غبار اليورانيوم المستنفد يسمم الهواء والتراب والماء في العراق والخليج
من حرب الخليج عام 1991 الى حرب البلقان عام 1999 فحرب العراق الأخيرة، ما زالت قضية ذخائر اليورانيوم المستنفد عالقة بين مواقف تنفي أخطارها الصحية والبيئية وأخرى تؤكدها. فهل تنجلي الحقيقة قريباً أم ان التخوف من مطالبات التعويض يفرض التستُّر على فداحة الضرر الحاصل؟
في العام 1992، عثر عالم ألماني في الصحراء العراقية على رصاصة يورانيوم مستنفد مستعملة. واعتقل لاحقاً في بلاده، وفرضت عليه محكمة برلين غرامة لأنه أحضر الرصاصة معه "فعرّض الجمهور لاشعاع مؤيّن".
قبل ذلك بنحو 13 سنة، في العام 1979، تسربت جسيمات يورانيوم مستنفد من مصنع الرصاص الوطني قرب ألباني في ولاية نيويورك الأميركية، حيث كانت تصنع قذائف لخرق الدروع. وارتحلت الجسيمات مسافة 40 كيلومتراً، الى حيث سجل وجودها الباحث النووي ليونارد ديتز في مختبر كنولز للطاقة الذرية في مدينة نيويورك. وقد تم إغلاق المصنع عام 1980 لأنه كان يطلق في الجو أكثر من 0,38 كيلوغرام من غبار اليورانيوم المستنفد كل شهر (وهذا لا يذكر مقارنة بالـ320 طناً التي أطلقت خلال حرب الخليج). وقد صرح دوغ روك، الذي ظل حتى العام 1998 خبيراً باليورانيوم المستنفد لدى البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية): "سيبقى ساخناً الى الأبد، لن يزول، فقط يتشتت ويتطاير مع الرياح".
جويس رايلي، الناطقة باسم "جمعية قدامى المحاربين الأميركيين في الخليج"، كانت برتبة نقيب في سلاح الجو الأميركي، وشاركت في حرب الخليج عام 1991. وهي أفادت أنها مرضت عقب الحرب مما اضطرها الى ترك الخدمة، وكانت تعاني من أعراض غامضة باتت تعرف بمرض حرب الخليج. وقد أبدت عدم ثقتها بالدراسات التي لم تجد علاقة بين اليورانيوم المستنفد والمشاكل الصحية، قائلة: "هناك أشخاص يتقاضون أتعاباً لاعداد تقارير تنفي وجود أي مشكلة".
الآليات العراقية التي دمرت باليورانيوم المستنفد في الكويت تم تجميعها في مدافن صحراوية، وجرت عمليات لتنظيف طبقات الرمل السطحية. غير أن كثيراً من السكان ما زالوا يحتفظون بشظايا القذائف وقطع الآليات المدمرة داخل بيوتهم ومكاتبهم للذكرى. ولا يوجد برنامج للرقابة المستمرة يقيس مستوى الاشعاعات في المناطق المصابة وينشر نتائجها. وكانت ست آليات أميركية قصفت في تلك الحرب "بنيران صديقة" محتوية على يورانيوم مستنفد، اعتبرت ملوثة الى حد منع اعادتها الى الولايات المتحدة، فدفنت في الصحراء العربية. ومن أصل 16 آلية أخرى أعيدت الى منشأة خاصة في ولاية كارولينا الجنوبية، تم دفن ست آليات في مطمر للنفايات المنخفضة الاشعاعية.
أقصى "الخط الأحمر"
يؤكد باحثون في الراديوبيولوجيا والطب الحيوي أن اليورانيوم المستنفد شديد السمية من الناحية الكيميائية والاشعاعية، خاصة اذا دخلت الجسيمات المشعة الجسم حيث تبقى في الأعضاء الحية سنوات طويلة. وقد خلصت عشرات الدراسات العلمية الى أن من آثار استخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد ارتفاع مخاطر الاصابة بالسرطان، وحصول تشوهات وعيوب خلقية وتلف في الكليتين والكبد واعتلالات عصبية وعضلية، وأضرار صحية أخرى على المدى الطويل.
