هل فكرت يوماً بالخدمات "المجانية" التي تقدمها لك الطبيعة؟ ان مأكلك ومشربك وملبسك ودواءك وكل ما لك نتاج الطبيعة الحية. لكن هذه الثروات تتناقص بشكل خطير بسبب استغلالها الجائر. والكائنات الحية، التي لا نعرف منها الا العُشر، تختفي تدريجياً، ويخشى أن يزول ثلثاها مع النتهاء هذا القرن.
ملايين الأنواع النباتية والحيوانية تستوطن اليابسة والمياه العذبة والبحار والمحيطات. وجميعها، بما فيها البشر، تربط بينها صلات لا تنفصم عراها. والتنوع البيولوجي يعني تنوع جميع هذه الكائنات الحية والتفاعل في ما بينها، بدءاً بالكائنات الدقيقة التي لا نراها الا بواسطة المجهر وانتهاء بالاشجار الباسقة والحيتان الضخمة، ناهيك عن تنوع موائلها أي أماكن معيشتها.
هناك أنواع منتشرة في العالم بصورة طبيعية، مثل الدلافين والوطاويط والأعشاب البحرية. وهناك أنواع، مثل الاوكاليبتوس، منتشرة حول العالم لأن الانسان أدخلها الى أماكن لم تكن موجودة فيها أصلاً. وهناك أنواع، تدعى متوطنة، لا توجد إلا في مناطق معينة، حيث يوجد موائل فريدة تناسبها. ويقدر العلماء أن على الأرض 10 ملايين نوع، أو أكثر، غير معروفة بعد.
التنوع البيولوجي موجود في كل مكان، في الصحارى والمحيطات ومجمعات المياه العذبة والغابات، وحتى في حديقة منزلك. وتؤوي غابات المطر، في أميركا الوسطى والجنوبية وافريقيا الاستوائية وجنوب شرق آسيا، نصف الأنواع الحية على الأقل. كما أن الشعاب المرجانية، التي تدعى "غابات المطر البحرية"، ملاذ لأنواع كثيرة من النبات والحيوان. والبحيرات ومصبات الأنهار وقيعان المحيطات العميقة والتربة تحت قدميك غنية أيضاً بالتنوع البيولوجي. وتؤوي المناطق القطبية والصحارى، حيث الأحوال المناخية شديدة القسوة، بعض الكائنات الحية الشديدة الغرابة.
المنتجات والخدمات التي تقدمها الكائنات الحية في الطبيعة تلبي معظم الحاجات البشرية الأساسية، من هواء وماء وغذاء ودواء ومأوى، فضلاً عن متعات استجمامية ونفسية وعاطفية وروحية. لذا، من واجبنا حماية التنوع البيولوجي وتجديده، لتبقى لنا فوائده، ولأن جميع الكائنات الحية لها قيمة، سواء عرفنا فوائدها أم لم نعرفها.
غذاء وكساء ووقود ودواء
يأتي طعامنا، بشكل مباشر أو غير مباشر، من النباتات. وأكثر من 90 في المئة من السعرات الحرارية التي يستهلكها الناس في أنحاء العالم تأتي من 80 نوعاً نباتياً. فالفواكه والجوزيات والفطر والعسل والتوابل وأنواع الطعام الأخرى، التي يتناولها البشر والكائنات البرية، تأتي أصلاً من نظم ايكولوجية طبيعية. ومعظم الأطعمة حالياً هي حصيلة انتاج زراعي مكثف واسع النطاق لمئات المحاصيل والحيوانات التي تحدرت من أنواع برية.
يضم العالم العربي ثلاثة مراكز رئيسية حددها الباحثون كمواطن لنشوء النباتات المزروعة في العالم، وهي منطقة البحر المتوسط ومنطقة جنوب غرب آسيا ومنطقة شرق أفريقيا. ويقدر عدد الأنواع النباتية الزهرية فيه بما يزيد على 20 ألف نوع، بعضها متوطن لا مثيل له في العالم. ويعود أصل المحاصيل العالمية التي تكون الغذاء الرئيسي للانسان، كالقمح والذرة والشعير، الى المناطق الجافة التي تضم معظم الدول العربية.
لقد قامت حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي النيل بعد أن زرع سكانهما النبات وربوا الحيوان. وقد اعتمد انتاج الطعام في المنطقتين على القمح والشعير والاغنام والماعز. ومع أن أنواعاً اخرى من النبات والحيوان كانت قد استؤنست فيهما، الا أن قصة الحضارتين هي في الحقيقة قصة استئناس هذه الانواع الاربعة الرئيسية من النبات والحيوان. ولو نظرنا الى خريطة العالم القديم (7000 ـ 5000 سنة قبل الميلاد) لوجدنا أن التجمعات البشرية والقرى الزراعية تركزت حول البحر المتوسط وفي بلاد ما بين النهرين. وما زالت هناك، في بقع متناثرة، أنواع برية تحمل الاصول الوراثية للمحاصيل الحقلية التي بنيت عليها حضارة هذا الجزء من العالم.
زرعت محاصيل الخضر بشكل واسع على ضفاف نهر النيل منذ الفراعنة، ومنها البصل والثوم والكراث والملوخية والبامية والقثاء. وقد وجدت في الآثار الفرعونية نقوش لمحاصيل أخرى مثل الكرفس والفجل واللفت والكرنب والقلقاس والرجلة والبقدونس والشبت والخبيزة والخيار والبطيخ والشمام والخس.
