عرفت تقنيات حصاد المياه منذ العصور القديمة في البلدان العربية، مثل سورية ولبنان والأردن واليمن. واستندت الى إقامة منشآت لجمع المياه وتخزينها لاستخدامها عند الحاجة خارج فصل الأمطار في الري أو الشرب أو سقاية الحيوانات. البحيرات الجبلية هي إحدى هذه التقنيات. ومعظمها عبارة عن سدود صغيرة، أو جدران عازلة بهيكل مغلق من جسم ترابي أو ركامي أو حائط من الخرسانة، تنشأ على كامل عرض المجرى المائي أو وهاد المنحدرات والجبال، بحيث تتشكل خلفها بحيرة صغيرة يتناسب حجم مخزونها مع ارتفاع السد أو الجدار العازل. وفي غالب الأحيان، لا يتجاوز ارتفاع هذه السدود 15 متراً.
تقام هذه السدود في "الأحباس" العليا للأنهار والأودية والمنحدرات، حيث يضيق المجرى ويكون عميقاً، وبالتالي يزداد حجم التخزين مقارنة بالسطح المائي الناشئ أمام السد. الكبير منها يجهز بـ"مفيض" (spillway) يسمح بالتخلص من مياه الفيضان وتحويلها الى مجرى النهر أو الوادي أسفل السد عندما يصل مستوى الماء في البحيرة الى حد معين. كما أنها تجهز بـ"مفرغ"، هو عبارة عن بئر عريضة تحفر مباشرة أمام السد وتربط بقناة تمتد تحته إلى الجهة المقابلة من البحيرة، لتسهيل تفريغها وتأمين المياه لري الاراضي التي تقع في أسفل السد.
أما أساس تجميع المياه وراء السدّ أو الجدار العازل فيكون على شكل خندق يقام فيه جدار من الخرسانة، أو يملأ بتربة كتيمة تخترق الطبقة السطحية لقاع النهر أو الوادي الموسمي أو الوهد في المنحدر، ولعمق مناسب، لتأمين سلامة السد من الانهيار نتيجة رشح المياه عبره بعد امتلاء البحيرة.
مئات البحيرات الصغيرة
أحصت الدراسات الهيدرولوجية في لبنان وجود ما يزيد على 40 مجرى مائياً في أنحائه، منها 17 مجرى دائماً و27 مجرى موقتاً. كما تم احصاء أكثر من 4000 نبع جبلي تتجاوز غزارته 10 ليترات في الثانية. وأمام صعوبة تأمين المياه لمختلف الاستخدامات في المناطق الجبلية، كان الاهتمام بانشاء البحيرات الجبلية من خلال خطة "المشروع الأخضر" لدعم التنمية الاجتماعية الاقتصادية كما تم اقرار انشاء 8 بحيرات من أجل مياه الشرب.
وقد تم انشاء عدد من البحيرات الجبلية في إطار جهود أخرى. ولكن يمكن القول إن لبنان لم يتوسع كثيراً في انشاء هذه البحيرات، رغم الظروف الطبوغرافية والمناخية المناسبة ورغم الحاجة الى المياه.
تعتمد هذه التقنية على اقامة سدود صغيرة على المجاري المائية، أو خزانات على شكل حفر أرضية في المناطق الجبلية، بغية جمع مياه الجريان السطحي الذي ينتج من الأمطار وذوبان الثلوج أو يُستجرّ من مصادر سطحية أخرى. وتكون الخزانات مبطنة بالشرائح البلاستيكية عندما تكون طبيعة التربة غير مناسبة. وقد تنشأ البحيرات في منخفضات طبيعية يجري تعميقها وتهيئتها لتخزين ما يحوّل اليها من مياه المناطق المجاورة.