وقد كتب روبرت فيسك، مراسل صحيفة "الاندبندنت" الذي زار تكراراً مواقع القصف في مدينة البصرة بعد انتهاء الحرب: "شاهدت في كل زيارة أنواعاً جديدة ورهيبة من السرطان، وأطفالاً يولدون بلا أذرع أو عيون أو أنوف، وأولاداً ينزفون داخلياً أو يصابون فجأة بأورام ضخمة... ووجدت جنوداً عراقيين يموتون بما يشبه مرض حرب الخليج الذي أصيب به آلاف الجنود الأميركيين والبريطانيين". كما ذكر روايات كثيرة عن "ثمار بندورة (طماطم) بحجم كرة قدم، وجزر بلون بنفسجي غريب، وماء لم يعد مذاقه طبيعياً".
وفي أيلول (سبتمبر) 2003 أوردت صحيفة "واشنطن بوست" أن أكثر من 6000 جندي أميركي تم سحبهم من العراق لاسباب مرضية، وسط مخاوف من وجود مواد اشعاعية. وكانت هذه المخاوف تصاعدت بعدما قام سكوت بيترسون، المحرر في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، بقياس مستوى الاشعاع في بعض مناطق بغداد التي تعرضت لقصف مكثف، واكتشف أنها تزيد بما يترواح بين 1000 و1900 مرة على المستوى العادي في المناطق السكنية المجاورة حيث يلهو الاطفال من دون أي تحذير. وكان صحافيون غربيون أمضوا ليلة قرب موقع قصف بقنابل اليورانيوم المستنفد في 10 نيسان (ابريل) 2003، غداة سقوط بغداد. وقد حذرهم الجنود الأميركيون من عبور الطريق الى ذلك الموقع لوجود جثث وذخيرة غير منفجرة، اضافة الى تلوثه باليورانيوم المستنفد. في هذا الموقع أشَّر جهاز قياس الاشعاعية لدى سكوت بيترسون الى أقصى "الخط الأحمر".
ليس هناك أي خطر!
في حرب الخليج الأولى عام 1991، استعملت القوات الأميركية 320 طناً من قذائف اليورانيوم المستنفد، وربما أكثر، أطلقت 80 في المئة منها طائرات A-10. وتشير بعض التقديرات الى أن 1000 طن أو أكثر من هذه القذائف استعملت في الحرب الأخيرة على العراق، لكن البنتاغون أقر باطلاق 300 ألف قذيفة، ما يعني 75 طناً من مخلفات اليورانيوم المستنفد. وهو يزعم أنه أقل خطراً بكثير من اليورانيوم العادي، والاشعاع الموجود فيه شبيه بالموجود في التراب العادي.
وقد استنتجت دراسة طلبتها المفوضية الاوروبية عام 2001 أن "التعرض لليورانيوم المستنفد لا يسفر عن أثر على صحة الانسان يمكن كشفه". ويقول يان أولوف سنيس، من مصلحة الوقاية من الاشعاع في السويد، ان خطر اليورانيوم المستنفد "يتوقف الى حد كبير على كيفية تعاملك به"، مضيفاً أن احتمالات الخطر قليلة في معظم الحالات، ما لم يأكل الأطفال التربة السامة والمشعة، أو يلمسوا اوكسيدات اليورانيوم بأيديهم.
وكانت الوكالة البريطانية للطاقة الذرية حاولت عام 1991 تحديد خطر اليورانيوم المستنفد. وبناء على تقدير مبكر بأن 40 طناً فقط من قذائفه استعملت خلال حرب الخليج، أفادت أن هذه الكمية يمكن أن "تسبب 500 ألف وفاة محتملة". وقد رفض البنتاغون هذه المقولة، باعتبار أن هذا التقدير يفترض دخول كل هذه الكمية الى أجسام الناس. ويقول الكولونيل إريك داكسون، ضابط الأركان المسؤول في المعهد العسكري الأميركي لأبحاث الراديوبيولوجيا، ان احتمال حدوث مشاكل صحية خطيرة نتيجة استعمال اليورانيوم المستنفد في العراق "صغير جداً الى درجة تجعله في أسفل اللائحة على الاطلاق".
وفي حين يتخذ الجنود الغربيون تدابير وقائية، ويتجنبون المواقع المضروبة بهذه القذائف، لم يتم تحذير الأهالي من أضرارها، ولم تحصل عمليات تنظيف جدية بعد. ويدعي مسؤولون في البنتاغون أن دراسات حديثة أثبتت أن لا خطر على سكان المناطق المستهدفة، وأن اليورانيوم المستنفد غير مؤذ نسبياً، وهو جزء ضروري من العمليات الحربية الحديثة. ويقول المقدم مايكل سيغمون، وهو جراح في الجيش الأميركي في بغداد: "ليس هناك أي خطر على شعب العراق، بحسب معرفتنا على الأقل"، مشيراً الى أن الأطفال الذين يعبثون بالقذائف والدبابات المنفجرة عليهم أن يأكلوا مخلفات اليورانيوم المستنفد ومن ثم يختنقوا عملياً لكي يسبب لهم ضرراً.
