Friday 22 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
ياسر صاروط العمار بالطين  
كانون الأول (ديسمبر) 2003 / عدد 69
 لنفترض، عزيزي القارئ، أنك ستقدم على بناء بيتك الخاص قريباً. الأرجح أنك ستتوقف أمام الكثير من الخيارات لبناء ذلك البيت العتيد. سنطرح عليك رؤيتين عامتين لتختار إحداهما:
الخيار الأول: بيت مناخه معتدل على مدار السنة، دافئ في الشتاء وبارد في الصيف. هواؤه ذو نسبة رطوبة ثابتة ومثالية صحياً. بيت يمكنك، مع القليل من التدريب، أن تعمره بنفسك بمساعدة الأقارب والأصدقاء. مادة بنائه الرئيسية مجانية أو شبه مجانية، قابلة لاعادة الاستعمال ولو بعد مئات السنين، وذات امكانات غير محدودة على صعيد التشكيل. بيت ينسجم بتواضع مع محيطه، ويقف صامداً في مواجهة عوامل الطبيعة رغم منظره "الناعم".
الخيار الثاني: بيت برغم كلفته العالية، مناخه "متطرف" صيفاً وشتاءً، "في الصيف حريق وفي الشتاء غريق"، وبالتالي فإن كلفة تدفئته وتكييفه مرتفعة. بيت، بالرغم من منظره "الصلد"، لن يصمد طويلاً في وجه عوامل الطبيعة، وسوف تبدأ مشاكل الارتشاح (النش) والتشققات وغيرها بالنيل منه في الشتاء المقبل، اللهم إلا إذا احتطت لذلك وتكلفت "المبلغ المرقوم" على العزل.
والآن، أيهما تختار؟ أراهن أنك لن تتردد طويلاً قبل أن تختار... الثاني! وإن يكن يبدو جلياً أنه الخيار الأسوأ، ليس بسبب مازوشية مستترة لديك، بل لأن البيت الأول هو من الطين، والثاني من الاسمنت.
لا ألومك يا صديقي على خيارك، فغالب الظن أنك لم تسمع في حياتك ببيوت الطين. وإذا كنت قد سمعت، فالأرجح أن ذكرها أتى مقروناً بمجموعة من الأحكام السلبية، مثل: "بيوت الطين غير ملائمة للمناخات الممطرة"، "بيوت الطين تحتاج إلى صيانة دائمة وخاصة في الشتاء"، "بيوت الطين تعشش فيها الحشرات"، "لا يمكن إنشاء أكثر من طابق واحد من الطين"، "إنها بيوت الفقراء!"
هناك عدة حقائق لا بد من الاعتراف بها قبل متابعة المسير في هذه الطريق "الموحلة". الحقيقة الأولى هي أن استعمال الطين في البناء، والذي كان منتشراً منذ ألوف السنين في بلادنا، انقرض أو كاد منذ عقود. والحقيقة الثانية أن الأحكام السلبية التي ذكرناها قد تكون صحيحة بالنسبة الى بعض أساليب البناء التي كان أجدادنا يستعملونها. ولكن هناك حقيقة ثالثة، مجهولة على نطاق واسع، وهي أن تقنيات العمار بالطين تطورت بشكل هائل في أنحاء عديدة من العالم في الوقت الذي كانت تحتضر عندنا. وقد توصلت مراكز الأبحاث التي تهتم بالموضوع الى مجموعة كبيرة من الحلول لمشاكل الطين التقليدية.
عن ماذا نتحدث؟
ما نطلق عليه اسم الطين هنا هو تراب، كالتراب الزراعي، غير أنه لا يحتوي مثله على مواد عضوية وكائنات دقيقة تتواجد عادة في الطبقات السطحية للتربة، أي حتى عمق 50 سنتيمتراً تقريباً. إذاً، التراب الصالح للبناء هو، مبدئياً، أيّ تراب خال من المواد العضوية، ويمكن استخراجه من أية أرض ترابية على العمق المذكور. وهو يتركب بشكل أساسي من مزيج من الرمل والطمي والصلصال، بالاضافة الى الماء. وتختلف خواص الطين الفيزيائية تبعاً لعدة عوامل، أهمها: نسبة كل مكون من المكونات في المزيج، درجة خشونته أو نعومته، الأملاح والمعادن الموجودة فيه، ودرجة رطوبته.
وللطين، كما لأية مادة بناء أخرى، حسنات وسيئات. وبحسب الخبراء، سيئاته ثلاث، هي: أولاً، حساسيته للماء، لذلك يجب حمايته دائماً من المطر والثلج. ثانياً، تقلص حجمه أثناء عملية الجفاف، مما قد يؤدي الى تشققات. ثالثاً، لا يمكن إخضاع الطين لمواصفات معينة (normes) بسبب تنوّعه الكبير.
