سياسة مائية يحضر فيها الاعتدال ويغيب عنها التبذير والاسراف؟
من الآيات التي تجسد واقعنا الحاضر: قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" (الروم 4). بمعنى أن الفساد الذي يظهر في العالم هو من جراء أعمال الناس، ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غذقاً" (الجن 16). ونقرأ في آية أخرى قوله تعالى في الأخنس بن رشيق، وهو أحد المنافقين الذين كانوا يعيثون في الأرض فساداً: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة والدنيا وهو ألذ الخصام واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد واذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم" (البقرة 204).
فنلمس أن أمثال الأخنس بن رشيق كثيرون في هذا العصر، وأن الذين تأخذهم العزة بالإثم دونما وخزة من ضمير أو حسبان لجنة أو نار كثيرون أيضاً. فمعظم الدول التي تسمى متحضرة ومتقدمة تقنياً وعلمياً، متشدقة بحرية الانسان وحقوقه، تلبس الباطل ثوب الحق حينما تريد إقناع بعض الدول النامية بدفن نفاياتها النووية والسامة في بلادها مقابل دراهم معدودة. ولا يخفى أن هذه النفايات اذا دفنت يمكن أن تتشعب وتصل الى المياه الجوفية فتلوثها. ولا بأس بهذا التلوث، لأن هذه الدول لا تعرف معنى لدفع الأذى حرصاً على الصالح العام، ولا تقيم للأخلاق وزناً في تحصيل الربح المادي والانفاق منه على الرفاهية.
ان معالجة تلوث المياه، الذي حدث بسبب تصرف الانسان، أمر ممكن اذا تسلحنا بالعلم والمعرفة، مع الاعتماد على أرضية ثابتة من الايمان بالله ومراقبته في الصغيرة والكبيرة، وشكر لنعمته التي بها رزق الأحياء، وعدم تبذيرها أو إهمالها فتلوث. لأن نعمة الماء ثروة ناضبة كباقي الموارد الطبيعية. فمن يأتي بها اذا انحسرت عن الارض وهي سر الحياة فيها؟ "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين" (الملك 21).
جميلة زيان (استاذة باحثة في كلية الآداب والعلوم الانسانية، شعبة الدراسات الاسلامية، فاس ـ المغرب)