التوجيهات العسكرية الأميركية التي وضعت بعد حرب الخليج عام 1991، والتي كانت متساهلة آنذاك، تطلب من كل جندي يقترب 45 متراً من مدرعة قصفت بقذائف اليورانيوم المستنفد أن يستعمل كمامة غاز ولباساً واقياً. وقد صرَّح جنود شاركوا في حرب 2003 أنه طلب منهم الابتعاد عن أي هدف يقصفونه بهذه القذائف تفادياً لخطر الاصابة بالسرطان.
من جهتها، أصدرت وزارة الدفاع البريطانية الى الضباط الميدانيين، قبل قصف العراق عام 1991 وخلاله، تعليمات تشرح كيفية التعامل الآمن مع ذخائر اليورانيوم المستنفد. وهي بعدم الاقتراب من الغبار، وارتداء أقنعة وملابس واقية وقفازات عند الضرورة، والحرص على عدم تلوث الأطعمة. الا أن هذه التعليمات بقيت سرية حتى العام 2001، حين أعلن عنها تحت ضغط الرأي العام ومجلس العموم البريطاني بعد الضجة الاعلامية حول استخدامات هذا السلاح.
حقائق عن اليورانيوم المستنفد
تصنع قذائف اليورانيوم المستنفد من المخلفات النووية المنخفضة الاشعاعية المتبقية من معالجة خام اليورانيوم لانتاج أسلحة نووية ووقود لمحطات الطاقة النووية. ومنذ سبعينات القرن العشرين بدأ خبراء الاسلحة يدخلونه في صنع أغلفة ورؤوس القذائف وطلقات الرصاص لزيادة قدرتها على اختراق الدروع والدبابات، نظراً لثقله النوعي، الذي يبلغ 1,7 أضعاف ثقل الرصاص. وإضافة الى قدرته الاختراقية، تؤدي الحرارة المنبعثة من احتكاكه بالفولاذ الى احتراقه، فتنبعث منه جسيمات دقيقة من أوكسيد اليورانيوم السام المشع، يمكن ان تنتقل كيلومترات في الهواء. واذا استقرت في الجسم بفعل الاستنشاق فيمكن ان تسبب أمراضاً خطيرة.
التخلص من نفايات اليورانيوم المستنفد في الولايات المتحدة يقتضي وضعها في عبوة مغلقة سعتها 30 غالوناً، معزولة بطبقة من البلاستيك، ومن ثم تعزل أيضاً داخل برميل سعته 55 غالوناً، ويوجب القانون دفنه في مطمر تحت الأرض مرخص له. وتمزج الجسيمات الدقيقة، أو الغبائر، بالاسمنت وتوضع في براميل محكمة الاغلاق.
"غير مقبول أن يبقى الشك قائماً"
في تقرير صدر في آذار (مارس) الماضي بعنوان "علم أم خيال علمي: حقائق وخرافات ودعاية في الجدل حول أسلحة اليورانيوم المستنفد"، يقول دان فاهي أحد المدافعين عن حقوق قدامى المحاربين الأميركيين الذي تابع السجال منذ منتصف التسعينات: "ليست ذخائر اليورانيوم المستنفد سلاحاً عجائبياً حميداً كما يروج لها البنتاغون، ولا هي أدوات الابادة الجماعية التي يحذر منها المعارضون... لكن العلم والمنطق يمليان بأن من غير الحكمة استخدام سلاح ينشر كميات كبيرة من النفايات السامة في مناطق يعيش فيها الناس أو يعملون أو يزرعون أو يستخرجون الماء".
يأخذ البعض على منظمة الصحة العالمية أن موقفها من ضحايا اليورانيوم المستنفد يتسم باللامبالاة وقصور الدقة العلمية. فقد صمتت طويلاً عقب استخدام القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية لهذه الذخائر ضد القوات العراقية عام 1991، للمرة الاولى في الميادين "الحية". ولم تحرك ساكناً طوال عقد كامل حيال ما خلفه هذا السلاح الخطير من انتشار لأمراض سرطانية نادرة، وتشوهات خلقية، وولادات ميتة، وإجهاض، وعقم، واعتلالات عصبية، وتلف غير قابل للإصلاح في الكبد والكليتين، وغير ذلك. وحتى الآن لم تنجز أكثر من مذكرة من أربع صفحات يتناقض بعض ما ورد فيها مع حقائق علمية متداولة حالياً.
