منذ سنوات التزم البيان الوزاري للحكومة اللبنانية بادخال البيئة كجزء متكامل في برامج التنمية، ووعد بخطة بيئية ذات أولويات، كما وعد بانشاء المؤسسة الوطنية للبيئة، كهيئة مسؤولة عن البحث العلمي البيئي ووضع المعايير والأسس لخيارات سياسية صحيحة في قضايا البيئة. وخلال السنوات العشر الأخيرة، تم الاعلان عن عشرات البرامج ذات التمويل الدولي في مجال البيئة، وكتبت مئات الدراسات، انتهت إلى رفوف النسيان لأنها لم تكن في إطار خطة عامة، وافتقرت الى جهاز للتنسيق والمتابعة. فلا برنامج الأولويات البيئية وُضع، ولا المؤسسة الوطنية للبيئة أنشئت، وبقيت المعالجات في اطار الاسعافات الأولية.
النفايات مازالت معالجاتها ضمن برامج الطوارئ، ولا توجد بعد خطة وطنية للنفايات. وقد بقي الملف لسنوات في أيدي هواة مبتدئين، فتحكم المقاولون في خطط الطوارئ لجني أكبر قدر من الربح في أسرع وقت. الكوارث والأزمات التي نشهدها اليوم في ملف النفايات الصلبة ليست مفاجأة، بل المشكلة كانت في أساس البرامج الانتقائية وخطط الطوارئ، التي قامت على معطيات ومبادئ مغلوطة، وكانت تحمل بذور فشلها. وبدل الاستفادة من تجارب ناجحة في دول مماثلة، ما زالت مكبات النفايات العشوائية تكبر، بينما يروج الهواة لحلول سحرية قرأوا عنها في الكتب ولم يثبت نجاحها على أرض الواقع.
وفي مسألة تلوث الهواء من السيارات، جيد أنه تم منع محركات المازوت (الديزل) القديمة. لكن هل حُلّت المشكلة؟ ما هي مواصفات البنزين المستعمل الآن؟ ما هو البديل للمحركات القديمة المصنوعة أساساً لاستخدام البنزين مع رصاص، وهي تحتاج إلى مواد مضافة مقوّية لتجنب التعطيل. وهذا البديل مفروض ليس فقط في أوروبا، بل أيضاً في دول مجاورة مثل مصر، حين تحولت إلى البنزين بلا رصاص. فلماذا هو غائب عن محطات الوقود عندنا؟
وبالعودة إلى المازوت، هل تمت دراسة المسألة بعناية؟ الجواب هو، بالتأكيد، لا، لأن الحقائق لا التخمينات تثبت ان محركات المازوت الحديثة، مع الصيانة الجيدة ونوع المازوت الصالح، أقل تلويثاً للهواء، في كثير من النواحي. 40 في المئة من السيارات الجديدة في أوروبا تعمل على المازوت. والنسبة تصل إلى 60 في المئة في فرنسا و70 في المئة في النمسا. محركات المازوت التي رُكّبت على سيارات الاجرة كان لا بد من سحبها، لأنها من فضلات المحركات القديمة الملوثة الممنوعة في بلد المنشأ، وتم تصديرها الى لبنان كنفايات معدنية، وهي ملوّثة بغض النظر عن نوع المازوت المستعمل فيها، أكان أحمر أو أسود أو أخضر. لكن الحافلات الصغيرة التي تم منعها أيضاً مسألة أخرى، اذ تم استيرادها أساساً مع محركات تعمل على المازوت. وقد كان من الأفضل والأوفر فرض المواصفات السليمة والرقابة على حافلات المازوت بدل دفع عشرات الملايين كتعويضات مقابل منعها.
كما أنه لم يتم إجراء دراسات علمية تبين نوعية الهواء قبل المنع وبعده. ما هي، مثلاً، نسبة الرصاص في دم الأطفال قبل المنع وبعده، وما هي نسبة الأوزون في الهواء؟ بينما تشير معلومات أكيدة إلى أنها أضعاف المسموح به مما يشكل خطراً على الصحة، ينصب الاهتمام على معالجة ثقب الأوزون في الأجواء الخارجية، كما جاء في ملصق عنوانه "كلنا أصدقاء للأوزون". أي أوزون؟ ولماذا نهتم بثقب الأوزون فوق سيبيريا، بينما يلوث الأوزون الضار أجواء بيروت؟ سبب آخر لضرورة وجود المؤسسة الوطنية للبيئة، لتصحح المفاهيم وتضع المعايير.