وقد اهتمت الحضارات الاولى، وخاصة تلك التي قامت على ضفاف الانهار، بتحسين السلالات البرية وزراعتها. لكن زراعة السلالات المحلية انحسرت نظراً للطلب المتزايد على الغذاء، الذي أدى الى الاعتماد بشكل رئيسي على زراعة الاصناف ذات الانتاجية العالية المدخلة من مناطق اخرى.
والعالم العربي أحد المواطن الاصلية للأشجار المثمرة. وكانت معظم سهوله وجباله عبارة عن خميلة خضراء تغطيها الأشجار والشجيرات والنباتات المعمرة على اختلاف أنواعها، وتحسن من مناخها الموضعي. وبرهان على ذلك وجود دلائل نباتية لا تزال تنتشر في بيئاته المتباينة، وتعيش وتثمر بشكل جيد، وتقاوم العوامل الطبيعية القاسية. وهي تضم أنواعاً برية مختلفة للفستق واللوز والزيتون والتين والكرمة والتفاح والكمثرى والخوخ (البرقوق) والمحلب (الكرز البري) وغيرها. تعيش هذه الانواع مستقلة أو مختلطة مع أشجار الغابات الأخرى. وهي تتواجد في أنواع مختلفة من الأتربة، وعلى ارتفاعات تزيد على 1700 متر. وبعضها ينمو في غابات تغطى بالثلوج لاشهر طويلة من السنة دون أن يظهر عليها أي ضرر، ويعيش بعضها الآخر في بيئات جافة تجاور البادية وتتحمل قساوة البيئة وشدتها. فالمصادر الوراثية للاشجار المثمرة، وخاصة البرية، تتميز بمقاومتها لسوء التربة وقساوة المناخ وبقوة النمو وغزارة الانتاج وتحمل كثير من الآفات الفطرية والحشرية. وهي مصدر وراثي حيوي لتطوير زراعة الأشجار المثمرة في العالم العربي.
وقد دجّن الانسان نحو 30 من أصل 15,000 نوع من الثدييات والطيور الكائنة في الطبيعة. وتساهم هذه الأنواع المستأنسة في توفير نحو 30 في المئة من غذائه، وتوفر له الرفاهية والأعمال والنقل. وقد تم تطوير 400 عرق حيواني لتلائم البيئات المحلية وحاجات المجتمعات، تشكل المصادر الوراثية الحيوانية الرئيسية المستخدمة في الانتاج. والتنوع الحيواني ديناميكي ويتبدل على الدوام، لكنه في تناقص مستمر، خصوصاً مع الضغط المتزايد للسكان. وقد قام المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (اكساد) بمسح للانواع الحيوانية في كل دولة عربية. وتم تقسيم الحيوانات الأليفة الى ثلاث مجموعات أساسية تضمنت الانواع الحيوانية الاقتصادية التي تنتشر انتشاراً واسعاً في دولة أو أكثر، والانواع الحيوانية الاقتصادية التي تتناقص أعدادها بشكل واضح، والأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض. وبناء على ذلك، أطلق المركز مشروع الحفاظ على العوامل الوراثية الحيوانية في الدول العربية، وأنشأ بنوكاً وراثية وقواعد معلومات للحيوانات، كما طور برنامجاً لتدريب فنيين لادارة هذه البنوك.
تعتبر السودان والصومال أغنى البلدان العربية بالحياة البرية، وخاصة الثدييات. فمن أصل 13 فصيلة من الثدييات البرية في قارة افريقيا تعيش 12 فصيلة في السودان تضم 266 نوعاً، اضافة الى 971 نوعاً من الطيور. وفي الصومال ينتشر أكثر من 100 نوع من الثدييات البرية ونحو 600 نوع من الطيور.
وتصنع معظم المنازل والاثاث والملابس من منتجات طبيعية، منها الخشب والصوف والزيوت والأصماغ والشموع والمطاط والألياف. فيالج دود الحرير هي أساس صناعة الحرير الآسيوية العريقة. ومنذ قرون يستخرج البرازيليون المطاط من الأشجار.
ويقدر أن 4,5 بلايين نسمة (نحو 80% من سكان العالم) ما زالوا يستخدمون النباتات مصدراً رئيسياً للدواء. واستعمال معظم هذه الأدوية يعتمد على معارف متوارثة من الأسلاف. من جهة أخرى، نحو 30% من جميع المستحضرات الطبية الموجودة في الأسواق الآن هي من أصل نباتي وحيواني. فالمضادات الحيوية، مثل البنيسلين، تستخرج من العفن ومن مصادر لا تخطر بالبال، مثل جلد الضفدع الافريقي ذي المخالب. ولعاب الوطواط الماص للدماء يستعمل لفتح الشرايين المسدودة. واليام البري (ضرب من البطاطا) يحتوي على مواد كيميائية مضادة للالتهاب. وبعض علاجات سرطان المبيض والثدي تستخرج من لحاء شجرة الطقسوس الباسيفيكية. وتحتوي نباتات كثيرة على مواد كيميائية تستعمل في صنع مسكنات الألم ومنشطات ضغط الدم وأدوية الملاريا واللوكيميا (ابيضاض الدم). ومعظم النباتات لم تستكشف بعد للوقوف على خصائصها الطبية المحتملة.
المحيطات أيضاً غنية بالتنوع البيولوجي. ويحتمل أن تصبح المنتجات البحرية الطبيعية مصدراً أرحب لمستحضرات طبية ومتممات غذائية ومواد زراعية، ولاجراء أبحاث بيوطبية تتيح للانسان فهماً أفضل للأمراض وعلاجها. ومع اتجاه أنواع حية كثيرة الى الزوال في المحيطات وغابات المطر الاستوائية وموائل أخرى، فاننا نفقد فرصة الحصول على أدوية قيّمة لأمراض ما زالت مستعصية على العلاج.
