من المفيد أن ينتشر الكلام عن مواضيع البيئة في الصحافة وبين الجمهور والسياسيين. غير أنه لا يجوز ان تصبح الأحاديث حول عناوين مثل ثقب الاوزون وتغير المناخ غطاء للتستر عن مشاكل خطيرة في حياتنا اليومية، قد تبدو للبعض تافهة ومحلية تجاه ما أصبح يصنَّف في خانة الشؤون البيئية الدولية. كما انه من غير المقبول أن نتغاضى عن المشكلة ما لم تصل الى عتبة دارنا.
لأن البعض يعتبر "البيئة والتنمية" صندوق شكاوى بيئية، اتصل بنا مؤخراً صديق يملك منتجعاً سياحياً في منطقة جبلية ذات طبيعة خلابة، شاكياً جاره صاحب مزرعة الدجاج الكبيرة: "إنهم يرمون فضلات الدجاج بعد ذبحه بلا معالجة، فتلوث المياه الجوفية التي نستخدمها. ساعدونا على إيقافه. إنه يرتكب جريمة بحق الطبيعة وصحة الناس".
المنتجع السياحي صاحب الشكوى يقع فوق تلة تشرف على مزرعة الدجاج، وصاحبه محقّ في شكواه. لكن كم كنا نتمنى لو سمع منا حين احتج صاحب مزرعة الدجاج من خلالنا قبل سنوات من أن مياه المجارير العادمة من المنتجع تتدفق في الطبيعة بلا معالجة، فتلوث المياه التي تستخدمها المزرعة.
الطرفان على حق. لكن التناقض يكمن في أن أيا منهما لم يشعر بالمشكلة حين رماها في حديقة جاره، وانتفض حين لدغته في عقر داره. ومن المعروف أنه في لبنان، مثلاً، تنتهي معظم مياه المجارير العادمة في المياه الجوفية، إذ يتم ضخها في آبار عميقة تتصل بالمجاري الطبيعية. ويحصل هذا بالتحايل على القانون وتغاضي السلطات المحلية وضعف الرقابة المركزية.
يتحتم علينا، بلا شك، دعوة الصديقين اللذين طلبا وساطتنا البيئية الى احترام أبسط واجباتهما تجاه الطبيعة المشتركة. فقانون الطبيعة يفرض عليهما معرفة أن دورة الحياة وحلقة الغذاء ستعيد الملوثات، التي ترمى بلا قيد، الى الطعام والماء والهواء، ولن يستطيع أحد الاختباء. فمزرعة الدجاج يمكن أن تلجأ الى تخمير فضلات المسلخ في مهتضمات تنتج الغاز الحيوي الصالح للاستخدام في تدفئة المزرعة وانتاج الكهرباء، وتحوِّل البقايا الصلبة الى سماد عضوي. والمشروع الذي نفذه مركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة في مزرعة دجاج ودواجن في قرية مرجعيون في جنوب لبنان أحد النماذج العملية وغير المكلفة. وكان واجب المنتجع السياحي أن ينشئ محطة خاصة لمعالجة مياهه المبتذلة، بدل تركها تتدفق في الطبيعة. وهذا ما يقوم به حتى المقاولون في أعماق الصحارى والادغال، حيث يبنون محطات لمعالجة المياه العادمة في مخيمات العمل الموقتة.
غير أن الالتزام الشخصي الطوعي لا يغني عن ضرورة الالزام بواسطة القانون. فالحل النهائي الجذري لمشاكل البيئة لا يقوم إلا على قوانين واضحة يتم تطبيقها على الجميع. فلو وجدت هذه القوانين، ولو قامت أجهزة الرقابة بمهماتها ولاحقت الأجهزة الأمنية المخالفين وعاقبتهم السلطات القضائية، لما كانت هناك حاجة للحلول الجزئية بالتراضي.
وزير البيئة اللبناني ميشال موسى يقول، عن حق، إنه يرى مهمته الأساسية وضع قوانين وتشريعات تحمي البيئة، بدل هدر قدرات الوزارة، المتواضعة أصلاً، في محاولة إيجاد حلول موقتة واسعافات أولية لمشاكل يومية. وكلنا يذكر أن ملاحقة وزيرة البيئة المصرية السابقة، شخصياً، لعشرات السيارات المخالفة في شوارع القاهرة لم توصل الى وقف الانبعاثات الغازية السامة، ووقوف وزير بيئة أمام كاميرات التلفزيون والصحافة على أنقاض مقلع صخور مخالف لم ينتج عنه تنظيم عمل مقالع الصخور في جبال لبنان. الحل الجذري في هاتين الحالتين يكون في قانون عصري وعملي، مع آليات للتنفيذ، ينظم الانبعاثات السامة من السيارات في كل مصر، وفي مخطط تنظيمي قابل للتطبيق يحدد مواقع مقالع الصخور في كل لبنان ويضع قيوداً على أساليب عملها.
غير أن العمل على وضع خطط وتطوير قوانين وتشريعات بعيدة المدى، لا يعفي من مسؤولية معالجة المشاكل اليومية، التي يهدد بعضها بتدمير بيئي لا يمكن إصلاحه. من هنا ضرورة العمل على خطين متوازيين: يتصدى واحد للمشاكل الطارئة، ويشتغل الآخر على تطوير استراتيجيات وخطط وقوانين.
وهنا، أيضاً، نعود الى مسألة تعيين الأولويات الوطنية. فمن المؤسف أنها غالباً ما تتحدد وفق جدول أعمال منظمات دولية بعيداً عن الحاجات الواقعية للمجتمع المحلي. ففي بلد يفتقر الى قوانين وآليات وميزانيات لمعالجة قضايا بسيطة، مثل فضلات مزرعة دجاج ومجارير مجمع سياحي وانبعاثات الوقود الرديء من سيارات لا تخضع لمعاينة ونفايات ترمى في الوديان وعلى الشواطئ، كيف يمكن أن تصرف ملايين المنظمات الدولية على برامج الأوزون وتغيّر المناخ مثلاً؟
لنحل أولاً مشاكل المياه الجوفية والنفايات والمازوت والشواطئ الملوثة، ناهيك عن فضلات مزرعة الدجاج. أما الأوزون وتغير المناخ، فيمكنهما الانتظار قليلاً.