وما دمنا فـي الحديث عن قانون تلوث الهواء مـن السيارات، مـن يتذكر أن القانون يفرض أن يكـون في كل سيارة، حتى التي عمرها خمسون سنة، محول حفاز Catalytic Converter ابتداء مـن تموز (يوليو) عام 2002؟ هذا الشرط الذي لم يحصر بالسيارات الجديدة، بل شمل كل السيارات الموجودة في البلد، غير علمي وغير واقعي ولا جدوى اقتصادية وبيئية منه وغير قابل للتطبيق. فالمحول الحفاز غير ذي فائدة الا في السيارات المصنوعة أساساً له، حيث يتم تنظيم نسبة الانبعاثات منها بواسطة الكومبيوتر. فلو تذكر أحد المتشاطرين وقرر تطبيقه، كما حصل يوماً مع طفايات الحريق في السيارات، لكلف المواطنين اللبنانيين أكثر من مليار دولار هدراً. سبب آخر لضرورة إنشاء المؤسسة الوطنية للبيئة، فوراً.
وقد تم خلال السنوات العشر الاخيرة العمل على معايير صناعية وشروط ومواصفات وبرامج ومراجع إرشادية. على الرغم من كل هذه، لم تستطع الدراسات، ولا حتى المدعي العام البيئي، حل مشكلة صغيرة بحجم بضعة براميل نفايات صناعية سامة في قرية بشللي في قضاء جبيل. حتى اليوم، وبعد نحو سنتين على "اكتشافها"، لم يتم الإعلان عن مصدرها. كما لم نعلم بماذا عوقب المقاول الذي رمى اللحوم الفاسدة في مكب صيدا؟ المشكلة هي في المعايير وخطة العمل والتدابير القابلة للتطبيق. ولا يمكن النجاح في الامور الكبيرة مع العجز عن حل مسألة صغيرة، لتكون نموذجاً للجدية. ومن المسائل العاجلة التي لا تحتاج الى قوانين بل الى ادارة وجدية، تطبيق تدابير لمنع تلويث المياه العذبة بمجاري المياه المبتذلة، وآبار التصريف التي تحفرها البيوت والمؤسسات والمستشفيات أيضاً، فتختلط مياه المجارير بمياه الشرب.
وفي مجال الفلتان الصناعي أيضاً، تم التغاضي عن التلويث المزمن من مصانع شكا، وصدرت شهادات حسن السلوك من الوزارة المعنية، التي أكدت سلامة الانبعاثات من دواخينها، بينما هواء القرى المحيطة مشبع بالسموم التي تبثها. وحين حصل تسرب نفطي من المصانع بسبب الخفة في احتياطات السلامة، تم معالجة الكارثة برش صخور الشاطئ بالأسمنت الأبيض لتغطية آثار الجريمة.
ومن أهم المعضلات التي تهدد سلامة البيئة ولا تلقى اهتماماً جدياً حتى اليوم مسألة تحديد استعمالات الأراضي (Zoning). البلد يعامل كعقار كبير معروض للبيع، حيث يمكن، بتفسيرات واجتهادات قانونية وبعض الشطارة، استثمار أي جزء من شواطئه وغاباته وفسحات مدنه الخضراء التي أصبحت نادرة.
الطلاب:هذه هي المشكلة وهذا هو الحل
طلاب من 12 مدرسة لبنانية أرادوا أن يكونوا جزءاً من الحل لمعضلة البيئة. فقاموا، بدعوة من مجلة "البيئة والتنمية"، بأبحاث حول وضع البيئة في لبنان، وقدموا أفكارهم بالرسم والألوان في لوحة جدارية ضخمة علقوها في جناح البيئة في معرض بيروت للكتاب، وعقد ممثلون عنهم مؤتمراً صحافياً شرحوا فيه همومهم البيئية وحلولهم البديلة.
ماريا وليد الخوير، من مركز صلاح الدين التربوي، أشارت إلى أن اللبنانيين "يعانون نقصاً في كمية المياه المتوفرة للاستعمال وتدهوراً في نوعيتها، وذلك بسبب سوء ادارة الموارد المائية. ومن أصل نحو 2600 مليون متر مكعب من المياه السطحية والجوفية التي يمكن استغلالها، يتم حالياً استغلال أقل من النصف، ويذهب الباقي هدراً وتلوثاً، بينما يعطش البشر وتجفّ الأرض". وطالبت بالحفاظ على موارد المياه من التلوث والهدر، واعتماد أساليب الادارة المائية المتوازنة، لوضع هذه الثروة الحيوية في خدمة المجتمع، مع المحافظة على البيئة.
يارا ديب حاج، من مدرسة انترناشونال كوليدج، بينت أن لبنان "ينتج سنوياً 1,5 مليون طن من النفايات الصلبة، يرمى معظمها في الطبيعة وعلى الشواطئ وفي مكبات عشوائية". وطالبت بخطة وطنية لادارة النفايات "تقوم على تقليل الكمية في المصدر، واعادة الاستعمال واعادة التصنيع، واعتماد برنامج متكامل للمعالجة وفق أوضاع كل منطقة، يأخذ الشروط البيئية في الاعتبار".