تلقيح وتنقية وتعديل مناخ
المعتقدات الاخلاقية والدينية حول العالم تدعو الى احترام الطبيعة وحمايتها. وهناك كائنات، مثل الصقور والمها، باتت جزءاً من التراث والقيم الحضارية. وكم من حيوان أو نبات ألهم أرباب الغناء والقصص والرقص والشعر والخرافات والنقوش والطقوس والمهرجانات والأعياد.
علاقة الانسان بالتنوع البيولوجي واضحة أيضاً من خلال العناية بالحدائق وتربية الحيوانات الأليفة ومراقبة الطيور ونشاطات أخرى. والطبيعة، بالنسبة الى كثيرين، مصدر لا مثيل له للراحة والتأمل والتجدد والجمال والسلام. وتشير بحوث علمية إلى أن الصحة الفكرية والأوضاع الاجتماعية تتأثر بفقد الاتصال مع البيئة الطبيعية وأشكال الحياة فيها.
وتوفر لنا الطبيعة خدمات تمدنا بأسباب الحياة، وقيمتها أكبر بكثير مما يظن معظم الناس. فمع تناول لقمة من كل ثلاث لقمات، يمكنك أن تشكر حيواناً ملقِّحاً. فكثير من النباتات المزهرة تعتمد على حيوانات، مثل النحل والفراش والدبابير والخنافس والطيور والوطاويط، كي تلقَّح وتنتج الثمار. ويعتمد 30% من محاصيلنا الغذائية، بما فيها اللوز والتفاح والتوت والكرز والشوكولاته، على خدمات مجانية تؤديها حيوانات ملقحة. كما تعتمد عليها محاصيل علفية مثل الفصة (الألفالفا) والتبن وكثير من النباتات البرية التي توفر الطعام والمأوى للحيوانات. لكن الملقِّحات معرضة للخطر، وبينها نحل القفران المستخدمة لانتاج العسل على نطاق واسع. كما أن تجزئة الموائل الطبيعية وشرذمتها وتدهورها واستخدام المبيدات وادخال أمراض وأنواع حية غريبة الى نظم ايكولوجية لا وجود لها فيها أصلاً، تساهم بشكل مطرد في تناقص الحيوانات الملقحة. فلنتخيل أن يأتي يوم يضطر فيه المزارعون الى تلقيح محاصيلهم بأيديهم نبتة نبتة، بعد انقراض الحيوانات الملقحة طبيعياً، كما يحصل أحياناً في عملية تلقيح النخيل.
ويحافظ التنوع البيولوجي على جودة الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه. فالغابات تنقي الهواء والماء بامتصاص ثاني أوكسيد الكربون، وتنظيم بخار الماء، واطلاق الأوكسيجين، وتدوير المغذيات. ومن خلال التركيب الضوئي (التحليل الكلوروفيلي) تطلق الأشجار والنباتات الأخرى الاوكسيجين الذي يساعد في الحفاظ على هواء صالح للتنفس. بهذه العملية، تؤدي النباتات دوراً حاسماً في الحفاظ على الدورة المائية على الأرض. وتعمل الأراضي الرطبة، والاعداد الكبيرة من البكتيريا والكائنات الدقيقة الأخرى التي تؤويها، كمصافٍ لتنقية المياه. وتطلق نباتات الأراضي الرطبة الاوكسيجين وتمتص ثاني اوكسيد الكربون أيضاً.
باطلاق الرطوبة عبر الأوراق، وتوفير الظل، تلطف النباتات الأجواء، فيعتري الناس والحيوانات شعور بالبرودة. وتؤدي الغابات دوراً هاماً في تعديل المناخ. وبما أن الأشجار والنباتات الأخرى في الغابات تطلق الاوكسيجين وتمتص ثاني اوكسيد الكربون، وهو غاز الدفيئة الأكثر شيوعاً وتسبباً في الاحتباس الحراري، فانها بذلك تعمل على تخزين الكربون وتساعد على تخفيف الاحترار العالمي. وتبلغ مساحة الغابات العربية نحو 80,5 مليون هكتار (5,91% من المساحة الاجمالية) اضافة الى 509 ملايين هكتار (37,2%) من المراعي الطبيعية. وتمتلك السودان وحدها 55% من مساحة الغابات العربية، بينما تمتلك الصومال 11,2% والمغرب 11,2% وموريتانيا 5,5% واليمن 5% والجزائر 5%. ويستحوذ السودان والصومال على 28,5% و10% من مساحة المراعي الطبيعية العربية، وهذا يفسر وجود ثروة ضخمة من الحياة البرية في هاتين الدولتين. وكذلك تفعل المحيطات اذ تتفاعل مع الجو. فالطحالب التي تعيش في المحيطات تمتص ثاني اوكسيد الكربون، والتيارات والرياح البحرية تساعد على تنظيم المناخ في العالم.
والنظم النباتية، خصوصاً الغابات والأراضي الرطبة، تساعد على كبح الفيضانات. فجذور النباتات تثبت التربة في مكانها، وتمنع انجرافها وانزلاقها. كذلك تحفظ النباتات رطوبة التربة، مما يخفف آثار موجات الجفاف. أما الأراضي التي تعرّى من الغابات والنباتات، فتقل قدرتها على الاحتفاظ بالماء. ولهذه الخدمات الطبيعية أهمية خاصة للناس الذين يعيشون على ضفاف الأنهار والخطوط الساحلية وفي المناطق القاحلة.