بعد طول انتظار، أرسلت المنظمة الى العراق في آب (أغسطس) 2001 فريقاً من خبرائها، تألف من ثمانية اختصاصيين بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية وطب العمل والصحة، برئاسة الدكتور عبد العزيز صالح المدير الإقليمي المساعد للمنظمة في شرق المتوسط. مكث الفريق أربعة أيام فقط، وأعلن أنه سيأخذ عينات لفحصها بدقة ومعرفة مدى نسبة اليورانيوم فيها، وأن المنظمة ستتابع الآثار السلبية الناجمة عن اليورانيوم المستنفد وتأثيراته على البيئة العراقية، بما فيها الانسان والحيوان والنبات. وكان من المقرر أن تعرض النتائج في مؤتمر للخبراء في جنيف.
استبشر المعنيون خيراً، لا سيما وأن المنظمة كانت أعلنت، في أيار (مايو) 2001، عن اتفاقها مع العراق على خطة مشتركة لكشف الروابط المحتملة بين اليورانيوم المستنفد والأمراض التي أصابت الشعب العراقي في أعقاب حرب الخليج الثانية. وأوضحت ميليندا هنري، المتحدثة باسم المنظمة آنذاك، أن اطار الاتفاق يتضمن ثلاثة أقسام، هي الاطلاع على الامراض وبخاصة أنواع السرطان والاختلالات الوراثية، وقياس مستوى اليورانيوم لدى المصابين، بالاضافة الى الابحاث وسبل الوقاية. وكان مقرراً أن تصدر المنظمة تقريراً في هذا الشأن بعد إجراء التحاليل المطلوبة.
من جهته، أعلن برنامج الأمم المتحدة للبيئة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، في كانون الثاني (يناير) 2001، أنهما يدرسان طلبات إرسال بعثات لتقصي الحقائق إلى العراق والبوسنة ويوغوسلافيا، لدراسة آثار التعرض لليورانيوم المستنفد. وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة فريد إيكهارد إن الوكالات الثلاث ستنسق نشاطاتها. وعزز ذلك إعلان الأمم المتحدة عن توصل خبرائها إلى أدلة أولية على وجود نشاط إشعاعي في 8 مواقع من أصل 11 موقعاً في كوسوفو قصفتها قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1999 بذخائر تحتوي على اليورانيوم المستنفد. وقد نُشرت تقارير عديدة تؤكد تزايد الإصابات السرطانية في البوسنة وكوسوفو عقب الحرب.
وجهت منظمة الصحة العالمية نداء الى المجتمع الدولي للمشاركة في تمويل صندوق عاجل لأبحاث كشف الأضرار المحتملة لليورانيوم المستنفد في العراق والبلقان. وقال مدير النشاطات الطارئة فيها كزافييه لوس في مؤتمر صحافي: "من غير المقبول أن يبقى الشك قائماً... إن هذا الشك، مع كل التكهنات التي تصحبه، يكشف ضرورة سد النقص في معلوماتنا بشأن الموضوع".
الاصابة والموت باقيان
لا شك أن استجابة منظمة الصحة العالمية لدراسة آثار اليورانيوم المستنفد على الشعب العراقي خطوة إيجابية. ولكن اقتصار تقييم نتائج الكارثة البيئية والصحية في العراق على هذه المنظمة وحدها أمر ناقص، يتعارض وتشخيصات العلماء المعنيين، بمن فيهم خبراء في وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، المؤكدة أن هذه المهمة لا يمكن أن تنجح من دون الإسهام الفعال لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والوكالة الدولية للطاقة الذرية وبرنامج الأمم المتحدة لمكافحة التلوث والوكالة الدولية لمكافحة السرطان وغيرها، بالتعاون والتنسيق مع مراكز أبحاث متخصصة دولية وإقليمية ومحلية.
ويتخوف كثيرون من عدم وفاء منظمة الصحة العالمية بوعودها، في حين يأمل آخرون أن تلتزم الموضوعية عند أخذها العينات، بحيث تشمل المناطق الأكثر تضرراً، بعيداً عن أي تدخلات. وهي مدعوة لتكون جريئة بإعلان النتائج التي تتوصل إليها، غير آبهة بأي ضغوط، فتحذو حذو كبير خبرائها الدكتور كارول سيكورا، رئيس البرنامج الدولي لمكافحة السرطان، الـذي زار العراق واطلع بأم عينيه علـى نتائج مأسوية لكارثة استخدام سـلاح اليورانيوم المستنفد، ونشر مشاهداته الصريحة فـي مجلة British Medical Journal.