وعلق النائب أكرم شهيّب على كلام يارا بالدعوة الى إشراكها في اللجان الوزارية التي تدرس وضع النفايات "لأنها قدمت عرضاً صحيحاً وحلولاً أكثر واقعية".
جو عطية، من مدرسة القلبين الاقدسين، قال إن لبنان "يعتمد على استيراد الوقود لانتاج الطاقة، وذلك بأساليب شديدة الكلفة والتلويث، مما يسبب هدراً للموارد المالية والثروات الطبيعية وتدهوراً في نوعية الهواء". وطالب بدعم برامج الطاقة النظيفة، واعتماد انتاج الطاقة من المياه والشمس والرياح والمصادر المتجددة الأخرى.
بهاء أبو عزالدين، من متوسطة العبادية الرسمية، قال أنه "قبل 25 سنة كانت الغابات تغطي 20 في المئة من أراضي لبنان، واليوم انخفضت مساحتها الى نحو 7 في المئة، بسبب الحرائق وقطع الغابات والمقالع". وطالب بالتشجير والمحافظة على الغابات والنباتات والحيوانات، وتأمين التوازن بين التنمية وحماية الطبيعة.
فاطمة طباجة، من ثانوية الروضة، أكدت أن "هواءنا ملوث من الصناعات وتوليد الطاقة ووسائل النقل. وتبلغ نسب التلوث بأوكسيدات الكربون والكبريت والأوزون والغبار أضعاف المسموح به عالمياً. ويخسر لبنان 170 مليون دولار كل سنة أضراراً صحية ناجمة عن تلوث الهواء". وبعدما شددت على حق الناس بهواء نظيف، طالبت "بوضع ضوابط مشددة لانبعاثات الملوثات من المصانع ووسائل النقل، ومراقبة نوعية الهواء باستمرار، واعتماد أساليب نظيفة لانتاج الطاقة، وتنظيم النقل العام للتخفيف من ازدحام السير وتخفيض التلوّث".
رالف رعد وديلارا علم الدين، من مدرسة الجالية الاميركية في بيروت، قدما عرضاً مشتركاً أظهرا فيه أن "النفايات السامة ترمى من المصانع والمستشفيات بلا معالجة أو رقابة، فتلوث الطبيعة وتتسبب بأمراض. البيوت والمكاتب أيضاً مصادر لنفايات سامة ترمى عشوائياً، مثل البطاريات الفارغة وفضلات آلات الطباعة والتصوير ومواد التنظيف". وطالبا ببرامج للحد من انتاج النفايات السامة واعتماد أساليب مأمونة للتخلص منها ومعالجتها.
راوية سيف الدين، من مجمع نازك الحريري لانماء القدرات الانسانية، أشارت إلى أن "الضجيج من السيارات والمصانع ومعدات البناء ومكبرات الصوت يقتحم مدارسنا وبيوتنا ومكاتبنا. وهو نوع آخر من التلوث يؤدي الى أمراض عصبية وجسدية كثيرة. وبينما يصبح الضجيج مزعجاً عندما يتخطى نسبة 70 وحدة صوتية (ديسيبل)، فإنه يتجاوز 95 وحدة صوتية في معظم مناطق بيروت". وتابعت: "من حقنا التمتع بالهدوء. نطالب بوضع قوانين للحد من التلوث بالضجيج، خاصة في المدن المزدحمة".
سليم مخول، من مدرسة راهبات القلبين الاقدسين، تحدث عن التنوع البيولوجي الغني الذي يتميز به لبنان، "بسبب موقعه وتنوع مناخاته وتضاريسه، حيث يصل عدد الأنواع المعروفة إلى 9119 نوعاً من الأحياء البرية. لكن مئات منها اختفت، وغيرها معرض للانقراض، بسبب التخريب الذي أصاب موائل النباتات والحيوانات وأخلّ بتوازن النظم الايكولوجية". وطالب بزيادة المناطق المحمية وادارتها على نحو يضمن الحفاظ على التنوع الطبيعي في لبنان.
حسين ناصر، من ثانوية الضحى، قال إن "تسعين في المئة من الاراضي اللبنانية ما زالت غير مصنفة، مما يؤدي إلى زحف عشوائي للعمران والطرقات، وخسارة الغابات والأراضي الزراعية والمساحات الخضراء". وطالب باعتماد مخطط توجيهي يحدد وجهة استعمال الاراضي، و"اقامة حدائق عامة ومتنزهات ومساحات خضراء في المدن، بما يحفظ التوازن بين متطلبات التنمية وضرورة حماية البيئة وحق الناس بالتمتع بالطبيعة".