تدوير المغذيات وتنوع الموائل
أمسك قليلاً من التراب بيدك، وسوف تكتشف عالماً جديداً. فقد وجد الخبراء أن حفنة تراب يمكن أن تحتوي على نحو 30.000 من الأوليات (الحيوانات الوحيدة الخلية) و50.000 من الطحالب و400.000 من الفطريات وبلايين البكتيريا المتنوعة. وهناك كائنات أكبر، مثل الديدان والحشرات والعث، تعيش أيضاً في التربة. وهي تعمل على تفكيك النباتات والحيوانات الميتة، وتعيد تدوير المغذيات لانتاج مواد عضوية تخصب التربة.
توفر النظم الايكولوجية الطبيعية موائل للحيوان والنبات حول العالم. فالغابات والشعاب المرجانية وأعماق المحيطات تؤوي كثيراً من الأنواع الحية. والأراضي الرطبة، التي تجمع البيئتين المائية والأرضية، تغذي الطيور والأسماك وحيوانات أخرى وتؤمن لها المأوى. ومصبات الأنهار، حيث تلتقي التيارات وحركات المد والجزر في المياه المالحة والمياه العذبة، هي موائل كثير من الكائنات المائية التي نستهلكها، ومنها الأسماك والأصداف والسرطانات وغيرها من القشريات. وتشكل البحيرات والأنهار، على سبيل المثال، 0.01 في المئة فقط من كميّة المياه على الأرض، لكنها تحتوي على ربع جميع الأنواع الحية المعروفة. وفي العالم العربي بحيرات عذبة ومالحة. فعلى سبيل المثال، تشكل بحيرات شمال الدلتا في مصر نحو 25% من مساحة الاراضي الرطبة في حوض البحر المتوسط. وتشكل البحيرات والمستنقعات في جنوب السودان والصومال، وواحة الازرق في الاردن التي اعتمدت كبحيرة دولية لهجرة الطيور منذ عام 1977، مسطحات مائية ضخمة تأوي اليها الحياة البرية والطيور المحلية والمهاجرة.
والتنوع البيولوجي مصدر دخل لبلدان العالم. فكثير من الناس يقصدون الغابات والشواطئ والجبال والمروج والبحيرات والبرك ومصبات الأنهار ومجاري المياه، لقضاء اجازات ينعمون خلالها بالراحة والاسترخاء. ويزور المنتزهات الطبيعية والحدائق الوطنية مئات ملايين الأشخاص، وتُنفق سنوياً بلايين الدولارات على ممارسة نشاطات في الطبيعة مثل تسلق الجبال والتنزه سيراً على الأقدام والتخييم وصيد الأسماك والطيور والحيوانات ومراقبة الحيتان وتصوير الكائنات البرية. في الولايات المتحدة، مثلاً، أنفق الناس نحو 16 بليون دولار في السنة الواحدة خلال التسعينات على رياضة صيد الأسماك، وهذا يزيد كثيراً على مبلغ 8.2 بلايين دولار سنوياً الذي جناه الحصاد التجاري العالمي لأسماك المياه العذبة، علماً أن عدد الذين يزورون حدائق الحيوان وأكواريوم الأحياء المائية في الولايات المتحدة وكندا يفوق عدد الذين يحضرون جميع المباريات الرياضية في البلدين معاً. ويتزايد عدد السياح البيئيين حول العالم، الذين يسافرون للتمتع بالطبيعة والثقافات المتنوعة.
انقراض جماعي
في ضوء السجلات الاحفورية، يقدر أن ما يراوح بين نوع وعشرة أنواع ينقرض كل سنة نتيجة عوامل طبيعية. لكن معدل الانقراض حالياً أكبر من المعدل الطبيعي بمئات الأضعاف. ويرى كثير من العلماء أننا الآن وسط مرحلة انقراض جماعي غير طبيعي. واذا استمر الانقراض بهذا المعدل المرتفع، فانه سيفوق المعدل الطبيعي بنحو 10 آلاف ضعف، وستكون النتيجة انقراض نوعين من كل ثلاثة أنواع على اليابسة مع نهاية القرن الحالي.
النمو السكاني وتزايد الاستهلاك البشري والتقدم التكنولوجي تحدث ضغطاً هائلاً على النظم الطبيعية. وخلال السنوات الخمسين الماضية ازداد عدد سكان العالم من 2.5 بليون نسمة الى أكثر من 6.1 بلايين، وتقدر الأمم المتحدة أنه قد يصل الى 9 بلايين بحلول سنة 2050. وارتفع الاستهلاك العالمي للطاقة ثلاثة أضعاف. ومزيد من الناس يحتاج الى مزيد من الأرض والماء والغذاء والمعادن. وكلما زاد استهلاكنا لموارد الأرض، كلما حصلت خسارة مقابلة في التنوع البيولوجي. ولو تسنى لكل سكان العالم أن ينعموا بمستوى المعيشة السائد في الولايات المتحدة حالياً، لاحتاجوا الى أربعة كواكب أخرى مثل الأرض لإعالتهم.