وقد أعرب الدكتور سعيد اسماعيل حقي، وزير الصحة العراقي الموقت السابق، عن قلقه البالغ من ارتفاع نسب الاصابة بالامراض السرطانية في مدينة البصرة جنوب العراق. وأكد في آب (أغسطس) الماضي أن حالات الاصابة بالامراض السرطانية المتوقع تسجيلها لاحقاً تنذر بكارثة سرطانية خطيرة.
واستنتجت دراسة حديثة للبيانات المتوفرة، قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن الحرب الاخيرة فاقمت بما لا يقبل الشك المشاكل البيئية الخطيرة التي تراكمت في العراق خلال العقدين الماضيين. وطالب المدير التنفيذي للبرنامج كلاوس توبفر القوات المحتلة، في نيسان (أبريل) 2003، بضرورة دخول الخبراء الى العراق فوراً، وإجراء مسح ميداني شامل للمشاكل البيئية القائمة، وتحذير المواطنين من مغبة الإقتراب من ركام الحرب. وقال ان اليورانيوم المستنفد "ما زال يثير مخاوف كبيرة لدى الناس، وان إجراء دراسة مبكرة يمكن أن يضع حداً لهذه المخاوف أو يؤكد وجود أخطار فعلاً".
ربما انتهت الحرب في العراق، لكن الاصابة والموت سيبقيان خطراً متربصاً بالناجين لعشرات السنين الآتية، وستبقى ساحة المعركة منطقة قتل لمدة طويلة بعد توقف القتال. هذا الوضع الذي حذر منه الدكتور أساف دوراكوفيتش في شهادته أمام الكونغرس عام 1997، وهو كان رئيس قسم الطب النووي في المركز الطبي لادارة قدامى المحاربين في الولايات المتحدة، يتجدد الآن مع مضاعفات الحرب الأخيرة.
من الضروري أن تدخل الهيئات الدولية المختصة العراق لاجراء تقييم ميداني شامل للتلوث البيئي وعوامل التدهور الصحي القائم. ومن واجب قوات الاحتلال حمايتها وتسهيل عملها، كما أن في مصلحة الشعب العراقي التعاون مع المنظمات الدولية وتأمين سلامة موظفيها وخبرائها.
لعل الوقت ما زال يسمح بمعالجة ما تبقى من براعم المستقبل في مهد الحضارة.
الدكتور كاظم المقدادي طبيب وباحث في التأثيرات الصحية والبيئية لليورانيوم المستنفد، وهو عراقي مقيم في أسوج.
النفايات المشعة:
كيف تعالج وأين تدفن؟
يرتبط انتاج الأسلحة النووية وتدميرها بمشاكل دفن كميات كبيرة من النفايات المشعة. ويعتبر العزل الآمن لتلك النفايات عن الوسط الايكولوجي طوال فترة خطرها الكامن على الانسان الشرط الاساسي لعملية دفنها. هذه المخلفات تثير جدلاً، لأنها تهدد بتلوث مشع يبلغ نصف عمره نحو 4,5 بلايين سنة، أي ان فترة تضاهي عمر الأرض يجب أن تنقضي قبل تلاشي نصف هذا التلوث.
يوسف أبي فاضل
في المرحلة الاولى من ظهور الصناعة الذرية، جرى التعامل مع النفايات المشعة في مختلف دول العالم كنفايات صناعية عادية. ولاحقاً، تبيّن وجود خطأ فادح في تقييم مدى خطورتها. فخلال الفترة الممتدة بين عامي 1949 و1951، كان العلماء السوفيات المكلفون صنع السلاح النووي في مجمع "ميّاك" بالقرب من مدينة تشليابينسك يسكبون النفايات السائلة للصناعة المشعة في مجرى النهر القريب. وقد بلغ نشاط مجمل ما سكب في النهر من نفايات أكثر من 2.5 مليون كوري، وامتصت ترسبات القاع نحو 70 في المئة من النوكليدات المشعة التي احتوتها. (وحدة الكوري Ci- تساوي 37 x 910 تحول نووي في الثانية).
