تحدد "شرعة المواطن البيئية" التي صدرت في لبنان مؤخراً المبادئ العامة لحماية البيئة وحسن إدارتها، وتعدِّد حقوق المواطن وو السلطات العامة، وتدعو المواطن الى المشاركة والمساءلة وممارسة مواطنيته.
أما على أرض الواقع فالدولة سائرة بالاتجاه المعاكس. البيئة تُهدم وتُشوَّه وتُلوَّث بتواطؤ أجهزة الدولة، وباتجاه متصاعد ومتسارع أصبحت معه هذه الشرعة الصادرة عن وزارة الاصلاح الاداري بمشاركة وزارة البيئة وكأنها من مساحيق التبرج والتجميل لاخفاء تجاعيد الدولة، وما أكثرها. فقد أخفقت تلك الوزارة في تنفيذ مهمتها الاصلاحية، وهُمِّشت وزارة البيئة، وفتحت شهية مخربي البيئة، فخرجوا من قمقم مغارة علي بابا يمعنون في تهديمها.
هنا بعض الأمثلة:
الشرعة تدعو للمشاركة والمساءلة، وجاء قانون البيئة العام يحرم المواطن من حق الادعاء بواسطة الجمعيات الأهلية، والشكاوى البيئية إما توضع في غرفة الانتظار واما تنتهي في خانة المهملات.
الشرعة تدعو الى إزالة ما تدعوه خجلاً "الاستعمالات الخاصة للمرافق العامة" والتي تُصنف قانوناً في باب التعديات على الأملاك العامة، لا سيما البحرية والنهرية، وعقوبتها سنتان حبساً. ان قرصنة الأملاك العامة البحرية والنهرية، التي تشكل تراثاً وطنياً طبيعياً وثقافياً وثروة سياحية، تطاول ملايين الأمتار المربعة وهي مستمرة منذ ربع قرن، وتواصل الشاطئ مقطوع، والمواطن محروم من حقه في الانتفاع بالشاطئ، والدولة عاجزة عن وضع حد لهذه القرصنة وإعادة الانتفاع بالملك العام الى مالكه، أي الشعب، ومهمة مفرزة السواحل معطلة.
الشرعة تطالب بمنع تلوث الموارد البيئية، فيما يتم تلويث البحر والمياه العذبة يومياً بالمياه المبتذلة، رغم أن القوانين المتعاقبة منذ الثلاثينات تجازي هذه الجريمة. فالجور الصحية ذات الغور المفقود، وعقوبتها سنتان حبساً، ما تزال تحفر ليلاً أو في أيام العطلة بنصيحة بعض المكلفين بتنفيذ القانون، لقاء تسعيرة تختلف باختلاف المناطق. شاطئ حالات يلوث تلويثاً كيميائياً خطيراً من المعامل المجاورة المتظللة بحمى السياسة والمال. الشكاوي تتعثر منذ أشهر في وزارة البيئة. وقد طال التلوث بحيرة القرعون وجعلها غير صالحة للاستعمال وقضى على العديد من الأسماك، فضلاً عن تلويث مجاري المياه والأنهر وحتى وادي قنوبين الذي يواجه خطر حذفه من لائحة التراث العالمي.
في منطقة الكورة ـ البترون، معمل سلعاتا يلوث الهواء بالأحماض (الأسيد) فيتآكل حتى الزجاج. وبعد تقديم شكوى وتعيين لجنة خبراء من قبل المدعي العام البيئي ورفع تقريرها الذي يشدد على خطورة هذا التلوث المتفاقم على حياة الانسان، أدخلت القضية غرفة الانتظار بدلاً من إدخالها غرفة العناية الفائقة. والمعامل في شكا تبث سمومها ليلاً حيث لا رقابة.
أنشأت بلدية عمشيت مسبحاً عاماً حديثاً أنفقت عليه الأموال الطائلة، يلوثه منتجعان بحريان حتى أصبح مصيدة لصحة الرواد. ورغم المراجعات، يبدو أن المسؤولين في البلدية فقدوا حواسهم، علماً أن رئيسها طبيب. وهذه البلدية بالذات هدمت التعديات على الطريق العام البحري التي قامت بها جهات تفتقر الى الدعم السياسي والمالي، لكنها توقفت أمام أسوار عكا التي تحمي قصر أحد السياسيين المثقفين البارزين الذي اغتصب الطريق والبحر معاً لإنشاء حديقة "غازون" وقطع تواصل الشاطئ.
تطالب الوثيقة بالحفاظ على الثروة الطبيعية، وجبل كفركدة في قلب لبنان المشجر بالسنديان يصحَّر وأشجاره تتحول الى فحم. وقد نظمت وزارة الزراعة محاضر ضبط، إلا أن قوى الأمن لا تنفذها بحجة وجود ألغام. لكن يبدو أن هذه الألغام سياسية ومالية. وكلما أوقف الجيش المعتدين يتم تحريرهم بعد يومين فيعادون القطع والتفحيم بنشاط مستدام.