وتنعكس طبيعة استخدام البحيرات الجبلية على تصميمها. فمن أجل الاستخدام المنزلي، أنشئ عدد محدود جداً من البحيرات نظراً لصعوبة ضمان نظافة المياه. وأهم البحيرات التي أقيمت لهذا الغرض بحيرة جورة البلوط في الزعرور في منطقة صنين، وهي باستطاعة تخزينية في حدود 450,000 متر مكعب، وتستخدم بشكل أساسي لتعويض الفاقد من مياه الشرب في منطقة المتن. وقد تم انشاء السد من الاسمنت المسلح، وشكل الخزان دائري، وهو يستند الى صخور كلسية. تتم تغذية هذه البحيرة عن طريق جمع مياه الينابيع الصغيرة وتوجيهها نحوها، أو من الجريانات السطحية الناتجة بصورة رئيسية من ذوبان الثلوج والهاطل المطري الذي يتراوح بين 1200 و1500 مليمتر في السنة. وفي دراسة حديثة حول جدوى اقامة بحيرات جبلية لأغراض الشرب، تم اقتراح اقامة أربع بحيرات جديدة في بير الشيخ والظاهرية ومجدليا (عاليه والشوف) وظهور القيسماني (المتن الأعلى).
معظم البحيرات الجبلية التي أقيمت في لبنان تستخدم لأغراض الري. وهي تشمل بحيرات شبه طبيعية أُقيمت حتّى ارتفاع 1500 متر، وتتوافر فيها المياه حتى نهاية آب (أغسطس)، وتستخدم لري المزروعات أو سقاية الحيوانات. ومن أهمها بحيرة الزينية ويبلغ طولها 800 متر وعرضها 400 متر، وبحيرة رام الزينية وطولها 600 متر وعرضها 400 متر. تتم تغذية هذه البحيرات من مياه الأمطار وذوبان الثلوج (الهاطل المطري يتراوح بين 800 و1200 مليمتر في السنة). أما بقية البحيرات فتعتبر اصطناعية، وهي إما انشئت في اطار المشروع الأخضر وإما بشكل منفصل. ومن أهمها بحيرة الكواشرة في عكار وبحيرة ضهر الدرجة في جزين. هذا على مستوى الحكومي، أما على المستوى، الخاص فقد بذلت جهود لانشاء بحيرات صغيرة لتجميع مياه الأمطار وذوبان الثلوج، باستطاعات لا تتجاوز 25,000 متر مكعب لكل منها. والسدود التي أقيمت عليها هي غالباً من التربة المارنية العازلة،وبعضها من الاسمنت.
لا لزوم للطاقة
عادةً، لا تواجه البحيرات الجبلية صعوبات كبيرة في مجال التشغيل والصيانة، لكن هناك ضرورة صيانة الخزانات وتنظيفها من الترسبات عندما تكون فارغة، خصوصاً في بعض المواقع الجغرافية حيث تدعو الحاجة إلى تنظيف المجاري المائية التي تصب فيها، وهذا يندرج ضمن أعمال البلديات الروتينية، وقد يساهم فيه المستفيدون.
المعطيات السابقة المتاحة عن المشروع الأخضر لعام 1970 أشارت الى أن كلفة انشاء 650 بحيرة بحجمها التخزيني البالغ 1,079,640 متراً مكعباً كانت 1,221,382 ليرة لبنانية، أي نحو 600,000 دولار أميركي بأسعار ذلك الوقت. وبالتالي فان كلفة المتر المكعب كانت نحو نصف دولار. وإذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار، فيمكن أن يصل السعر حالياً الى نحو 20 دولاراً للمتر المكعب.
هناك جدوى كبيرة للتوسع في انشاء البحيرات الجبلية في لبنان، في ضوء الظروف المناخية والأوضاع المائية وحيث لا تسمح الطبيعة الجيولوجية بتوفر مياه جوفية. كما أن ارتفاع الهاطل المطري في بعض المناطق يجعل هذه البحيرات مجدية للتوسع في مشاريع الري. ويمكن من خلالها تأمين مياه ذات نوعية جيدة للزراعة والشرب، وتخفيف انجراف التربة نتيجة حصر مياه الجريان، وزيادة الرقعة الزراعية، ورفع مردود الاستفادة من مياه الأمطار التي كانت تضيع هدراً. وهي لا تتطلب استهلاك أي طاقة، خاصة إذا ما أقيمت في مناطق مرتفعة، اذ يمكن ري المناطق المنخفضة عن طريق الاسالة بالجاذبية الطبيعية.
