الحديث عن مصادر متجددة للطاقة يتخذ أحياناً كثيرة صيغة اللؤم ضد العرب. ولم نقرأ سابقاً عبارة أكثر وضوحاً مما كتبته مجلة "فورتشن" الاميركية مؤخراً، في سياق تحقيق عن بدائل النفط، إذ قالت: "إن خلايا الوقود التي تعمل بالهيدروجين ستسمح لنا بإرسال قبلة الوداع الى شيوخ النفط".
وتحذر المجلة في تحقيق مثير من مخاطر اعتماد الدول الصناعية، والولايات المتحدة خاصة، على النفط المستورد من الدول العربية. فأميركا تستورد 60 في المئة من استهلاكها النفطي، الذي يزداد باطراد. إنها تستهلك يومياً عشرين مليون برميل من النفط، بزيادة متواصلة بنسبة 18 في المئة خلال السنوات العشر الأخيرة. وفي حين يستخدم الاقتصاد الأميركي 25 في المئة من إنتاج النفط العالمي، لا تملك الولايات المتحدة أكثر من 3 في المئة من الاحتياط النفطي المعروف. ويقول ريد كافاني، رئيس معهد البترول الأميركي: "لقد وضع الله النفط في بعض الأماكن الصعبة، وليس لنا خيار غير الذهاب الى حيث يوجد النفط".
ولأن النفط سيبقى مصدر الطاقة الأساسي في المستقبل المنظور، يتطلع واضعو الاستراتيجيات السياسية ـ الاقتصادية المعادون للعرب الى مناطق بديلة لاستيراده. فروسيا رفعت انتاجها بمعدل 600 ألف برميل يومياً خلال السنة الماضية. وتتجه الانظار، بعد التطورات في أفغانستان، الى تطوير حقول النفط حول بحر قزوين، من كازاخستان الى تركمانستان وأذربيجان. غير أن الخبراء يتفقون على أن بضعة ملايين من البراميل يومياً كطاقة انتاج قصوى من بحر قزوين "غير كافية للاستغناء عن البترول العربي".
ويرى المحللون الأميركيون أن تطوير مناطق أخرى لانتاج النفط الرخيص قد يضعف من قوة منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبيك) لكنه لن يلغي دورها. فهي ستبقى، وخاصة الدول العربية المنتجة منها، المصدر الرئيسي للنفط في العالم. فالاحتياطي النفطي المثبت يتجاوز 650 بليون برميل في الدول العربية (نحو 260 بليون برميل في السعودية وحدها)، بينما لا يتجاوز 55 بليون برميل في أميركا الشمالية، و95 بليون برميل في أميركا الجنوبية والوسطى، و59 بليون برميل في اوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق، و44 بليون برميل في الشرق الأقصى. أي أن الاحتياطي العربي يوازي الاحتياطي النفطي في بقية دول العالم مجتمعة.
لهذا، تقترح بعض الأوساط الأميركية دعم ما يسمى "ضريبة الكربون"، كوسيلة لخفض الاعتماد على النفط من الأساس. وكما هو واضح من اسمها، فان "ضريبة الكربون" تفرض رسوماً مرتفعة على الوقود تتناسب مع نسبة الكربون التي تسببها، في اطار العمل لخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، العنصر الأساسي لظاهرة تغير المناخ. وهكذا تأتي أعلى الرسوم على الفحم الحجري وبعده البترول. أما مصادر الطاقة البديلة المتجددة، مثل الرياح والشمس والمياه، فتعفى من الرسوم. و"ضريبة الكربون"، التي بدأ تطبيقها في بعض الدول الاوروبية، تؤدي الى خفض استخدام النفط برفع سعره، وتشجيع مصادر أخرى للطاقة مثل الشمس والرياح، إذ تصبح كلفتها قريبة من سعر النفط بعد فرض الضريبة على منتجاته. لكن السياسة الاميركية الرسمية ما زالت تعارض هذا التوجه، لأن استمرار الحصول على النفط الرخيص يؤمن للصناعة الاميركية قدرة تنافسية عالية. وهذا هو جوهر الموقف الاميركي المعارض لاتفاق كيوتو حول تغير المناخ، إذ رفضت إدارة الرئيس بوش الابن أية قيود على استخدام الطاقة قد تؤثر في "طريقة الحياة الأميركية" و"قدرة المستهلك الأميركي".
هذه هي الصورة إذاً: الحصول على نفط رخيص، وإضعاف قدرة منظمة "أوبيك" في سوق الطاقة بتشجيع مصادر نفطية أخرى خارج المنظمة، واستخدام سلاح التهديد بمصادر الطاقة البديلة للاستغناء عن النفط. وكما قالت مجلة "فورتشن"، فان تطوير تكنولوجيا الهيدروجين "سيعطي شيوخ النفط قبلة الوداع".