كثير من المقالع والمرامل المقفلة تعمل ليلاً أو في أوقات متقطعة ومختارة بدقة. الرقابة مغيبة أو غائبة، والهدم والتشويه والتلويث تغتال جميع عناصر البيئة.
أنشأت وزارة البيئة مكب الناعمة الصحي. فأصبح كارثة بيئية عندما توقف تطبيق الشروط القانونية والفنية مع توقف الوزارة عن الرقابة. المكبات غير القانونية منتشرة في كل لبنان، تلوث التربة والمياه والبحر، وأبرزها حالياً مكب صيدا، رغم أن رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب هما من الجنوب، وكذلك وزير البيئة السابق.
فضلاً عن الكوارث البيئية المستمرة، هناك وضع اقتصادي واجتماعي يسير من سيئ الى أسوأ: هجرة مستمرة ولا سيما للأدمغة، العاطلون عن العمل في ازدياد، محلات ومؤسسات صناعية وتجارية تقفل كل يوم وعمالها يسرحون، ضرائب مستجدة وخدمات اجتماعية متعثرة، وفي الوقت نفسه يطالع المواطن كل يوم أخبار الفضائح والصفقات وهدر الأموال العامة والحصحصة والخصخصة المشبوهة، من دون أن تتحرك الدولة للمحاسبة والمساءلة.
المواطن يردد: إسمع تفرح جرِّب تحزن. فكيف يطلب منه أن يؤمن بوثيقة صادرة عن الدولة وهي تخالفها في كل تصرفاتها في ظل قوانين بيئية إلزامية ورادعة لا تطبق. يفترض تطبيق هذه الشرعة البيئية شروطاً مسبقة يجب تحقيقها حتى تتمتع بالصدقية المطلوبة. والشرط الأول هو تثبيت دعائم دولة القانون والمؤسسات.
دولة القانون هي التي تطبق القانون على الجميع من دون تفريق أو تمايز. جميع مشاريع قوانين البيئة خضعت وتخضع للعبة شهرزاد في مط الوقت، بحيث يتم وضع مشروع القانون ولكنه يتعثر سنوات بين مجلس الوزراء واللجان النيابية، وإذا صدر فانه يأتي معاقاً بفعل تدخل المصالح السياسية والمالية، كما هو حاصل لقانون البيئة العام واستثمار الأملاك العامة وتسوية التعديات البحرية وتنظيم وزارة البيئة وقانون المحميات وغيرها.
القوانين موجودة والعقوبات رادعة، ولكن دولة القانون والمؤسسات مفقودة، والقانون لا يطبق على حيتان المال والسياسة الذين يقرصنون البيئة، وقد لجأت الدولة الى لعبة تجهيل الفاعل لحمايتهم. ورغم خطورة الجرائم البيئية ووعود خطاب القسم، فما يزال المجرمون البيئيون مجهولي الهوية بالنسبة الى الدولة رغم تداول أسمائهم على كل شفة ولسان. لدينا جرائم وليس لدينا مجرمون، وتجربة المدعيين البيئيين لم تلجم الجرائم البيئية فباتت كأنها في عداد الكوارث الطبيعية.
دولة المؤسسات تستدعي إدارة حرة كفوءة غير مسيَّسة وصالحة بعيدة عن الفساد والرشوة. أما الادارة في لبنان فازدادت تسيساً وفساداً. فاذا اجتاز صدور القانون حواجز ألف ليلة وليلة يبقى أن يجتاز تطبيقه حواجز الادارات المختلفة. لقد أجمع وزراء الاصلاح الاداري المتعاقبون على ما قاله النائب والوزير الراحل خاتشيك بابكيان: "ثمة أمر واحد واضح ومؤكد، هو أن شيئاً لن يتحقق لا اليوم ولا في المستقبل المنظور... إذا بقيت الادارة مسيَّسة وبقيت انتماءاتها مشدودة بين رؤساء الطوائف والأحزاب وأرباب النفوذ والسلطة والمال".
هذا الأمر أكده المفتش السابق لدى دائرة التفتيش المركزي ومحافظ الشمال السابق خليل الهندي في مؤتمر الاصلاح في لبنان عام 2002، وهو أعلم من غيره بهذا المرض. قال ما معناه ان سبب مراجعة السياسيين والمتنفذين له كان بنسبة 99,99 في المئة لتغطية مخالفة أو للقيام بمخالفة، وخلص الى الاستنتاج أن الادارة جاهلة وعاجزة وفاسدة ومفسدة للمواطن ومتخلفة ومسيَّسة.