ولكن لا بد من تكاليف رأسمالية مرتفعة لانشاء البحيرات والخزانات إذا زاد حجمها عن عشرة آلاف متر مكعب. وينبغي اجراء صيانات مستمرة، واتخاذ بعض الاجراءات لحماية مياه البحيرة من التلوث نتيجة سقاية الحيوانات أو استخدامات أخرى. كما يجب إجراء دراسات جيوهندسية تفصيلية لطبقات قاع البحيرة قبل إنشائها لضمان فعالية التخزين، وهذا يرفع من تكاليف الانشاء.
هناك قناعة لدى السكان والخبراء والسلطات المعنية بجدوى انشاء البحيرات الجبلية في لبنان. وفي إطار دراسة جدوى أجريت لوزارة الزراعة، تم اختيار 27 موقعاً من بين 90 موقعاً جرت دراستها، كمنطلق للتوسع المستقبل في هذه التقنية، وبصورة خاصة في الأجزاء الوسطى من الاراضي اللبنانية التي تفتقر إلى الموارد المائية اللازمة للتنمية.
الدكتور محمد الخولي مدير مركز الاستشعار عن بعد التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان.
كادر
حصاد مائي في بعض البلدان العربية
تستخدم تقنيات حصاد مياه الجريان السطحي في معظم الدول العربية. فالسدود الصغيرة والبحيرات الجبلية منتشرة بكثرة في سورية، حيث تم انشاء نحو 140 سداً بين متوسطة وصغيرة، من أجل حجز مياه الفيضان، سواء في المناطق التي تتوافر فيها أمطار عالية بهدف التخزين والري وحتى الشرب، أو في البادية حيث تشح الأمطار فيكون التخزين من أجل سقاية المواشي. كما تم إنشاء عدد من "السدّات" في منطقة محسة في إطار مشروع التنمية المتكاملة للمساقط المائية في البادية السورية، حيث تم تنفيذ عدد من خزانات تجميع المياه اختيرت مواقعها في نهاية الأودية الفرعية الصبابة في الوادي الرئيسي، بالاضافة الى سد لنشر المياه وسدة لتجميع مياه الجريان السطحي الفائضة عن حصاد المياه. إضافة الى ذلك، هناك تقنيات أخرى لتجميع المياه كالصهاريج في البادية السورية، وهي خزانات محفورة في الطبقات الصخرية، والحفائر في المنطقة الجنوبية، وهي خزانات محفورة في التربة.
وفي الأردن تنتشر هذه التقنيات بكثرة، ومنها ما زال قائماً منذ العصر الروماني مثل الخزانات (البرك) الرومانية الموجودة قرب مادبا والموقر والبتراء، والصهاريج في البتراء. أما المشاريع الحديثة، فيعتبر مشروع الموقر من أهمها، حيث يتم التحكم بمياه الجريان السطحي باستخدام السدود الترابية ذات السعة التخزينية من حوالى 115,000 متر مكعب لأغراض الري التكميلي. وهناك مشروع صقلة حيث تم إنشاء خزانات إسمنتية لتجميع المياه واستخدامها لأغراض الري التكميلي.
ومن المشاريع الهامة مشروع تنمية حوض الحماد الأردني الذي أقام عدداً من الحفائر والسدود الترابية بقصد حصاد مياه الجريان السطحي لأغراض سقاية المواشي وتنمية المراعي. وهناك تقنيات أخرى معروفة كالصهاريج والسدود الصغيرة والمحافير وسدود نشر المياه.
