ريتشارد هاملتون (أنتنانريفو، مدغشقر)
غابة ساكوانتوفو في جزيرة مدغشقر ليست غابة عادية. أنابيب خضراء رفيعة مغطاة بالأشواك تنمو الى جانب أشجار سامقة تعلوها كتل أوراق شبيهة بالابر. وأشجار الباوباب الخفيضة بجذوعها المنتفخة تجاور أجمات متشابكة من الشجيرات الشائكة. وفوق هذه التشكيلة النباتية، التي تبدو غريبة أو دخيلة، سماء زرقاء صافية. وتحتها رمال حمراء.
من يجرؤ على التوغل يشهد تحول الغابة الشوكية الجافة تدريجياً الى غابة حوضيَّة تنمو على نهر. هنا تبدو الغابة مألوفة أكثر، اذ تغلب عليها أشجار التمر الهندي. لكن هناك أيضاً أشجار الفيكوس، وهو نوع من التين، ونباتات كثيرة أخرى. ويخالج المرء شعور لا يصدق بالسكون، لا تبدده الا زقزقة الطيور بين الحين والآخر، وهمهمات قردة الليمور (الهبّار).
شعب الماهافالي المحلي عرف منذ زمن بعيد أن للغابة مكانة خاصة، فهي مقدسة عنده. يقول إفوريرازا الذي يعيش في قرية قريبة مع زوجته وطفليه: "في هذه الغابة دفن أسلافنا، وهناك شجرة مقدسة في وسطها لا يمكن لمسها. وثمة أيضاً حيوانات يجلّها السكان، كالسلاحف والليمور والطيور، هذه يحرَّم صيدها وإلا طاردت أرواحها المعتدين".
الشجرة المقدسة تينة ضخمة يعتقد أن عمرها ألف سنة، تنتصب شامخة بجذورها المتشابكة وجذعها الراسخ. وفي مكان ليس ببعيد عنها كومتان قديمتان من الصخور والحجارة، هما ضريحا العائلة المالكة التي حكمت شعب الماهافالي.
سوبرماركت الطبيعة
لغابة ساكوانتوفو طابع خاص أيضاً من الناحية الطبيعية. يقول مارك فين، مندوب الصندوق الدولي لصون الطبيعة (WWF) في جنوب مدغشقر وخبير الأنظمة الايكولوجية في المنطقة: "إنها مثال صارخ على منطقة متحولة. فعلى جانبي حوض النهر غابة حوضية، حيث النباتات تضخّ المياه من الأرض، وفي جوارها غابة شوكية جافة تحوي نباتات ماصَّة تخزن المياه. وهكذا تجد غابة تأخذ المياه بجوار أخرى تخزنها".
الحرباءات وقردة الليمور والسلاحف التي تعيش هناك لا توجد في مكان آخر على الأرض. وأشجار التمر الهندي بنوع خاص مهمة للثدييات والزواحف والبرمائيات والطيور. وللغابات الحوضية أهمية بالغة للحياة الفطرية في الجزيرة. وهي تكون متاخمة لجدول أو نهر أو مستنقع أو شاطئ، وتؤدي دوراً حيوياً في الحفاظ على سلامة المجرى المائي أو الشاطئ. فتخفض أثر مصادر التلوث الموجودة على اليابسة، باحتباس الرسوبيات والمغذيات والمواد الكيميائية الأخرى وتصفيتها وتحويلها، كما توفر الطعام والملاذ للأسماك والأحياء الأخرى.
لم يبقَ في الجزيرة الا القليل من الغابات الحوضية. أما الغابات الشوكية الجافة في الجنوب الشرقي فتغطي مساحة 6,6 مليون هكتار. مدغشقر، التي هي رابع أكبر جزر العالم، فقدت 80 في المئة من غطائها النباتي الأصلي. وحصل أكثر من نصف هذه الخسارة في السنوات المئة الماضية.