أين أصبح العمل في ايجاد مصادر عملية للطاقة البديلة؟ شركات نفط كبرى، في طليعتها شل وبريتش بتروليوم، تستثمر آلاف الملايين في تطوير طاقة الشمس والرياح وتكنولوجيا الهيدروجين، كخيارات أكيدة للمستقبل. وتعتقد شل أن العالم سيعتمد سنة 2050 على الطاقة البديلة بنسبة 50 في المئة. وخلال السنوات العشر الأخيرة، ارتفع استخدام طاقة الرياح بنسبة 25 في المئة سنوياً، وارتفع استخدام الطاقة الشمسية بنسبة 20 في المئة سنوياً. وهذا تجاوز بأضعاف الارتفاع السنوي في استخدام الطاقة التقليدية. ومن المتوقع أن يصل انتاج أوروبا من طاقة الرياح الى 60 بليون واط سنوياً بحلول سنة 2010، أي ما يكفي لخدمة 75 مليون شخص. وتعتمد الدنمارك اليوم بنسبة 15 في المئة على الرياح لانتاج الكهرباء. ويتفق العلماء على أن الهيدروجين سيكون مستقبل الطاقة. غير أنه ناقل للطاقة، مثل الكهرباء، وليس مصدراً لها. ويمكن انتاج الهيدروجين من الماء بواسطة الكهرباء، التي يمكن توليدها من الرياح أو الطاقة الشمسية. وتفاعل الهيدروجين مع الاوكسيجين في محركات الاحتراق الداخلي ينتج عنه الماء غير الملوث، كما يمكن استخدام الهيدروجين لتشغيل خلايا الوقود النظيفة. وعدا عن شركات النفط العالمية التي تستثمر البلايين في تكنولوجيا الطاقة البديلة، والهيدروجين خاصة، فإن معظم شركات صناعة السيارات في العالم تمول برامج ضخمة لانتاج محركات عاملة على الهيدروجين، متوقعة استخدامها على نطاق واسع خلال سنوات قليلة.
كيف يواجه العرب المنتجون للنفط هذه التطورات المتسارعة؟ وهل يكون الرد على اعتبار بعض الأوساط الغربية تطوير مصادر متجددة للطاقة رصاصة الرحمة للنفط العربي، برفض التكنولوجيا الجديدة؟
خلال العقود القليلة المقبلة، سيبقى النفط المصدر الأساسي الأرخص للطاقة. وستبقى الدول العربية المصدر الرئيسي للنفط. غير أن مصادر الطاقة المتجددة أصبحت أمراً واقعاً، وخياراً محتوماً للمستقبل. وفي حين تتمتع بعض الدول العربية بثروة النفط، فجميعها تملك ثروة الشمس، إذ يقع العالم العربي، من المحيط الى الخليج، وسط أغنى حزام شمسي في العالم، يشكّل موقعاً مثالياً لانتاج الطاقة من الشمس. لذا فإن الجواب الأفضل لمن يبشرون بـ"قبلة الوداع لشيوخ النفط" عن طريق تعميم الطاقة المتجددة، هو في استخدام دخل النفط خلال السنوات المقبلة لتطوير تكنولوجيا لتنويع مصادر الطاقة. الرد ليس في الانزواء، بل في دخول عصر تكنولوجيا الطاقة المتجددة كشركاء، حتى لا تفرض علينا بعد عقود كمستهلكين. وليس ما يمنع أن يصدّر العرب الهيدروجين المستخرج من مياه البحر وطاقة الشمس في المستقبل، كما يصدرون النفط اليوم.
أما موقف الدول المصدرة للنفط من "ضريبة الكربون"، فليس من الضروري أن يكون معارضاً ودفاعياً، ما يظهرها غير مبالية بوضع البيئة وتأثير انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون على تغير المناخ، ويضعها في حلف غير معلن مع الموقف الأميركي المعارض لاتفاقية كيوتو. الحل هو في اعتماد موقف هجومي، يطالب باعطاء حصة رئيسية من الضريبة الى الدول المنتجة للنفط لاستخدامها في تطوير أساليب الانتاج النظيف في صناعاتها النفطية وبرامجها الانمائية عامة. ومن شأن هذا إحراج الدول المطالبة بضريبة الكربون، لاظهار مدى جديتها في حماية البيئة من وراء هذه الضريبة، وليس ضرب مصالح الدول النفطية.
وقد يبدأ الرد الفعلي في أبوظبي في شباط (فبراير) من السنة المقبلة. لقد تقرر أن تكون الطاقة المتجددة موضوع مؤتمر "البيئة 2003"، الذي يعقد في عاصمة الامارات برعاية الشيخ زايد. واختيار موضوع الطاقة المتجددة لمؤتمر في إحدى أكبر الدول المصدرة للنفط حدث ذو دلالات، قد يكون أبرزها اختراق حاجز الخوف من التكنولوجيا. فلا بد من قرارات جريئة لاستخدام دخل النفط، المضمون خلال العقود القليلة المقبلة، في تطوير تكنولوجيات تؤدي الى تنويع مصادر الدخل القومي، ومنها تكنولوجيا الطاقة المتجددة.
مؤتمر أبوظبي سيكون فرصة للدول العربية النفطية كي تثبت أنها راشدة من القرن الحادي والعشرين.