أجبرت النتائج المأسوية لتلك التصرفات على وقف السكب غير المراقب للنفايات السائلة. وأصبحت النفايات المنخفضة والمتوسطة النشاط تسكب في مستنقعات مغلقة، أما العالية النشاط فتجمع في حاويات خاصة وتخزن في مستودعات المصانع. مع ذلك، لم تكن أمكنة التخزين وأجهزة مراقبة حالة النفايات تتناسب ومستوى الخطر الكامن فيها. ففي العام 1957، انفجرت حاوية مليئة بالنفايات العالية النشاط، سعتها 80 طناً واشعاعيتها الاجمالية 20 مليون كوري. وبنتيجة الانفجار، ارتفعت في الجو الى علو كيلومتر سحابة مشعة تقدر قوتها بمليوني كوري، شتتتها الرياح لتلوث مساحة بطول 120 كيلومتراً وعرض 5 كيلومترات. وأطلق على التلوث الحاصل تسمية "الأثر الاورالي الشرقي".
بعد ذلك الحادث، عدلت تكنولوجيا حفظ النفايات السائلة العالية النشاط. الاّ أن مشاكل معالجتها وتكثيفها ودفنها، بالاضافة الى مسألة تجميع النفايات المنخفضة والمتوسطة النشاط، بقيت من دون حل.
واذا كانت الدول النووية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمكنت بفعل قدراتها الاقتصادية الكبيرة من استعمال تكنولوجيا باهظة الثمن لمعالجة النفايات المشعة وحفظها موقتاً ودفنها لاحقاً، فان الوضع الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي السابق لم يكن يسمح بذلك. وفي ظلّ الصراع السوفياتي الأميركي، اعتبرت القيادة السوفياتية الحديث عن ابطاء الانتاج النووي أو ايقافه أمراً مساوياً للخيانة العظمى.
ازاء هذا الوضع، اقترح العلماء السوفيات في مطلع الستينات من القرن الماضي طريقة بسيطة غير مكلفة تقوم على دفن النفايات النووية السائلة في المياه الجوفية العميقة البطيئة التجدد. وسمح الاستعمال الواسع لهذه الطريقة لعدد من المنشآت النووية بالعمل بكامل طاقتها، كالمجمّع الكيميائي السيبيري في مدينة تومسك، والمجمّع الكيميائي المنجمي في مدينة كراسنويارسك، ومعهد الابحاث حول المفاعلات النووية في مدينة ديميتروفغراد. وبلغ الحجم الاجمالي لما دفن من نفايات نووية سائلة في المياه الجوفية حتى العام 2000 حوالى 50 مليون متر مكعب، بما فيها النفايات العالية النشاط. أما الحجم الاجمالي للنفايات النووية المشعة المجمعة في روسيا فقد بلغ 600 مليون متر مكعب، تصل اشعاعيتها الى 1,5 بليون كوري. بالاضافة الى ذلك، تحوي المستودعات الروسية الموقتة 8500 طن من الوقود النووي المستعمل، تصل مجمل اشعاعيتها الى حدود 4,5 بلايين كوري، من ضمنها 2500 طن باشعاعية 1,5 بليون كوري تحتاج الى المعالجة وتشكل مصدراً كامناً لنفايات مشعة.
تصنيف النفايات المشعة
تحظّر الوكالة الدولية للطاقة الذرية دفن النفايات المشعة في شكلها السائل، وتفرض تحويلها الى مواد صلبة. وتؤكد الوكالة على صرامة الحظر بالنسبة الى النفايات السائلة المحتوية على نظائر مشعة معمرة من مجموعة وراء اليورانيوم (transuranium)، بسبب عدم دقة التوقعات المتعلقة بتطور الأنظمة الايكولوجية خلال فترات طويلة. فأية عوامل جيولوجية أو تقنية قادرة على اصابة النظام الهيدروديناميكي بخلل يمكن أن تؤدي الى نفاذ النوكليدات المشعة الى الوسط الايكولوجي.
