قفز الشأن البيئي في ربع القرن الماضي إلى قائمة أولويات العالم، بل تصدَّرها. لقد أدرك كل سكان الأرض أن أنظمتهم البيئية أضحت في خطـر:
التلوُّث يتسلل ويضرب في كل الاتجاهات: الماء، والهواء، والأرض. بل إن الملوثات وجدت طريقها إلى الفضاء الخارجي!
مناخ الكون تتبدل أحواله، فيتبعه اختلال في ما استقرت عليه الأنظمة البيئية.
الموارد الطبيعية تُستنفد وتترنح. وقد ارتفعت صيحات علماء الحياة تحذر من تدهور أحوال بعض الأنظمة البيئية الهامة، مثل حزام الغابات الاستوائية المطيرة وبعض مواقع المسامك الاقتصادية في محيطات العالم، ومن احتمالات كبيرة لانقراض أنواع من الكائنات الحية، في ما يشبه الانقراض العظيم الذي وقع في عصور جيولوجية مضت.
انبعاثات غير مسبوقة من غازات الدفيئة أدت بالعالم إلى حالة من الاختناق، إذ ارتفعت درجة حرارة المناخ العام للأرض، مهددة استقرار جبال الجليد في القطبين، بل ان أجزاء من هذه الجبال تذوب، فماذا لو ذابت جميعاً؟
وكان لذلك كله، وغيره من صور فقدان الاتزان البيئي، مردوداته السلبية وانعكاساته في خطط وبرامج التنمية لدى أغنياء العالم وفقرائه على حد سواء. وجاءت استجابات سكان الأرض، في مواجهة الأخطار التي تتربص بأنظمة كوكبهم البيئية، متنوعة وعلى كل المستويات.
بادرت الإدارات الحكومية إلى إدراج الأمور البيئية في جداول أعمالها، وأُنشئت وزارات لشؤون البيئة في كثير من دول العالم. ووجدت هذه الإدارات الحكومية أن العمل البيئي يحتاج إلى تعاون دولي، على المستوى الإقليمي وفي نطاق الكون كله. فتلوث الهواء، مثلاً، يتخطى الحدود السياسية ويعمل على مستوى القارات والأقاليم الجغرافية. وتدهور أحوال المناخ العالمي لا يفرق بين قارة وأخرى. فكانت البرامج والاتفاقيات البيئية التي تنسق الجهود الإقليمية والكونية. ثم ارتقى العمل البيئي إلى مستوى القمة، فكانت قمة الأرض الأولى في ريو دي جانيرو عام 1992، وكانت الثانية بعد عشر سنين في جوهانسبورغ.
أما البحث العلمي، فهو القائد الحقيقي للعمل البيئي في العالم. وثمة مراكز مخصصة بكاملها للدراسات البيئية، بل إن الاهتمام بالبيئة لم يعد قاصراً على علماء الحياة والكيمياء والفيزياء، فقد أصبح متعدد التوجهات.
وإذا تركنا القطاع الرسمي، أو الحكومي، إلى القطاع الأهلي، وجدنا تصاعداً غير مسبوق في مجال المنظمات والجمعيات غير الحكومية المنقطعة لشؤون البيئة؛ وقد تعدى حجم بعض هذه المنظمات وتأثيرها النطاق المحلي، واتخذا صفة عالمية.
ومع أن أحداً لم يعد بحاجة لنذكّره بكل ما سبق، فإن الوعي البيئي لدى عامة الناس في بلادنا لا يزال دون المأمول. والشواهد على ذلك عديدة. وأكثر ما يلفت النظر ويثير العجب بهذا الخصوص ردود فعل الاهتمام بالبيئة لدى قطاع من أهلنا ومواطنينا، معظمه من الشباب. لقد لاحظنا أن فئة من هؤلاء الشباب في بلد عربي، وهم جامعيون للأسف، أدخلوا كلمة "بيئة" في قاموس لغة حياتهم اليومية، وهو قاموس يصنع معظم مفرداته كتَّاب الأغاني وأشرطة السينما السائدة في هذه الأيام. وحمَّلوها دلالات مختلفة تماماً، لا تخلو من استهزاء باللفظ ودلالته الحقيقية. فأصبحت كلمة "بيئة" إشارة إلى كل ما هو منحطّ ومتدنّ. فهذا الشخص "بيئة"، يعني من وسط هابط. وذلك السلوك "بيئة"، يعني مستهجن، بل إن كلمة "بيئة" ـ وهي اسم ـ اشتق منها فعلٌ جديد، فبتنا نسمع من يقول: "ياللا نبيَّأ وناكل فول وطعمية!".
صحيح أن كلمة "البيئة" لا تعني بالضرورة بيئة صحيحة. فالأقرب لما هو قائم فعلاً أن معظم بيئات الكون أو "موائله" في حال يُرثى لها. غير أن استعمال اللفظ بهذا السياق يشي بدرجة من الاستخفاف بشأن هام تُحشد جهود كل البشر لإصحاحه. وفي الوقت ذاته، فإن إقبال من ينحون هذا المنحى على المشاركة في برامج العمل العام من أجل البيئة، يكاد لا يُذكر. والاكتفاء بالسخرية لا يجدي، فأحوال البيئة تستوجب درجة أكبر من الإيجابية.
من هنا، جاء اختيارنا لعنوان هذه الصفحة الأخيرة من "البيئة والتنمية". إمعاناً في التصدي لهذا الأسلوب في التعامل مع البيئة. وكأننا نقول لمن يستخدمون اللفظ هذا الاستخدام السطحي: "ها هي البيئة، وها هي قضاياها".
فهل تنضمون إلى صفوف المشاركين، و تغادرون مقاعد المتفرجين المازحين؟