في المقابل، للطين حسنات كثيرة، أهمها أنه:
يعدل رطوبة الهواء: اذ يملك خاصية امتصاص رطوبة الهواء الزائدة بسرعة وإعادتها إليه عند الحاجة، مما يعني أن نسبة رطوبة الهواء في بيت مبني بالطين تبقى ثابتة (نحو 50%)، وهذا يؤمن مناخاً صحياً على مدار السنة.
يخزّن الحرارة: في ليالي الشتاء، مثلاً، يبث الطين الحرارة التي خزنها أثناء النهار.
يوفر الطاقة: وذلك بسبب عدم استهلاكه للطاقة في عملية تصنيعه، وبسبب قدرته الجيدة على العزل. وبالتالي فإن استعماله يساهم أيضاً بالحد من تلوث البيئة.
يمكن إعادة استعماله في أي وقت: يكفي أن نطحن الطين الجاف ونخلطه مع الماء لكي نستعمله مجدداً. ثم إنه، بعكس مواد البناء الأخرى، لا يتحول الى نفايات عند هدم المبنى. فهو فعلاً "من التراب والى التراب يعود".
يوفر في مواد البناء وتكاليف النقل: فهو ينتج عادة من "الحفرية" التي نحفرها للطوابق السفلية والأساسات. وبالتالي، فهو متوفر مجاناً في موقع البناء، أو يمكن شراؤه بثمن زهيد قد لا يتعدى كلفة نقله.
مناسب للبناء الذاتي (العونة): تقنيات العمار بالطين سهلة التعلّم والتطبيق ولا تحتاج الى معدات وتجهيزات كبيرة.
يمتص المواد الضارة والروائح الكريهة من الهواء: بامتصاصه بخار الماء (الرطوبة) يمتص الطين أيضاً كل الجزئيات التي يحملها البخار ويحتفظ بها.
قابليته الكبيرة للتشكيل: عندما يكون الطين رطباً، أي أثناء عملية البناء، يكون أشبه بالمعجونة.
عودة الشيخ الى صباه
استعمل الطين للبناء منذ ألوف السنين، وفي كل أنحاء المعمورة. وقد طورت المجتمعات المختلفة تقنياتها الخاصة وأساليبها المعمارية الملائمة لبيئاتها في استخدام تلك المادة الغنية بالاحتمالات. وحتى اليوم، فإن مدناً بكاملها وصروحاً كبيرة شيدت منذ مئات السنين لا تزال تشهد على متانة هذه العمارة وجمالها وتنوعها.
ومع اختراع الاسمنت ومواد البناء الحديثة الأخرى، تراجعت العمارة الترابية كثيراً. لكن الاهتمام بها ما لبث أن عرف تزايداً ملحوظاً منذ منتصف القرن العشرين تقريباً. فبالنظر الى أزمة السكن في البلدان النامية، وتعذر تلبية الحاجة المتعاظمة الى مساكن بمواد بناء صناعية بسبب ضعف الامكانات الاقتصادية، بدأ التفكير في حل يعتمد على مواد البناء المحلية وعلى تنشيط "المساعدة الذاتية" في البناء. ومن التجارب المعروفة في هذا المجال التجربة الرائدة للمهندس المصري الراحل حسن فتحي.
لكن الدفعة القوية التي تلقاها العمار بالطين جاءت، كالعادة، من أوروبا وأميركا. وكان أحد أهم أسبابها الطلب المتزايد على مواد بناء "صديقة للبيئة"، توفر في استهلاك الطاقة وفي التكاليف، وتؤمن مناخاً سكنياً صحياً. ومنذ سبعينات القرن الماضي تأسس العديد من مراكز الأبحاث التي تعنى حصرياً بالعمارة الطينية. وتركزت جهودها على دراسة خصائص مادة الطين لمعرفة امكاناتها بشكل دقيق، وعلى دراسة التقنيات التقليدية بهدف إعادة إحيائها وتطويرها، إضافة الى استنباط تقنيات وأساليب بناء جديدة. ومن هذه المراكز على سبيل المثال CRATerre في غرينوبل بفرنسا وFEB في كاسل بألمانيا وCSIRO في سيدني بأوستراليا.
وتوصلت الأبحاث والتجارب المستمرة منذ عقود الى معرفة مادة البناء هذه معرفة علمية دقيقة، بخصائصها الفيزيائية والكيميائية وتفاعلاتها المحتملة مع المواد الأخرى. وقد نجحت تلك الأبحاث في نفض الغبار عن التقنيات التقليدية التي أصابها النسيان أو كاد، فأعيد الاعتبار الى الكثير منها، وطور البعض الآخر لكي يتلاءم مع متطلبات البناء اليوم. والنتائج العملية لتلك الدراسات يمكن لمسها لمس اليد في المشاريع الكثيرة التي أنشئت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في عدد كبير من البلدان.