وهكذا فان سبب الأمراض الوبائية التي تنخر جسم الادارة وتمنع تنفيذ القوانين هو السياسة والسياسيون. فالاصلاح الاداري، وعمره يفوق العشر سنوات وقد استهلك أكثر من وزير، لم يتمكن من فك الارتباط بين الادارة والسياسة والطائفية وحتى المذهبية ولا منع مضاعفة معدلات الرشوة باستمرار. هناك حلف غير مقدس بين السياسي المفسد والموظف الفاسد. فالأول يحمي الثاني، والثاني يؤمن له الخدمات وجلها مخالفة للقانون. ان حماية البيئة والأملاك العامة تتطلب إعادة تأهيل الدولة، لأنها مرتبطة بالتشريعات وبتطبيقها، والبيئة هي الأكثر تضرراً من تسييس الادارة وفسادها.
القوانين موجودة ولكنها غير مطبقة، والخبرات متوفرة ولكنها مهمشة، والأموال متوفرة ولكنها معرضة للسرقة والهدر، لأن الدولة غائبة أو مغيبة أو متواطئة، والرقابة معدومة، ودور المواطن مهمش وقد أقعده اليأس والاحباط. في هذا الجو ستبقى البيئة الغنيمة الكبرى التي يتقاسمها أعضاء القبيلة. و"بحره بَرُّه دُرَّة الشرقين" أضحت أكذوبة كبرى.
أما الشرط الثاني لتطبيق شركة المواطن البيئية فهو ملازم للأول، وهو الانتقال من الرعية الى المواطنية. المواطنية تفترض وتستدعي المساواة في الحقوق والواجبات، من دون تفريق أو تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي أو الانتماء أو الثروة، ومن دون تفريق بين الرجال والنساء، كما نصت شرعة حقوق الانسان. أما في لبنان، فما تزال هذه الحقوق مرتبطة بهذه الانتماءات المختلفة. فالدولة لا تتعامل مع مواطنين من دون وسيط، بل مع رعايا يرعى شؤونهم وعلاقتهم بالدولة زعماء قبائل وعائلات وطوائف ومذاهب. وهكذا، فالحقوق والموجبات تفرق بين الأفراد بدلاً من أن توحد بين المواطنين. وكما قال أحد الأطفال لوزير ثقافة سابق كان يمازحهم بقوله إن الثقافة والكتب أوصلتني الى الحكم: "أنت كذاب، الواسطة وحدها طريق السلطة". ومع تحكّم الواسطة في علاقة المواطن بالدولة، تزول الديموقراطية وتفتقد المواطنية وتنحصر العلاقة بين رعاة وقطعان.
أمام هذا الواقع المؤلم، يعود للمجتمع المدني بجميع هيئاته ومؤسساته أن يقتبس من ثورة الحجارة ثورة الحناجر والأقلام والمواقف، فيشكل قوة ضغط ومساءلة لإخراج الدولة من قمقم القبيلة والغنيمة وترسيخ دولة القانون والمؤسسات. دور الأحزاب والمؤسسات والجمعيات المدنية استعادة ثقة المواطن بعد أن فقدتها الدولة. المواطن غير مبال بإعلان المبادئ والخطب الرنانة والبيانات الوزارية والحزبية، فهو يطالب بإجراءات واقعية ومواقف جادة. لمَ لا نختار معاً موضوعاً بيئياً واقعياً وملحاً، فنجند جميع القوى والفاعليات لتحقيقه بالضغط على مؤسسات الدولة السياسية وأجهزتها الادارية؟
بعد أن حررت حدود الوطن الجنوبية من العدو الاسرائيلي بفضل المقاومة الباسلة، أصبح الموضوع الأكثر إلحاحاً مع دخولنا موسم البحر هو تحرير حدود الوطن الغربية أي البحر المالح كما نص على ذلك الدستور، من قراصنة يغتصبون الأملاك العامة منذ ربع قرن ويقطعون تواصل الشاطئ، فيعطلون وظيفته الاجتماعية ويجعلون من المواطنين أبناء ست وأبناء جارية، ويمنعون هؤلاء الآخرين من ممارسة حقهم بالانتفاع منه بينما شواطئ أوطان الآخرين مفتوحة لهم مجاناً. كيف نبني دولة عندما تكون أرض أوطان الآخرين أرحم للمواطن الصادق من أرض وطنه؟
حماية البيئة هي بالنتيجة حماية الوطن وتراثه وثروته الطبيعية، وتأمين حقوق المواطن التي نصت علها شرعة حقوق الانسان والمواثيق الدولية التي التزم بها لبنان، ومنها العيش في بيئة سليمة وجميلة.
المحامي عبدالله زخيا عضو سابق في لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة، ورئيس لجنة البيئة في نقابة المحامين في بيروت، والمسؤول عن البيئة في المؤسسة الوطنية للتراث وفي الجمعية اللبنانية لحقوق الانسان.