الأسباب الرئيسية لخسارة التنوع البيولوجي خلال القرن الحالي تشمل تغيرات في استخدام الأراضي، وتغير مستويات ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وتغير المناخ، وجلب أنواع دخيلة. وستؤدي غالبية هذه الضغوط الى تدهور الموائل وخسارتها، فضلاً عن إلحاق أذى مباشر بالأنواع الحية. والناس يعدّلون هذه الموائل في أنحاء العالم، فيجتثون الغابات، ويطمرون المستنقعات، ويحرثون المروج لتحويلها الى مزارع، ويربون المواشي والدواجن في أراض عشبية لم تطأها قدم، وينقبون عن المعادن، ويبنون مستوطنات جديدة، ويشقون طرقات، وينشئون مراكز تجارية ومباني مكاتب وملاعب ومنتجعات سياحية. وجميع هذه الممارسات تغير المناظر الطبيعية والجريان الطبيعي للمياه وتركيبة الأنواع الحية في المنطقة. ويدمر الانسان الموائل المائية من جراء السدود التي يقيمها على الأنهار وشباك الصيد التي يجرف بها قيعان البحار.
وغالباً ما يجلب الناس معهم، لغاية أو من غير قصد، أنواعاً غريبة الى أماكن جديدة حيث لا توجد لها مفترسات طبيعية، فيتعذر إبقاء أعدادها تحت السيطرة. وهذه الأنواع الغازية، أو الدخيلة، هي السبب الثاني الأكثر أهمية لخسارة التنوع البيولوجي، بعد تدمير الموائل. وقد لعبت دوراً رئيسياً في تناقص أكثر من ثلث الأنواع الحية المعرضة لخطر الانقراض.
ويستهلك الناس بعض الأنواع النباتية والحيوانية بمعدل يفوق قدرتها على التجدد، مما قد يؤدي الى انقراضها. وتشهد تسعة من مصايد الأسماك الرئيسية في محيطات العالم تراجعاً بسبب الصيد الجائر وتلوث المياه وتدمير الموائل. وهناك أنواع تجارية شائعة مهددة الآن، مثل سمك التونة الجنوبي ذي الزعانف الزرقاء وهلبوط المحيط الأطلسي وسلمون المحيطين الهادئ والأطلسي. ومن جهة أخرى، تهدد معدلات القطع الحالية بزوال أشجار الماهوغاني وأنواع شجرية أخرى تحتاج الى سنوات طويلة لتنمو. وتنفق 10 بلايين دولار سنوياً في سوق الأحياء البرية لشراء حيوانات وأدوية شعبية ومأكولات غرائبية وقطع للزينة ولاستعمالات أخرى، مما يهدد الفيلة والدببة والنمور والباندا ووحيد القرن وفرس البحر والسلاحف والمرجان الملون والطيور والنباتات الاستوائية وغيرها. ويعتمد نمو ربع التجارة بالأحياء البرية على الصيد غير المشروع.
وكلما ازداد الاستهلاك ازدادت النفايات والملوثات التي يولدها، مما يهدد التنوع البيولوجي وصحة الانسان بالذات. ويأتي التلوث بعدة أشكال، منها التسربات النفطية والأمطار الحمضية وسموم الأسمدة والمبيدات والمياه المبتذلة التي يتم التخلص منها في المدن والأرياف من دون معالجة. وقد يقتل التلوث كائنات حية على الفور، أو يضعفها بافساد وظائفها الحيوية مثل الحركة والتوالد. والمبيدات تؤذي الحشرات البرية الملقحة، بما في ذلك مستعمرات نحل العسل، وهذا بدوره يخفض الغلال الزراعية. ويمكن أن يسبب تسرب المبيدات الى الأنهار والبحيرات والمناطق الساحلية آثاراً سلبية على النظم الايكولوجية المائية. ففي الولايات المتحدة وحدها تقتل المبيدات نحو 75 مليون طائر وبلايين الحشرات غير المستهدفة في الاراضي الزراعية كل سنة.
وثمة أدلة جوهرية على أن الناس يساهمون بتغيرات كبيرة في المناخ العالمي، مما يهدد الحياة كما نعرفها. والسرعة المتوقعة للتغيرات المناخية ترافقها خسارة مباشرة للموائل الطبيعية، تمنع بعض الأنواع من التكيف بسرعة كافية، فتنقرض محلياً أو على نطاق أوسع، وتضيع الى الأبد أدوارها في النظم الطبيعية. ويؤثر تغير المناخ في كثير من النظم الايكولوجية. فالشعاب المرجانية "تبيضّ" في أنحاء العالم، اذ تخسر الطحالب الضرورية التي تعيش متضامنة معها، بسبب ارتفاع درجات حرارة المياه. وكثير منها لا يعود الى حالته الطبيعية. ويحتمل أن تختفي في مناطق معينة بعض النظم الايكولوجية مثل المروج الألبية في جبال الروكي وبعض الجزر المرجانية. وينتظر أن تعاني نظم أخرى، مثل الغابات في جنوب شرق الكرة الأرضية، تحولات رئيسية في تركيبة أنواعها، أو أن تتجزأ الى قطع من المروج العشبية والغابات. أما السلع والخدمات التي تفقد بسبب تجزئة النظم الايكولوجية أو اختفائها، فقد يكون تعويضها عسيراً أو مستحيلاً.
وقد تعرضت الموارد الطبيعية في الدول العربية خلال السنوات الأربعين الأخيرة لاستغلال غير مرشَّد، نتج عنه اختلال في التوازن البيئي الحيوي النباتي والحيواني، كان من أهم مظاهره تسارع عمليات التصحر، وانجراف التربة، وتدهور المراعي الطبيعية والغابات، وتعرض العديد من أوجه الحياة البرية لخطر الانقراض، وفقد المادة الوراثية التي لا يمكن تعويضها. وكان لهذا التدهور البيئي الرهيب أثر مؤلم على حياة الانسان نفسه.
