تتساءل الهيئات البيئية في دول الخليج عن مصدر سبائك الحديد المصهور التي أصبحت تجارة رائجة في الشهور الأخيرة. فالسبائك المعدنية، التي يتم تداولها بأسعار منافسة، يعرضها تجار من دول غير معروفة بانتاج المعادن. فمن أين جاءت المواد الخام؟
لا يجد المتابعون جواباً إلا في بقايا الآليات العسكرية المدمرة في حروب الخليج خلال العقدين الماضيين. فهل يتم صهرها مع الغبار المشع وبيعها كمواد أولية؟
إن مجرد التفكير في هذه الامكانية أمر مخيف. فقذائف اليورانيوم المستنفد هي السلاح الذي تم استخدامه علناً ضد الآليات المصفحة، في حربي 1991 و2003. وليس من دليل عن دعم استخدام هذه القذائف في الحرب العراقية ـ الايرانية من قبل، اذ انها متوفرة في أسواق السلاح، عدا عن انها الأكثر فعالية في اختراق الدروع.
ولا تقتصر قذائف اليورانيوم المستنفد على الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، اذ ان 17 دولة تمتلكها الآن في ترسانتها المسلحة. والغبار المشع الناجم عن انفجارها هو مصدر الخطر، إذ يستمر ملايين السنين، وهو قاتل إذا دخل الجهازين الهضمي والتنفسي.
الآليات العراقية التي دُمّرت باليورانيوم المستنفد في الكويت عام 1991 تم تجميعها في "مدافن" صحراوية، وجرت عمليات لتنظيف طبقات الرمل السطحية. غير أن كثيراً من السكان ما زالوا يحتفظون بشظايا القذائف وقطع الآليات المدمرة داخل بيوتهم ومكاتبهم للذكرى، في غياب أي برنامج ارشادي حول خطرها، وفي غياب برنامج للرقابة المستمرة، يقيس مستوى الاشعاعات في المناطق المصابة وينشر نتائجها.
وفي حين يتجنب الجنود الغربيون المواقع المضروبة بهذه القذائف، لم يتم تحذير الأهالي من أضرارها، ولم تحصل عمليات تنظيف جدية بعد. وفي غياب تقارير موثوقة من هيئات علمية، أجرى سكوت بيترسون، مراسل صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأميركية، فحصاً بجهاز لقياس الاشعاعات في مناطق مختارة داخل بغداد، أثبت وجود مستويات تتجاوز القياس العادي بما بين 1000 و1900 مرّة.
وكانت مصادر صحية عراقية في السلطة الموقتة أعربت عن قلقها من ارتفاع حالات الاصابة بالأمراض السرطانية بين السكان. وشهد البرلمان الهولندي مؤخراً نقاشاً حامياً حول أساليب حماية جنود الوحدة الهولندية المتمركزة في العراق من خطر اشعاعات اليورانيوم المستنفد. وللذين ما زالوا يشككون في خطر اليورانيوم المستنفد، نذكر أن الولايات المتحدة دفنت ست آليات أميركية تم ضربها خطأ بقذائف "صديقة" خلال حرب 1991 في الصحراء العربية، اذ اعتبر نقلها إلى الولايات المتحدة خطراً لأنها شديدة التلوّث. بينما تم دفن آليات أخرى مضروبة نقلت الى الولايات المتحدة في مطامر مخصصة للنفايات المشعة المنخفضة.
برنامج الأمم المتحدة للبيئة أصدر عقب الحرب الأخيرة في العراق تقريراً أولياً عن آثارها المحتملة على البيئة، ووعد باجراء مسح فوري عن اليورانيوم المستنفد لمعرفة كمية الأجزاء المشعة في الهواء والتراب والماء خلال الشهور الأولى من انفجار القذائف، لكن هذا لم يحصل حتى اليوم. وإذا كان النظام السابق قد عرقل إجراء دراسة علمية لآثار اليورانيوم المستنفد في العقد الذي تلا حرب 1991، فماذا يمنع فتح الباب أمام الهيئات الدولية المختصة لاجراء استطلاع شامل ودقيق الآن؟
نحن نفهم أن هناك ضغوطاً لمنع تحديد ماهية الأضرار والأخطار المحتملة لاشعاعات غبار قذائف اليورانيوم المستنفد، وذلك لتجنب مطالبة الناس المتضررين بتعويضات. لكنه يحق لشعوبنا الحصول على تقرير مستقل من الهيئات الدولية، أسوة بالبوسنة وكوسوفو، ينتج عنه تنظيف المواقع الملوثة، واطلاق برنامج توعية لتحذير الناس من الأخطار.
لكن يبدو أن تجار سبائك الموت كانوا أسرع من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في اكتشاف مواقع الدمار.
|