عزل مائي وحراري
لن يتسع المجال هنا لتعداد جميع التطورات التي لحقت بتقنيات العمار بالطين. وسوف نكتفي بذكر قليل من الأمثلة في مجالات ثلاث هي: تحسين مقاومة الماء، وتجنب الشقوق، وتحسين العزل الحراري.
مبدئياً، لا تحتاج الجدران الترابية الى مواد إضافية لرفع مقاومتها للماء اذا ما قمنا بالاجراءات الانشائية المناسبة، وذلك بخلاف الطين المستعمل للسطوح أو للتوريق والذي يجب ان يكون كتيماً أي لا يسمح بنفاذ الماء خلاله. وهذا ممكن مثلاً عبر إضافة مواد معينة بنسب ضئيلة. فإضافة نسبة 2 إلى 8 في المئة من الاسمنت الى الطين مثلاً تكفي لتغيير تركيبته الداخلية بحيث تتماسك جزيئاته بشكل يمنع نفاذ الماء. والنسبة نفسها من الكلس لها ذات المفعول، وخاصة مع التراب "الدسم" ذي المحتوى العالي من الصلصال. كما يمكننا الحصول على طين كتيم بإضافة نسبة 3 الى 6 في المئة من القار.
أما الشقوق التي تحدث أثناء عملية الجفاف فيمكن تجنبها بكثير من الوسائل، منها زيادة نسبة الرمل في التراب وإنقاص نسبة الرطوبة، أو إضافة ألياف تلعب دور "التسليح" في المزيج وتكون نباتية (قش، تبن، إبر الصنوبر...) أو صناعية (بلاستيكية). ويمكن الحصول على نتائج جيدة أيضاً بإضافة مواد "مسيّلة" مثل العفص أو القطرونة، التي تستعمل أيضاً في صناعة الخزف من أجل تسييل عجينة الخزف دون إضافة كثير من الماء مما يحد من التشقق.
وتحسين قابلية العزل الحراري للطين ممكن بإضافة مواد "مجوفة" اليه، كالقش، أو كريات الصلصال المنفوخ، التي تستعمل حالياً للهدف نفسه بمزجها مع الاسمنت. وهناك تقنية حديثة أخرى هي "رغوة الطين"، التي طورت في الأساس من أجل الاسمنت، وتتمثل بتصنيع رغوة ناشفة من الطين تعمل الفقاقيع الهوائية فيها على إنقاص الثقل النوعي وبالتالي زيادة قدرة العزل.
"بيت" القصيد
هذا "غيض من فيض" التطورات التي دخلت على تقنيات البناء بالطين، وباتت تمارس بنجاح في الكثير من بقاع الارض. لكنها، للأسف، لم تصل إلينا حتى الآن، مما يدعونا إلى التساؤل: لماذا تقبع مادة البناء هذه في زاوية النسيان والإهمال رغم مزاياها البيئية والصحية والإقتصادية العديدة؟
إن تراثناالمعماري العريق يحتوي على مكونات كثيرة صالحة للانطلاق منها والبناء عليها. والعمارة الطينية إحدى هذه المكونات. وهي، بامكاناتها المتعددة وقابليتها للتطور، يمكن أن تشكل أحد البدائل الجيدة للبناء اليوم.
كادر
هل تعلم؟
- أن التراب هو مادة البناء الأولى (مع الخشب) التي استخدمها الانسان لبناء مساكن ثابتة؟
- أن نحو ثلث سكان الأرض يعيشون اليوم في بيوت طينية؟
- أن 98 صرحاً (من أصل 536) من الآثار المدرجة على لائحة الأونيسكو للتراث العالمي مبنية كلياً أو جزئياً من التراب؟
- أن سور الصين العظيم (2000 ق.م.) بني أساساً من التراب، ولم يضف تلبيس الحجر اليه إلا في عصور متأخرة؟
- أن بيوت صنعاء (وغيرها من مدن اليمن) ذات الطوابق العديدة مبنية كلياً من الطين؟
- أن مطار فورت وورث في دالاس بالولايات المتحدة (1974 / 70 كلم2) مرصوف بالطين؟
- أن في ألمانيا وحدها أكثر من 100 شركة مقاولات وبناء حديثة متخصصة بالعمارة الطينية؟
- أن نحو 28,000 كيلومتر من الطرقات الحديثة في الجزائر مرصوفة بالطين (مع القار)؟
ياسر صاروط مهندس معماري متخصص بالعمارة البيئية
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
عبدالهادي نجّار يوم البيئة العالمي 2018: البلاستيك صديقنا اللدود
عبدالهادي نجّار هل تعزّز كورونا مكاسب "الهيدروجين الأخضر"؟
ستانفورد ـ «البيئة والتنمية» طاقة متجددة 100% للعالم سنة 2050؟
نيويورك ـ "البيئة والتنمية" ثروات من القمر
البيئة والتنمية إكسبو 2020 في دبي
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.