ومهما تكن سيئات دفن النفايات المشعة السائلة في المياه الجوفية العميقة، يبقى الخطر الناجم عن هذه الطريقة ضئيلاً بالمقارنة مع ما تسببه النفايات الموجودة عند سطح الارض. واذا كانت طريقة الدفن هذه قد اعتمدت في عدد من المنشآت السوفياتية سابقاً والروسية حالياً، فان خصائص التكوين الجيولوجي في منطقة تشليابينسك لم تسمح باستعمالها للتخلص من نفايات مصنع السلاح النووي "ميّاك". لذلك، تابعت ادارة المصنع استعمال الطريقة القديمة التي اعتمدت عام 1951 والقاضية بسكب النفايات المشعة في مستنقعات مفتوحة. وهكذا، تجمع خلال الفترة الممتدة من 1951 ولغاية 1990 في بحيرة "كاراتشاي" حوالى 4 ملايين متر مكعب من النفايات باشعاعية اجمالية قدرها 12 مليون كوري، وفي المستنقع الرقم 17 حوالى 10 ملايين متر مكعب باشعاعية تقارب 20 مليون كوري، علماً أن القسم الأكبر من النفايات المنخفضة النشاط تمّ جمعه في مستنقعات اخرى. وتجدر الاشارة الى أن تخزين النفايات المشعة في مستنقعات مكشوفة يتنافى بشكل فاضح مع متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ان انتشار الرذيذات عند هبوب الرياح العاتية، وإمكان تلوث المياه الجوفية بالنوكليدات المشعة، وخطر الاعاصير، تقف كلها وراء الاحتمال الكبير بوقوع كوارث بيئية اشعاعية.
وفق التصنيف الذي اقترحته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي يأخذ في الحسبان إمكان دفنها النهائي، تقسم النفايات المشعة الى خمس فئات: فئتين منخفضتي النشاط، وفئتين متوسطتي النشاط، وفئة عالية النشاط.
واذا كانت معالجة النفايات المنخفضة والمتوسطة النشاط، التي يقل حجمها عن 20 متراً مكعباً في اليوم والعائدة لمراكز أبحاث ومصانع صغيرة، لا تشكل صعوبات حقة، فان معالجة النفايات السائلة العائدة لمصانع كبيرة ويبلغ حجمها آلاف الأمتار المكعبة يومياً تشكل تحدياً تصعب مواجهته أحياناً. وتصل الصعوبات الى أشدها عندما يتعلق الأمر بمعالجة نفايات مشعة عالية النشاط وتحويلها الى مواد صلبة، حتى وان كان حجمها بضعة أمتار مكعبة في اليوم.
لعزل النفايات المشعة نهائياً، تقترح الوكالة الدولية للطاقة الذرية طرقاً لمختلف الفئات. فهي تسمح بدفن النفايات المنخفضة والمتوسطة النشاط ذات النوكليدات القصيرة الحياة، في شكلها السائل، عن طريق حقنها في أعماق الارض القابلة للنفاذ، وفي شكل لبّ قابل للتجمد في الصخور القليلة النفاذية. ويكمن الحل الآمن لمشكلة النفايات المشعة في الدول الغربية في اختيار المستوعب الباهظ الثمن القادر على تحمل التآكل بفعل الزمن. أما العلماء الروس فيرون الحل الأمثل في حفظ نفاياتهم المشعة على أعماق كبيرة في موقع مناسب جيولوجياً.
النفايات المنخفضة والمتوسطة النشاط
تشكل بقايا معالجة الصخور، بعد معالجة أفلاز اليورانيوم التي يستخرج منها الرادون، القسم الاساسي من النفايات المشعة المنخفضة النشاط. وتولّد محطات الطاقة النووية والمصانع الكيميائية الاشعاعية كمية ضخمة من النفايات السائلة المنخفضة والمتوسطة النشاط.
تتضمن المعالجة التقليدية للنفايات المشعة السائلة المنخفضة والمتوسطة النشاط العمليات الآتية: الترسيب، التبادل الايوني، التبخير، التصفية، الطرق الغشائية، والتحويل الى زفت أو الى زجاج أو خرسانة. ولا تعني المعالجة التخلص النهائي من النفايات المشعة وتحييدها، بل اختزال حجمها وتحويلها الى أشكال أكثر ثباتاً.
خلافاً لتعليمات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، القائلة بضرورة تحويل النفايات السائلة الى صلبة، لا يزال العديد من المصانع الكيميائية الاشعاعية، وبخاصة في روسيا الاتحادية، يعمد الى دفن كميات كبيرة من النفايات المشعة السائلة في طبقة المياه الجوفية العميقة. وتشير الاحصاءات الى أن مجمل ما دفن من نفايات مشعة منخفضة ومتوسطة النشاط في روسيا بلغ 46 مليون متر مكعب، كان نشاطها عند الدفن 2.2 مليار كوري، وحتى عام 1995 انخفض بفعل تفككها الاشعاعي ليصل الى 800 مليون كوري.