نتائج ومضاعفات خسارة التنوع البيولوجي
خسارة التنوع البيولوجي تحد كثيراً من نوعية حياتنا، ولا سيما تأمين الغذاء والكساء والمأوى للأجيال المقبلة. ولا يمكن احتساب خسارة أنواع غير مكتشفة قد تكون مصدراً لأصناف جديدة من الأغذية والأدوية والوقود والأخشاب وغيرها. كما أن خسارة الخدمات التي تؤديها النظم الايكولوجية، مثل التلقيح وتوفير هواء وماء نظيفين وتنظيم المناخ والتحكم بموجات الجفاف والفيضانات واعادة تدوير المغذيات، تؤثر على جميع أنواع النباتات والحيوانات، وليس فقط على البشر. وهناك أيضاً كلفة التأثيرات غير المعروفة التي يحدثها التغير في نظم ايكولوجية أخرى أو في كوكب الأرض برمته.
نحن بحاجة الى معرفة المزيد عن كيفية عمل النظم الايكولوجية والأنواع التي تعيش فيها وغناها الوراثي وموائلها المعقدة. وقد أقيمت حول العالم مناطق محمية كثيرة بهدف المحافظة على الأنواع والنظم الطبيعية وإبطاء وتيرة خسارة تنوعها. وتراوح هذه المناطق من الغابات والمنتزهات الوطنية والاقليمية ومحميات الأحياء البرية والصيد وأماكن التسلية والمناطق العازلة والممرات البيولوجية الى المناطق المخصصة لأغراض تعليمية وعلمية وثقافية وتقليدية. ولكن لم يخصص إلا نحو 5% من اليابسة للمنتزهات والمحميات.
تلجأ دول كثيرة الى اصلاح بعض نظمها الايكولوجية المتدهورة واعادتها قدر الامكان الى وضعها الأصلي. وتقام حدائق نباتية بمثابة بنوك للبذور وأراض لاستنبات أنواع معرضة للخطر. وتحفظ بذور النباتات المحلية لضمان بقائها مستقبلاً كي يتسنى انتاج محاصيل غذائية ونباتات طبية وغير ذلك. ويزرع نحو 85 ألف نوع من النباتات، من أصل 270 ألف نوع معروف، بغية معرفة المزيد عن تاريخها الطبيعي والحفاظ على مخزونها الوراثي.
حدائق الحيوان وأحواض الأسماك (أكواريوم) مؤسسات تعليمية وبحثية مهمة. فهي تقرب الحياة البرية الى الجمهور، وبعضها يؤدي دوراً رئيسياً في عمليات استيلاد الأنواع المعرضة للخطر خارج موائلها الطبيعية. وتطلق في البرية أنواع مستولدة في الأسر لزيادة أعدادها المتناقصة. وتبذل وكالات حكومية ومنظمات محلية وعالمية غير ربحية ومدارس ومعاهد وجامعات وحدائق حيوان ونبات ومحميات ومؤسسات أخرى جهوداً كبيرة لتزويد المواطنين معلومات بيئية ذات قاعدة علمية بحيث يتسنى لهم اتخاذ قرارات صائبة.
وتخلق السياحة البيئية حوافز لحماية التنوع البيولوجي، وتخفيف تأثيرات التنمية على النظم الايكولوجية المحلية. فمن رحلات مراقبة الطيور في أميركا الجنوبية الى رحلات التصوير في براري افريقيا ورحلات الغوص في اوستراليا، توسعت السياحة البيئية في السنوات الأخيرة لتشكل جزءاً من الحركة باتجاه التنمية المستدامة. وهي تفيد الاقتصادات المحلية بزيادة الطلب على المأكل والمسكن والمرشدين المحليين، فضلاً عن المصنوعات الحرفية والمنتجات الأخرى التي يبرع بها السكان.
وقد أبرمت معاهدات دولية لحماية الأنواع الحية، أهمها اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع النباتية والحيوانية البرية المهددة بالانقراض (سايتس) التي أقرت عام 1975، واتفاقية التنوع البيولوجي التي أقرت عام 1992 وأصبحت قانوناً دولياً عام 1993، علماً أن الولايات المتحدة لم تنضم اليها بعد.
أرض العرب
ان اتساع رقعة الوطن العربي وموقعه الاستراتيجي في قلب العالم القديم، ملتقى قارات آسيا واوروبا وافريقيا، واحاطته بالمحيطات والبحار من الشمال والغرب والشرق والشمال الشرقي، وتخلل البحر الأحمر والبحر الميت لأراضيه، ومرور خط الاستواء في أقصى جنوبه ومدار السرطان قرب منتصفه، وامتداد الصحراء الكبرى في جنوبه وتواجد الجبال والهضاب في شماله وجنوبه، وتباين تكويناته الطبيعية من جبال شاهقة الارتفاع ومنخفضات وأغوار وسهول وهضاب، أدت كلها الى تباين مناخي وبيئي واسع رافقه تنوع بيولوجي كبير. وموقعه الاستراتيجي والاقتصادي المهم، الذي جعله موطناً لحضارات كثيرة جعله أيضاً هدفاً دائماً للغزاة والطامعين في خيراته، مما أثر سلباً على غطائه النباتي وتربته وعرضهما للانحسار والتدهور واختفاء كثير من الانواع الحية.
لقد بقي التنوع البيولوجي العربي غنياً حتى بداية القرن العشرين. ومع تنوع الأنشطة البشرية والتقدم التكنولوجي تعرض لاضطرابات كثيرة أدت الى اندثار عدد كبير من الأنواع النباتية والحيوانية، كما أصبح كثير منها مهدداً بالانقراض. لذلك، مهم جداً التعرف على حالة التنوع البيولوجي في العالم العربي، وتقييم المعلومات المتوفرة عنه، واقتراح البرامج الضرورية على المستوى الوطني والعربي والدولي لصيانته وتنميته.