المشكلة الرئيسية هي القطع غير المشروع للأشجار للحصول على حطب الوقود والفحم ولزراعة الرز. فالطريقة الزراعية التقليدية، القائمة على القطع والحرق، لاخلاء الغابة من الأشجار والنباتات إفساحاً في المجال لزراعة الرز، هي مشكلة بعينها. وسكان مدغشقر هم أكبر مستهلكي الرز في العالم على أساس الفرد، فالواحد منهم يأكل يومياً ما معدله نصف كيلوغرام. ومع تزايد عدد السكان، تتلاشى الغابات بوتيرة تدعو الى القلق.
و"الغابات المقدسة" ليست استثناء، فهي في جنوب مدغشقر آخذة في الاضمحلال ما دام الناس يتعاطون الزراعة حولها. ولا يستبعد أن تصبح قريباً مجرد رقع صغيرة من النباتات حول ضريح أو شجرة جليلة.
الممارسات التقليدية، التي ساعدت في الماضي على حماية الحياة الفطرية، هي أيضاً آخذة في الزوال. وجزيرة مدغشقر واحدة من البقاع التي تعاني أكبر حرمان في العالم من ناحية الفرص الاقتصادية. فالمناخ ليس مؤاتياً للزراعة على الدوام. وعندما يحتاج الناس الى طعام، يصبح ممكناً خرق الحظر المفروض على صيد أنواع معينة. والغابة "متجر" للأدوات المنزلية وصيدلية للسكان المحليين. وفي أزمنة الجوع، تصبح أيضاً "سوبرماركت" المواد الغذائية.
يقول أفيماري، أحد أمراء الماهافالي: "السكان يضطرون الى قطع الأشجار لصنع الفحم وكسب مال لاطعام أطفالهم. ان قطع الأشجار عمل لا يمارسونه عن طيب خاطر". ثم إن دخول العالم الحديث الى مدغشقر يؤثر أيضاً على الممارسات التقليدية. يقول أفيماري: "بعض الشباب يتجاهلون القانون وكلام الكبار".
"توتولو إياينانا"
قد تظهر غابة ساكوانتوفو كيف يمكن أن تُقلب هذه الصورة التي تبعث على الأسى. ففي حزيران (يونيو) الماضي، تم تحويل حقوق ادارتها من حكومة مدغشقر الى جماعة الماهافالي المحلية. وهذا التحويل ليس مجرد عمل رمزي. فالفكرة هي أن أفضل من يعرف كيف يعتني بالأرض هم السكان الذين يعيشون عليها. وشعب الماهافالي قادر الآن على ادارة الغابة، الأمر الذي لم تحقق الحكومة بصدده نجاحاً يذكر في الماضي. وكان قطع الأشجار وجمع الأعشاب الطبية بصورة غير مشروعة في ازدياد. أما الآن، ومن خلال لجان الادارة المحلية، فقد التزم شعب الماهافالي ادارة غابته المقدسة بطريقة مستدامة بالتعاون مع السلطات المحلية.
هذا يمثل تحولاً عن المعتقدات السابقة، التي كانت تعتبر أن الوسيلة الفضلى لحماية الغابات هي اقامة منتزهات وطنية تستبعد السكان المحليين. ومن خلال هذا الأسلوب الجديد، ستنفذ آليات عصرية لادارة الغابات، الى جانب الممارسات والمعتقدات التقليدية. ويبدو أن هذه الفكرة تسير حسناً حتى الآن. يقول أفيماري: "أعتقد أنها فكرة ممتازة. فاذا استمر قطع الأشجار، ستدمَّر غابات مدغشقر بالكامل، ولن يبقى لنا غير التربة الجرداء".
ولعل الوسائل التقليدية لحماية الغابة هي الحل الذي اجتهد البيئيون عقوداً للعثور عليه. يقول مارك فين: "إحدى استراتيجياتنا الحمائية الرئيسية تعزيز العادات والتقاليد الثقافية والاجتماعية التي تصون البيئة". وهذا الاسلوب الحمائي ليس جديداً على سكان مدغشقر. فهم يرددون عبارة "توتولو إياينانا"، التي تعني "العالم حولنا"، من منظور أن الانسان والطبيعة يعيشان معاً بانسجام. وهذا يبشر ببقاء غابات مدغشقر وسكانها المحليين وتقاليدهم.