لن يتمكن العالم العربي من تحقيق أهداف التنمية المستدامة ما دام قاصراً في العلم والتكنولوجيا. وستبقى برامج الدول العربية الانمائية مجرد اسعافات أولية، قد توفر مقومات العيش يوماً بيوم، لكنها تعجز عن رفع نوعية حياة المجتمعات العربية في المدى الطويل.
هذا ما خلصت اليه نقاشات طاولة مستديرة نظمتها أكاديمية العالم الثالث للعلوم في مدينة تريستا الايطالية، قدم فيها باحثون أرقاماً مقلقة. فموازنات البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 0,2 في المئة من الدخل القومي، مقارنة مع 22 في المئة في اليابان مثلاً، أي أكثر بـ110 ضعفاً. وما زال نحو 45 في المئة من العرب أمّيين، أي أن 120 مليون عربي لن يتمكنوا من قراءة هذه المجلة، حتى لو وصلتهم مجاناً.
في مقابل موازنات البحث العلمي الضئيلة، يصرف العرب 7 في المئة من دخلهم القومي على التسلح، أي 35 مرة أكثر مما يصرفون على العلم. ومع هذا لا نذكر أننا ربحنا حرباً على عدو خارجي. أما عدد الباحثين العلميين العرب، فهو ضئيل أيضاً، لا يتجاوز العشرين ألفاً، من أصل 282 مليون شخص يقطنون هذه الأرضي الممتدة من المحيط الى الخليج.
وقد ذكرني هذا بحادثة رواها العالم المصري ـ الأميركي أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل. ففي احدى جلسات مناقشة ميزانية الأبحاث العلمية في لجان مجلس الشيوخ الأميركي، سأل رئيس اللجنة: ما هي فائدة هذه الأبحاث التي تطلبون لها آلاف ملايين الدولارات في الدفاع عن الولايات المتحدة؟ فكان جواب الهيئات العلمية: ان البحث العلمي يجعل بلدنا وطناً يستحق أن ندافع عنه.
لقد تحوّلت الدول العربية، غنيّها وفقيرها، الى مجتمعات استهلاكية، تعيش على فتات ما يقدَّم لها من منتجات جاهزة. وهي تتصرف كأنها قبلت بهذا الوضع كقدر محتوم كُتب عليها، من دون أن تحاول ايجاد مكان لها كشريك دولي في العلم والتكنولوجيا. فالدول الفقيرة تعتبر أن صراع البقاء اليومي يتقدم على العلم، ولا يقدّر حكّامها أن البحث العلمي، مهما كانت كلفته، يبقى الطريق الأرخص لاعطاء الشعوب مقومات الخروج من الفقر والعوز. أما الدول العربية الغنية، فتعتبر أن شراء المنتجات والتكنولوجيا الجاهزة أسرع طريق الى التقدّم، في حين أن بناء القدرات العلمية الذاتية هو الضمان الوحيد لادارة متوازنة للثروات والحفاظ على البحبوحة.
تحقيق التنمية المستدامة يتطلب تطوير قدرات علمية محلية لتعميم التربية والثقافة التكنولوجية، ومعالجة معضلات ندرة المياه العذبة باستنباط وسائل فعالة للتحلية والزراعة الملحية، والتصدي لزحف الصحراء، وادارة المناطق الساحلية المتدهورة الممتدة على طول العالم العربي، والبحث عن مصادر بديلة متجددة للطاقة.
الاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجيا استثمار وطني بعيد المدى، وليس مشروعاً عقارياً أو مضاربة في البورصة أو ورقة يانصيب. إنه ضرورة وليس خياراً. والمؤسف أن بعض الجهات العربية القادرة مادياً ما زالت تعامل دراسات الجدوى الخاصة بتطوير التكنولوجيا وكأنها مشاريع للسياحة والتجارة أو التطوير العقاري، من دون تقدير فوائدها في بناء القدرات العلمية للشعوب العربية. فلكي نصبح شركاء في التكنولوجيا، علينا أن ندفع الثمن. ومهما كان الاستثمار في البحث العلمي كبيراً، يبقى مردوده الاجتماعي والاقتصادي في المدى الطويل أضعاف مردود الاستثمارات الاستهلاكية، لأن امتلاك المعرفة هو الضمان الوحيد للاستدامة.
إذا كان الجهل والتخلف العلمي سياجاً يحمي بعض الأنظمة وشركاءها من مروّجي السلع الاستهلاكية، سلاحاً وغذاءً وكماليات، فدخول عصر العلم والتكنولوجيا من الباب الواسع هو الضمان الوحيد لادارة متوازنة للثروات وتحقيق التنمية الانسانية الحقيقية للأجيال المقبلة. البحث العلمي، كما الثقافة والفن، تجعل بلداننا أوطاناً تستحق أن ندافع عنها. وكل ما عدا هذا ضرب من السراب وقبض الريح.
|