كتبه: عماد فرحات
استناداً الى تقارير برنامج مراقبة التنوع البيولوجي في مؤسسة سيمثسونيان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، والصندوق العالمي للطبيعة، والمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة
راجعه: د. جورج طعمه
كادر
تسعير خدمات الطبيعة الحية
الخدمات التي تؤديها النظم الايكولوجية لا تقدر بثمن، إذ لا حياة من دونها، بما في ذلك حياة الانسان. واذا حاولنا أن نقدر قيمة هذه الخدمات حول العالم، فانها تبلغ نحو 33 تريليون دولار في السنة (التريليون 1000 بليون)، أي ضعفي قيمة جميع البضائع والخدمات التي ينتجها الانسان والتي تقدر بنحو 18 تريليون دولار. وعلى سبيل المثال، فان مستجمع الأمطار في جبال كاتسكيل يزود مدينة نيويورك بحاجتها من الماء حالياً. واستبداله بمصدر آخر يكلف نحو 8 بلايين دولار، اضافة الى كلفة التشغيل السنوية المقدرة بـ300 مليون دولار، وهذا ثمن باهظ لمورد توفره مجاناً نظم ايكولوجية سليمة.
تخيلوا ما قد يترتب على استبدال المنتجات والخدمات الواردة في هذا الجدول:
منتجات وخدمات توفرها النظم الايكولوجية
خدمات بكتيرية في التربة، مثل تحويل النيتروجين الى شكل صالح لاستعمالات المحاصيل والمراعي والغابات والنباتات الطبيعية
تلقيح الحشرات لنحو 40 محصولاً تجارياً في الولايات المتحدة
نشاط اقتصادي يولده 350 مليون زائر للحدائق الوطنية والمحميات البرية وأراض عامة أخرى، من خلال الانفاق على صيد الأسماك والتنزه والتسلق وصيد الطيور والحيوانات ومراقبة الحيتان وتصوير الكائنات البرية
أدوية وعقاقير محتوية على مواد مأخوذة او مستخرجة من نباتات برية تباع سنوياً بموجب وصفات طبية
صفات وراثية تؤخذ من محاصيل برية وتدخل في محاصيل زراعية
ضياع مداخيل الصيد التجاري والرياضي للأسماك بسبب تدمير مصبات الأنهار في الولايات المتحدة بين عامي 1954 و1978
قيمة الأسماك المصادة من المحيطات
قيمة خدمات التحكم بالفيضانات التي توفرها المستنقعات قرب نهر تشارلز في بوسطن
منتجات من غابات طبيعة ومدارة، بما في ذلك الاخشاب وحطب الوقود والصمغ والثمار والجوزيات والفطر والعسل
القيمة المقدرة في الولايات المتحدة
33 بليون دولار في السنة
30 بليون دولار في السنة
أكثر من 400.000 فرصة عمل و28 بليون دولار في السنة
أكثر من 15 بليون دولار
8 بلايين دولار في السنة
أكثر من 200 مليون دولار
2.5 بليون دولار في السنة
72.000 دولار لكل 4000 متر مربع من المستنقعات
3 ـ 8 بلايين دولار في السنة
كادر
مزارع للغزلان والنعام ذات جدوى اقتصادية
حاولت دول كثيرة اقامة مزارع للحيوانات البرية، كما في زامبيا وزمبابوي وجنوب افريقيا وناميبيا وكينيا. ومن ميزات هذه المزارع قدرة الحيوانات البرية على مقاومة الامراض من دون تحصينات، واكتفاؤها بمقدار ضئيل من مياه الشرب، وتحسن المرعى الطبيعي بوجودها، فضلاً عن أن انتاجها يتم بتكاليف أقل ومردود أعلى من الحيوانات المستأنسة.
وقد أقيمت مزارع للغزلان في اسكوتلندا لتصديرها الى ألمانيا بشكل رئيسي. وتمثل مزارع الغزلان في نيوزيلندا (أكثر من 2000 مزرعة) ثلثي مجموع مزارع الحياة البرية، والبقية مزارع للأرانب البرية والخنزير البري والماعز البري. ويربى غزال ايلاند في اوكرانيا، وهو بقر جبلي أثبتت تربيته أنها مجدية اقتصادياً وانتاجه للحليب مرتفع نوعاً.
وتنتشر مزارع النعام من جنوب افريقيا الى المملكة العربية السعودية وصولاً الى الصين. وهي تربى من أجل لحمها وريشها وبيضها. وقد اقترحت خطة خمسية لتطوير الحياة البرية في الصومال، منذ الثمانينات، اقامة مزارع مها لانتاج اللحم ومزارع نعام لانتاج الريش والبيض ومزارع تماسيح لانتاج الجلد ومزارع حيوانات برية نادرة ومهددة بالانقراض لتصديرها الى حدائق الحيوان في العالم.
ولعل التجربة الكينية في احلال الغزال محل البقر خير مثال من حيث التقييم الشامل. وهنا ملخص لنتائج هذه التجربة بعد ثلاث سنوات:
- تحسنت المراعي الطبيعية في مزرعة الغزلان بشكل واضح، حيث ازداد الانتاج العلفي من الاعشاب بمعدل 32% عنه في مزرعة الابقار.
