عماد فرحات
روى البحارة القدماء حكايات عن مشاهداتهم لعرائس بحر لها جسد امرأة وذيل سمكة. هذه الأساطير الشعبية ربما كان ملهمها الاطوم، الأطُوم، المعروف بعروس البحر أو بقرة البحر، ذلك الحيوان الثديي الذي يشبه رأسه بعض الشيء رأس الانسان. والأم عندما ترضع وليدها تشده نحو صدرها بإحدى زعنفتيها، مثلما تحتضن المرأة طفلها بذراعها. وعندما يتعرض الاطوم للمضايقة يغوص فجأة في المياه رافعاً ذيله نحو الأعلى.
الاطوم (Dugong dugon) حيوان ثديي بحري كبير، يراوح طوله بين 2,4 و2,7 متر، ويستدق جمسه عند ذيل منشعب ومسطح أفقياً. له "ذراعان" في شكل زعنفتين مستديرين، وليست قه قائمتان خلفيتان. ويستخدم شفتيه العضليتين الكبيرتين (القليا مشقوقة) لتمزيق النباتات المائية. أضراسه القوية و"الداهسات" الصلبة في مقدم فكيه تطحن الطعام. وللذكر قاطعان صغيران يشبهان الناب. يتغذى الاطوم غالباً أثناء الليل، ويرتحل عادة في أزواج أو مجموعات صغيرة. وبعد حمل يدوم 13 الى 14 شهراً، تضع الأنثى عادة مولوداً واحداً في الماء وترضعه من حلمتين في صدرها.
تتركز تجمعات الاطوم على سواحل نحو 42 دولة في المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ والساحل الشرقي لإفريقيا والبحر الأحمر والخليج العربي. وتقدر أعدادها بأقل من 40 ألفاً. ويؤوي الخليج العربي ثاني أكبر تجمع لها في العالم بعد اوستراليا. وتتركز قطعانه على سواحل السعودية والبحرين وقطر والإمارات. وجزيرة عقب في الإمارات هي أقدم موقع اكتشفت فيه بقايا لهذه الحيوانات تعود إلى 6000 سنة خلت.
وفي البحر الأحمر، تتعرض هذه الحيوانات لقلة من الضغوط البشرية. وقد توقعت دراسة عالمية أجريت السنة الماضية، بدعم من برنامج الأمم المتحدة للبيئة والصندوق العالمي لصون الطبيعة ومنظمات دولية أخرى، أن تعزز هذه المنطقة تواجد أعداد كبيرة من الاطوم، وأن تلعب المملكة العربية السعودية دوراً حيوياً في حماية موائله والحفاظ عليه لانخفاض الكثافة السكانية على سواحلها. وتعمل السعودية حالياً على حماية 11 ألف أطوم في مياهها الإقليمية، منها 7000 في مياه الخليج و4000 في البحر الأحمر. وقد أشار أنس سمبس، خبير الاحياء المائية والباحث في الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وانمائها، إلى ان دراسات أجريت بالتعاون مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي كشفت عن 38 موقعاً للاطوم شمال البحر الأحمر في السعودية.
خسائر لا تعوَّض!
"عرائس البحر"، هذه الحيوانات البحرية المسالمة، تتعرض لخطر جدي ومتزايد في معظم مناطق تواجدها. فقد أشارت الدراسة العالمية التي أجريت السنة الماضية إلى أن ازدياد التلوث من البر ومشاريع التنمية الساحلية وحركة الزوارق وشباك الصيادين هي من الأخطار التي تساهم في تدمير موائلها. وصيدها طمعاً بلحمها وجلدها ودهنها وزيتها، وللتذكارات أيضاً، يضيف إلى هذه الضغوط. وقد اختفت عرائس البحر في بعض الأماكن مثل مياه جزر موريشوس وسيشل ومالديف وغرب سري لانكا وجزر ساكيشيما شوتو اليابانية ومصب نهر بيري في هونغ كونغ وعدد من الجزر في الفيليبين وأجزاء من المياه الكمبودية والفيتنامية. وأعدادها آخذة في التناقص في أماكن أخرى، ربما باستثناء المياه الأوسترالية الشمالية ومياه البحر الأحمر والخليج العربي. والوضع في شرق افريقيا يدعو الى القلق بنوع خاص، إذ قد يكون المكان التالي الذي يصبح فيه الاطوم منقرضاً ما لم تتخذ إجراءات عاجلة للحيلولة دون ذلك.
وحتى حيث تبدو الأعداد مستقرة أو مزدهرة، ليس هناك ما يدعو إلى الاطمئنان. فالامتداد السكاني المتنامي في أماكن انتشار الاطوم يشكل ضغطاً على الموائل الساحلية التي ينحصر فيها، بسبب اعتماده على الأعشاب البحرية كغذاء. كما أن الاطوم يتوالد بمعدل منخفض جداً، إذ نادراً ما تضع الانثى أكثر من مولود واحد طوال حياتها، في وقت ما بين عامها السادس والسابع عشر. ويتعذر عليها الإنجاب عندما يحدث نقص في الطعام. وهكذا، حتى في بيئة مثالية خالية من الضغوط والتلوث، يستبعد أن ترتفع أعداد الاطوم أكثر من خمسة في المئة سنوياً. وحتى نفوق أعداد صغيرة من "العرائس" البالغة، نتيجة خسارة الموائل والمرض والصيد والموت غرقاً في الشباك، يمكن ان يحدث انخفاضاً لا يعوَض.
تدابير إنقاذية
التوصيات إلى يطرحها العلماء للحد من انخفاض أعداد الاطوم وتعزيزها، تركز على حماية المسطحات العشبية البحرية التي تعتمد عليها هذه الحيوانات النباتية اعتماداً شبه كلي. والأعشاب البحرية تحتاج إلى ضوء الشمس لكي تنمو. وفي مناطق عديدة من العالم، تُزال هذه الأعشاب من أجل مشاريع التنمية، أو يطمرها الطمي والوحول التي تجرفها مياه الأمطار إلى الشواطئ نتيجة التعرية الناجمة عن رعي المواشي على الكثبان الساحلية وإزالة الغابات والزراعة المكثفة. وقد ترتبت آثار مماثلة على إنشاء الموانئ، وجرف الرمال، واقتلاع أشجار المنغروف (القرم) لاستعمال حطبها وقوداً ومواد بناء، و"تنظيف" المستنقعات لاستخراج الملح وتربية الروبيان، وتدفق المياه الزراعية الملوثة بمبيدات الأعشاب.
ويطرح تغير المناخ خطراً جديداً، مع ما يسببه من اشتداد في قوة العواصف والفيضانات الجارفة. وقد شهدت أماكن مثل جنوب شرق آسيا واوستراليا دمار مساحات شاسعة من مسطحات الأعشاب البحرية في السنوات الأخيرة نتيجة هذه الظواهر.
عرائس البحر، تلك الحيوانات الغامضة منذ القدم، تستحق رعاية عالمية كتلك التي تحظى بها ثدييات بحرية أخرى كالحيتان والدلافين. ويرى العلماء الدوليون أن حظها الاوفر بالبقاء هو في المنطقة العربية. فلعل دول المنطقة تقوم بمبادرات رائدة، على المستوى الوطني والاقليمي لحماية مُلهمات البحارة القدماء.