ويزداد في فلسطين انتشار تقنيات حصاد مياه الجريان السطحي، وبشكل خاص البرك الزراعية نظراً لهدفها المزدوج في حصاد المياه وتخزين مياه الينابيع والآبار الفائضة في بعض الأشهر. وفي العراق اهتمام كبير بإقامة السدود الصغيرة، وخاصة في منطقة الصحراء الغربية. والبحيرات الجبلية والبرك شائعة في لبنان، وكذلك الصهاريج. وهي تستخدم بصورة رئيسية للري، ولكن بعض البرك تستخدم من أجل الشرب وسقاية المواشي.
في اليمن، كانت تقنيات حصاد مياه الأمطار معروفة منذ فترة طويلة، سواء على شكل مصاطب (مدرجات أو جلول) أو بإقامة سدود صغيرة (بحيرات) في أحواض صغيرة لجمع مياه الجريان السطحي وتخزينها لاستخدامها في ري المناطق المجاورة. وتعتبر مياه السيول من أهم مصادر مياه الري في محافظتي حضرموت وشبوة، حيث تغطي احتياجات 70 في المئة من الاراضي الزراعية. وتستخدم في وادي بيجان ووادي دوعن تقنية الساقية، وهي من المنشآت التحويلية المعروفة، وتتحكم في استخدامها أعراف وتقاليد كثيرة تختلف حسب المناطق. إضافة الى ذلك، تنتشر في منطقة الهضاب تقنية الكرفان (جمع كريف) وهي أماكن تتجمع فيها مياه الأمطار والسيول من المنحدرات المحيطة بها، وتتكون من منخفضات حوضية أو من حفر واسعة وتستخدم مياهها لسقاية الماشية. كذلك تنتشر في اليمن الجوابي، وهي خزانات مفتوحة لجمع مياه الأمطار والسيول. وهناك أيضاً الشروج، وهي عبارة عن أراض محدودة المساحة تكونت في منخفضات طبيعية تفتتت فيها الصخور نتيجة عوامل الطبيعة، وهي تتلقى مياهها من الأمطار فقط وليس من السيول وتنتشر على سفوح هضبة حضرموت.
والى ذلك، تنتشر في منطقة حضرموت منشآت جوفية تطلق عليها تسمية النقب (جمع نقبة)، وهي خزانات أرضية تحفر لجمع مياه الأمطار لأغراض الشرب. كذلك تستخدم حفائر تسمى محلياً ماجل لجمع مياه الأمطار للشرب والاستعمالات المنزلية.
وفي المملكة العربية السعودية بذلت جهود كبيرة من أجل إقامة السدود على الوديان الرئيسية، حيث تجاوز عددها 60 سداً. وهي تلعب دوراً في توفير المياه للشرب والأغراض الزراعية، خاصة في المرتفعات المطلة على البحر الأحمر. أما المحافير فتحفر في قاع الأودية الصحراوية بهدف تخزين كميات إضافية من مياه السيول لاستخدامها في سقاية الحيوانات، وهي تسمى أحياناً الغدران إذا تواجدت بشكل طبيعي داخل سرير الوادي.
وفي سلطنة عمان تستخدم السدود الصغيرة، ويتجاوز عددها الثلاثين، في المرتفعات والسفوح الجبلية، للاستفادة من مياه الأمطار وتخزينها لأغراض الشرب وفي بعض الأحوال للأغراض الزراعية. كما أقيمت سدود تحويلية على مجاري الأودية بهدف حماية الأفلاج من الردم. وتنتشر البرك في محافظة مسندم.
وفي قطر تتوافر تقنيات حصاد مياه أمطار بشكل محدود لأغراض الري، حيث تحفر بعض الحفائر لتجميع الأمطار وتسمى بالبرك أو العيون. أما في الكويت فتقنيات حصاد الأمطار نادرة بسبب الظروف المناخية والطبوغرافية ولكون المجاري السطحية شبه معدومة.
وأقيمت سدود في الامارات العربية المتحدة لحجز مياه الفيضان في الوديان بغرض تغذية المياه الجوفية بصورة رئيسية، بالاضافة الى سقاية المواشي.
من تقرير التقانات البديلة لزيادة المياه العذبة في بلدان غرب آسيا العربية، أكساد، 2002.