- رغم تساوي الحمولة الحيوانية في كلتا المزرعتين عند بداية التجربة، فان حمولة الغزلان في نهايتها كانت ضعفي حمولة الابقار في المساحة ذاتها.
- لم يسجل أي رعي جائر حول نقاط مياه الشرب في مزرعة الغزلان، خلافاً للحال في مزرعة الابقار.
- تفوق لحم الغزال في جودته على لحم الابقار في الطعم، وكانت لحوم الغزلان منخفضة الدهون وخاصة المشبعة.
- الغزلان أسرع نمواً بكثير من العجول، لذلك كان انتاج لحم الغزال في نهاية السنوات الثلاث ضعفي انتاج الابقار تحت ظروف المزرعة، ونحو 15 ضعفاً تحت ظروف التربية التقليدية لدى المزارعين.
- تستعمل البقرة الواحدة مساحة خمسة هكتارات في ثلاث سنوات لانتاج جلد واحد يباع بأربعة دولارات. وفي الظروف ذاتها تنتج ثمانية جلود غزلان يباع كل منها بخمسة دولارات. فتكون حصيلة الثلاث سنوات 120 دولاراً من جلود الغزلان و12 دولاراً فقط من جلود الابقار.
- كان صافي الربح لمزرعة الغزلان 4,7 أضعاف صافي مزرعة الابقار، وكانت تكاليف مزرعة الغزلان 20% من الدخل الاجمالي، في مقابل 66% للأبقار.
لتشجيع اقامة مزارع الحياة البرية في الدول العربية، يمكن أن تقوم الحكومات وهيئات التمويل بانشاء صندوق لاقراض المربين، وهم من السكان الذين يقيمون داخل المحميات أو حولها، بحيث يتم سداد القروض عند تسويق الانتاج. وينبثق عن ذلك قيام جمعيات متخصصة للمربين لحل مشاكلهم وتدريب الجدد وتقديم المشورة والخدمات اللازمة.
كادر
هل تعيد المحميات ما دمر من أرز لبنان خلال 5000 سنة؟
من أبرز شواهد تأثير الانسان على البيئة الطبيعية التدمير الهائل للكساء النباتي في المنطقة العربية. وعلى سبيل المثال، كان جبل لبنان في الماضي مغطى بشجر الأرز الذي كان أسطورياً في قوته وضخامته ومزاياه في أنحاء العالم القديم. وقد بدأت الاطاحة بتلك الأشجار قرابة العام 3000 قبل الميلاد، عندما بدأ الفينيقيون تجارتهم المربحة بخشب الأرز مع فراعنة مصر والآشوريين والبابليين وغيرهم. ومضت خمسة آلاف سنة من تلك الحضارات القديمة على ذلك المنوال، تاركة مرتفعات لبنان أثراً مدمراً لمجدها السالف.
وقيل ان الامبراطور الروماني هادريان أذهله تدمير أحراج الأرز اللبنانية أثناء جولته في الجانب الشرقي من امبراطوريته، فأمر بمئة نقش حجري كشواهد لما بقي حياً من غابات الأرز في النصف الشمالي من جبل لبنان، لتكون عقاراً إمبراطورياً، الأمر الذي يعتبر من أوائل المجهودات في التاريخ لانشاء محميات طبيعية. واليوم لم يبقَ من تلك الاحراج، التي كانت شاسعة، إلا بقع متناثرة، وباتت نقوش هادريان ذكرى صامتة لمحاولة في الحفاظ على الحياة البرية. كما تصور نقوش معبد حتشبسوت في مصر القديمة منذ عام 1540 قبل الميلاد رحلات الحياة البرية.
ومنذ نحو ألفي عام بدأ انشاء مناطق لحماية الحياة البرية في حوض البحر المتوسط وشبه الجزيرة العربية، لا يزال بعضها قائماً الى يومنا هذا. ولعل أول من قام بتنظيم مناطق لحماية الحياة البرية هم الاغريق والرومان. وحتى العام 1700م، خصصت غالبية المناطق المحمية للقنص أو لحماية الاحراج أو لاهمية استراتيجية عسكرية أو مدنية. وكانت محمية بحيرة اشكول في تونس، أثناء حكم عبدالله أبي زكريا عام 1240، مثالاً لتلك الأنواع من المحميات التي استمرت اثناء فترة الحكم العثماني.
وبين 1700 و1900 انتشرت محميات القنص ومحميات الاحراج في أنحاء الامبراطورية العثمانية وحتى الجزائر غرباً، بفضل القانون المدني العثماني المستمد من الشريعة الاسلامية والذي كان يقضي بأن الارض وما عليها من أشجار برية ملكيتها جماعية ولا تؤول لأحد. وشهد القرن العشرون انشاء المحميات الطبيعية في صورتها الحديثة. ومنذ 1950 برزت اتجاهات جادة في مجال حماية البيئة وازدياد اعداد المناطق المحمية العربية واتساعها. واصبحت معظم الاقطار حالياً تحوي أنواعاً من المحميات. وفي العقدين الأخيرين امتد نشاط انشاء شبكات من المحميات الى البحرين والكويت ولبنان وسورية والاردن وليبيا وعمان وقطر والامارات واليمن، والى السعودية التي تبنت استراتيجية للحفاظ على الطبيعة والموارد تشمل انشاء نحو 200 محمية.
معظم ما تبقى من غابات أرز لبنان محمي اليوم في مناطق متفرقة، أكبرها محمية أرز الشوف التي تضم مئات الألوف من الأشجار الصغيرة والكبيرة. فهل تتوسع رقعتها لتغطي بعض ما كان من غابات دهرية؟