معتز العسراوي، من مدرسة الليسيه ناسيونال، أوضح أن "ضعف التنمية الريفية، والجفاف بسبب هدر المياه، وتقصير برامج الدعم والتوجيه، أدت إلى إهمال معظم الأراضي اللبنانية الصالحة للزراعة، فانجرفت التربة وأصبحت الأرض صحراء قاحلة، كما أدى الاستخدام الكثيف للاسمدة والمبيدات الكيماوية إلى تلويث التربة والمياه واختلال التوازن الطبيعي". وطالب ببرامج للتنمية الريفية تدعم المزارعين في أرضهم وتشجع الانتاج الطبيعي الذي لا يضرّ بالبيئة.
طارق عكرا، من مدرسة الحاج بهاء الدين الحريري، قال ان "المشاريع الصناعية والسياحية والتجارية الخاصة تحتل 56 كيلومتراً من الشاطئ اللبناني، أي 23 في المئة منه، كما تملأ مكبات النفايات مساحة كبيرة، حيث يصل الى البحر يومياً ثلاثة آلاف طن من النفايات عبر المكبات الساحلية أو عبر الأنهار والسواقي، ويصب فيه كل يوم نصف مليون متر مكعب من المياه المبتذلة". وبعدما طالب بحق الناس في الشاطئ والبحر النظيف، أضاف "اهدموا المخالفات، امنعوا تلويث البحر، افتحوا الشواطئ للناس".
باميلا حردان، من مدرسة المخلص، قالت ان "لبنان يخسر طيوره وحياته البرّية وثروته البحرية بسبب التلوث والاعتداء على الشواطئ والغابات وعدم تنظيم الصيد". وطالبت بالحفاظ على ثروتنا البرية والبحرية، وحماية الطيور والحيوانات والأسماك والسلاحف المعرضة للانقراض، وتنظيم الصيد ووضع المخالفين في السجون.
طلاب لبنان وضعوا اليد على الجرح، وقدموا برنامجهم لمستقبل لبنان البيئي. فهل يستمع الكبار، أم أن علينا أن ننتظر حتى يكبر الصغار، فيتحقق البرنامج على أيديهم، حين يصبحون رؤساء ووزراء ونواباً ومسؤولين ومواطنين واعين بيدهم السلطة والقرار؟
كادر
جدارية البيئة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب
اللوحة الجدارية الضخمة بعنوان "بيئة لبنان، مشاكل وحلول"، رسمها آلاف الطلاب من 12 مدرسة لبنانية في جناح "البيئة والتنمية" في معرض بيروت للكتاب. وقد قدمها ممثلون عنهم في مؤتمر صحافي عقدوه في مناسبة يوم البيئة الوطني في 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، لعرض همومهم وتطلعاتهم البيئية على المسؤولين. وحضر المؤتمر وزير الدولة ميشال موسى ورئيس لجنة البيئة النيابية أكرم شهيّب ورئيس مصلحة الارشاد والتوجيه في وزارة البيئة أنطوان غريّب وجمع من الطلاب والمعلمين والأهالي. وقد رعت مجلة "البيئة والتنمية" مشروع الجدارية، التي غطت 12 موضوعاً بيئياً. وبعدما قدم ناشر ورئيس تحرير المجلة نجيب صعب الطلاب، ترك لهم الكلام، لأن المناسبة لهم وحدهم. ووعد الوزير موسى والنائب شهيب بدعم المطالب التي تقدموا بها.
تولى طلاب القسم المتوسط في مدرسة الجالية الأميركية رسم خلفية اللوحة، في شكل موزاييك من أربع طبقات، تمثل أربعة مواضيع عامة هي الجبل والمدينة والبحر والنفايات. وأعد طلاب المدارس الأخرى أجزاءها المختلفة وفق التوزيع التالي: موارد المياه واستهلاكها وتلوثها (مركز صلاح الدين التربوي، راشيا)، إزالة الغابات والتصحر والمقالع (متوسطة العبادية الرسمية)، النمو السكاني والتمدد العمراني (ثانوية الضحى، الغبيري)، الضجيج (مجمع نازك الحريري لانماء القدرات، عرمون)، تلوث الهواء (ثانوية الروضة، بيروت)، الزراعة واستغلال الاراضي (مدرسة الليسيه ناسيونال، الشويفات)، الصيد البري والبحري (مدرسة المخلص، المتحف)، إنتاج الطاقة واستهلاكها (مدرسة القلبين الاقدسين، عين نجم)، النفايات الصلبة (انترناشونال كولدج، بيروت)، المواد الكيميائية السامة والنفايات الخطرة (مدرسة الجالية الأميركية، بيروت)، التنوع البيولوجي (مدرسة راهبات القلبين الاقدسين، زحلة)، الشواطئ والبحر (مدرسة الحاج بهاء الدين الحريري، صيدا).