واعتمد مختبر أوكريدج الوطني في الولايات المتحدة طريقة مركّبة لدفن النفايات المشعة السائلة المتوسطة النشاط، تقوم على ضخّها عبر بئر في الطبقة الصلصالية وتجميدها لاحقاً في الاعماق. ولتحقيق ذلك، تضخّ النفايات مع الاسمنت والحصى تحت ضغط مرتفع، الأمر الذي يجعلها على شكل خرسانة غير قابلة للتسرّب أو الهجرة.
باختصار، يمكن القول ان تحويل النفايات السائلة المنخفضة والمتوسطة النشاط الى مواد صلبة هو خطوة أساسية نحو تحضيرها للدفن في الاعماق، على أن تحوّل النفايات المنخفضة النشاط الى كتل اسمنتية أو زفتية، والنفايات المتوسطة النشاط الى كتل أساسها الزجاج.
النفايات العالية النشاط
تكون النفايات العالية النشاط صلبة، كالوقود المستنفد وأجهزة التصنيع، أو سائلة، كالمحاليل المتكونة عند تجديد الوقود المستعمل في المصانع الكيميائية الاشعاعية. وتحوّل جميع هذه النفايات الى كتل صلبة، فتسحب منها المياه، ثم تجمّد في كتل حافظة زجاجية أو خزفية أو معدنية خزفية أو زجاجية خزفية. وتوضع هذه الكتل في مستوعبات محكمة الاغلاق وتدفن في مقبرة خاصة تحت الارض.
وتشبه مدافن النفايات أنفاق مناجم حفرت على عمق يصل حتى 100 متر. ويعتقد اختصاصيون في هذا المجال أن دفن النفايات العالية النشاط في آبار يزيد قطرها على 60 سنتيمتراً سيكون الطريقة المستقبلية، على أن يتم في مناطق تواجد المصانع الكيميائية الاشعاعية.
ويعتبر دفن النفايات العالية النشاط المشكلة الاصعب في المرحلة الختامية لحلقة الوقود النووي، نظراً لأن أي تسرّب بسيط قد يشكل كارثة بيئية.
ومن بين التصاميم المختلفة لمقابر النفايات، يعتبر الشكل المنجمي ذو الطريقة المنظمة للحفر الأفقي نموذجياً. ففي أرضية الحفرية أو جدرانها تنشأ آبار عمودية أو أفقية كبيرة القطر توضع فيها براميل النفايات. ويعبأ الفراغ بين البراميل وجدران الآبار بمواد عازلة. وبعد امتلاء المقبرة، تملأ الحفريات بالاسمنت وتختم نهائياً.
والى جانب المقابر المنجمية، اقترحت في تسعينات القرن الماضي مقابر جبلية، كالمقبرة التي تنفذ على جبل "ياك" في ولاية نيفادا الاميركية والتي تبلغ تكاليفها أكثر من 40 بليون دولار. ويتوقع أن ينجز بناؤها سنة 2010 وأن تتسع لدفن 87 ألف طن. وهي تقع في منطقة التهوية على مستوى 300 متر فوق المياه الجوفية الموجودة على عمق يراوح بين 40 متراً و500 متر. وبعد عشر سنوات من العمل في الموقع وتوظيف أكثر من 2.5 بليون دولار، تباطأت وتيرة العمل نتيجة دراسة أظهرت أن الموقع كان عرضة لفياضانات قبل أكثر من 20 ألف سنة. فالتقيد التام بالشروط القاسية المفروضة على اختيار مواقع المقابر النووية لا يسمح بالتساهل مع أي احتمال قد يكون وراء كارثة بيئية.
كادر
شروط عامة لمعالجة النفايات المشعة
- تعزل النفايات عن البيئة التي يعيش فيها الانسان أو يعمل، وحيث تقطن الحيوانات وينمو النبات.
- تحفظ النفايات أو تدفن في أمكنة يصعب الوصول اليها وتكون بمأمن من الكوارث الطبيعية.
- ترسم حدود المنشآت والاراضي والوسط الجيولوجي حيث توضع فيه النفايات بوضوح، على أن تؤخذ الظواهر الطبيعية بعين الاعتبار عند اختيارها. وتمنع ضمن حدود المنشآت كافة الانشطة غير المتعلقة بالنفايات.
- تؤمن المنشآت عزلاً للنفايات طوال الفترة الضرورية لتحولها الى مواد غير خطرة.
- للحد من اصابة العمال والسكان بالاشعاع، يجب اختزال عمليات التحضير والمعالجة ونقل.
الدكتور يوسف أبي فاضل أستاذ البيئة في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية.