"الأخطار الكبرى التي تهدد صحة الأطفال تكمن في الأماكن التي يجب أن تكون الأكثر أماناً، وهي المنزل والمدرسة والمجتمع، حيث يعيشون ويتعلمون ويلعبون. "هذا التحذير أطلقته في 7 نيسان (أبريل) الماضي غرو هارلم برونتلاند، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية، لمناسبة يوم الصحة العالمي الذي خصص هذه السنة لضمان بيئة صحية للأطفال.
التلوث الكيميائي أحد هذه "الأخطار الكبرى". فخلال الخمسين سنة الماضية تم تصنيع أكثر من 75,000 مادة كيميائية أدخلت الى بيئتنا، الى هوائنا ومائنا وطعامنا وأدواتنا وكل ما نتداوله يومياً من أشياء. ولكثير منها آثار خطيرة على صحتنا الجسدية والذهنية والنفسية. وليس أدلّ على ذلك من الازدياد المريع في حالات الاصابة بأمراض التنفس والحساسية والسرطان والتشوهات الخلقية.
لكن الأطفال هم الأكثر تأثراً، لثلاثة أسباب رئيسية. أولاً، لعدم اكتمال أجهزتهم الحيوية، فهم يمرون في عدة مراحل من النمو السريع، والتعرض للمواد السامة قد يؤثر في نمو الجنين أو الرضيع أو الطفل ويسبب اختلالات عصبية أو هورمونية أو مناعية أو خلقية. ثانياً، الأطفال يأكلون ويشربون ويتنفسون أكثر من البالغين، قياساً على حجم أجسادهم، ولذلك فهم يتلقون جرعات أكبر من الملوثات لكل كيلوغرام من وزنهم. ثالثاً، الأطفال هم الأقل قدرة على حماية أنفسهم، وفضولهم الطبيعي يعرضهم لمخاطر يتجنبها البالغون. فعندما يدبّ الطفل على الأرض أو يلعب خارجاً، فانه يتعرض أكثر للغبار والتراب الملوثين، وللمواد الكيميائية في البيت والحديقة، وغير ذلك.
في العدد الماضي من "البيئة والتنمية" آذار (مارس) 2003 تناولنا الأمراض التي ازدادت الاصابات بها نتيجة التلوث الكيميائي. وفي ما يأتي تدابير وقائية ينصح بها الأهل لحماية أطفالهم من هذه الأمراض.
قبل الحمل
يمكنك أن توفري بيئة صحية لنمو طفلك حتى قبل أن يولد. على سبيل المثال، تناول حمض الفوليك قبل الحمل يمكن أن يمنع اختلالات الأنبوب العصبي التي تصيب الأجنة خلال الأسابيع القليلة الأولى من الحمل، وتظهر في الأطفال لاحقاً بشكل تشوهات وتخلفات ذهنية أو عصبية. وتنصح النساء اللواتي في سن الحمل بإجراء فحص دم بسيط للتأكد من أن غدتهم الدرقية (thyroid) تعمل على نحو صحيح. فذكاء الطفل لاحقاً يعتمد على مستويات الهورمون الدرقي التي تصل الى دماغه خلال فترات النمو الحاسمة حين يكون جنيناً. وقد أظهرت إحدى دراسات طب الأطفال أن انخفاض الهورمون الدرقي لدى أطفال ولدوا قبل الأوان أو كان وزنهم أقل من المعتاد استتبع لاحقاً ازدياد الحاجة الى دروس خصوصية مع بلوغ التاسعة من العمر.
وتخفيض كمية الأطعمة الدهنية التي تؤكل قبل الحمل رهان جيد أيضاً. فهو يقلل من التعرض لمواد كيميائية دائمة الأثر، مثل ثنائيات الفينيل المتعددة الكلور والديوكسين. الأميركيون، مثلاً، يحملون حالياً في أجسامهم مستويات من الديوكسين تزيد مئات الأضعاف عن الحد "المقبول" لخطر الإصابة بالسرطان، الذي حددته وكالة حماية البيئة، و95 في المئة من تلك المستويات هي نتيجة تناول اللحوم الحمراء والأسماك ومنتجات الحليب. وتحذر الوكالة من أن 1,6 مليون امرأة وطفل في الولايات المتحدة هم في خطر التسمم بالزئبق، فضلاً عن أي شخص يستهلك أكثر من 14 كيلوغراً من الأسماك في السنة، وذلك نتيجة تلوث الأنهار والبحيرات والمياه الساحلية بالزئبق الذي تحويه مياه الصرف الصناعي. والحقيقة ان امرأة من كل عشر نساء أميركيات هي في خطر ولادة أطفال يعانون من مشاكل عصبية نتيجة تعرضهم للزئبق في الرحم. وتنصح النساء الحوامل باجتناب بعض أنواع السمك التي تقتات بأسماك أخرى وقد تحمل مستويات عالية متراكمة من التلوث الزئبقي.
الغذاء الصحي
نواقص الغذاء تساهم في تفاقم التلوث الكيميائي لدى الأطفال. فنقص الكالسيوم، مثلاً، يشجع على تراكم الرصاص في القناة الهضمية والعظام والدماغ والكليتين، مما قد يؤدي الى تسمم رصاصي. معظم الأطفال الذي تراوح أعمارهم بين أربع وثماني سنوات يستهلكون كمية غير كافية من الكالسيوم. وعندما يتعرضون للرصاص في البيئة، فقد يعانون من فقر الدم، وانخفاض حاصل الذكاء (IQ)، وصعوبات في التعلم، إضافة الى سلوك عدواني وغير اجتماعي ونزعة الى العنف.
حتى الأطعمة المغذية يمكن أن تحمل أخطاراً. فهناك بقايا مبيدات في معظم الفواكه والخضار التي تباع في الأسواق. هذا لا يعني أن الأهل يجب أن يطعموا أطفالهم كميات أقل من الفواكه والخضار، وإنما يجب أن يتسوقوا بحكمة. ثمار الفريز (الفراولة) مثلاً، تتلقى كمية كبيرة من المبيدات التي تبقى آثارها عالقة عليها مهما غسلت. وينصح بشراء الفواكه والخضر "البلدية" المزروعة بطريقة عضوية، أن من دون استخدام المبيدات والأسمدة الكيميائية، وفي كل الأحوال، يجب غسل الفواكه والخضر جيداً.
وعلى الأم تنويع أطعمة أطفالها، وإطعامهم في فترات منتظمة، مما يعطي أجهزة المناعة الوقت للحاق بعملية الأكل. من الطرق الأكثر فعالية لتحقيق الغذاء الصحي البعيد عن الملوثات الكيميائية تعليم الأطفال العلاقات بين طعامهم والبيئة. الكبار كوّنوا عادات يصعب التخلي عنها، لكن الطفال يمكن قولبة سلوكهم وتعديله. وإذا أدخلت الأفكار الصحيحة في عقولهم، فسوف ترسخ هناك طوال حياتهم.
منزل صحي
علاوة على تناول أطعمة أفضل، يمكنك الحرص على منزل صحي تقل فيه السموم والملوثات المثيرة للحساسية. المبيدات موجودة في معظم المنازل، وغالباً في متناول الأطفال. إن تفريغ الخزائن من هذه المواد الخطرة بداية جيدة. الوقاية طريقة مضمونة للتخلص من معظم الحشرات، اذ يمكن استبعاد الأشياء التي تجتذبها، مثل الرطوبة تحت المغاسل وبقايا الطعام على الرفوف والأرضيات. ويمكن استخدام إجراءات أقل سمية لمواجهة غزو الحشرات والطفيليات داخل المنزل وفي الحديقة وعلى الشرفة حيث يتدحرج الأطفال عادة ويلعبون. من أصل 43 مادة كيميائية هي الأكثر استعمالاً لرش العشب والمزروعات المنزلية، هناك 11 مادة تسبب السرطان، و20 مادة تسمم الجهاز العصبي، و9 مواد تحدث عيوباً خلقية، و30 مادة تهيج الجلد. وتوجد مواد بديلة أكثر أماناً، كما يمكن زراعة أعشاب محلية هي أكثر قدرة على مقاومة الآفات.
وحين يعانق الأطفال حيواناً منزلياً مدللاً بأيديهم الصغيرة، يعرضون أنفسهم لتهديد صحي خطير. فمعظم مستلزمات الحيوانات المدللة تحتوي على مبيدات. وتفيد الأبحاث أن الطفل يمكن أن يتجاوز مستوى التعرض المأمون بمقدار 500 مرة يوم رش الحيوان بمبيدات البراغيث. ويقترح الاختصاصيون إجراءات يدوية بسيطة، مثل غسل الحيوانات الأليفة بشكل منتظم، وجز الأعشاب في الأماكن التي تتردد عليها.
من جهة أخرى، حين يعود طفل من المدرسة وقد أصيب بصداع أو التهاب في الحلق، ربما يكون ذلك نتيجة إصابته بجرثومة طفولة عادية. ولكن يمكن أن يدل أيضاً على وجود مشكلة أكبر. ملايين التلاميذ يعالجون سنوياً من التسمم بمبيدات يتعرضون لها في المدارس. ومعظم الأهل لا يملكون أي فكرة حول رش المبيدات في مدارس أطفالهم. ولكن بالحوار بين لجان الأهل ومسؤولي المدارس، يمكن توجيه إشعار مسبق باستعمال المبيدات، أو الحد من استعمال المبيدات الشديدة السمّية.
مستويات الرصاص تواصل الانخفاض في البيئة وداخل الجسم، لكنها تبقى شديدة الخطر على الأطفال الذين يتعرضون لمستويات عالية من الرصاص. فماء الشرب يواصل نقل الرصاص من التمديدات القديمة. وفي ملايين المنازل، ما زال الطلاء المحتوي على رصاص يغطي الجدران الداخلية، وتدخل جزيئات الرصاص الرئتين مع تنشق غبار الطلاء المتقشر.
للحد من الأخطار، فتش منزلك لرصد الطلاء المتقشر. ويفضل عزل الطلاء القديم بطبقة جديدة من الطلاء الخالي من الرصاص. وينصح بمسح الطاولات والأرضيات بانتظام، وتنظيف أيدي الأطفال وألعابهم. وما زال الرصاص يستخدم في بعض المنتجات الاستهلاكية مثل مكمّلات الكالسيوم ومضادات الحموضة وأصباغ الشعر. لذلك ينبغي دائماً التأكد من المعلومات الواردة على ملصقات المنتجات. ورغم استبعاد الرصاص تدريجياً من البنزين، ما زال متراكماً في التربة، وخصوصاً في المناطق المدينية المكتظة بحركة السير.
خطوات أخرى
- استبدل ميزان الحرارة القديم بنوع جديد خال من الزئبق. فالزئبق المتسرب من ميازين الحرارة المكسوة يمكن أن يدخل شبكة المياه من خلال مجاري التصريف أو يتطاير في الهواء داخل المنزل.
- ما زالت منتجات كثيرة تحتوي على مستويات عالية من مادة الفتاليت (phthalate) التي تضاف إلى بلاستيك الـPVC لتليينه. لذلك فان اقتناء دمى وعضاضات غير مصنوعة من بلاستيك PVC، قماشية أو خشبية، يساعد على اجتناب التعرض المباشر لهذه المادة الكيميائية التي يحتمل أن تسبب السرطان والفشل الكبدي والكلوي.
- أظهرت دراسات أن البلاستيك الشفاف، بما في ذلك قوارير رضّاعات الأطفال، يمكن أن ترشح منها مادة شبيهة بالاستروجين إلى السوائل الساخنة. اختاري رضّاعات زجاجية أو غير شفافة، واستبدلي فوراً القوارير المخدشة.
- اعمل على فحص مياه الشفة في المنزل وتصفيتها. فقد تبين أن مياه الحنفية (الصنبور) في مناطق كثيرة تحتوي على زرنيخ ورصاص ومبيدات وسموم أخرى. والأطفال يستهلكون الماء مرتين ونصف مرة أكثر من البالغين، كنسبة مئوية من وزن الجسم. وقد تبين أن ازدياد خطر الإصابة بعيوب خلقية له علاقة قوية بمياه الحنفية الملوثة.
- نحو 85 في المئة من المصابين بالربو لديهم أيضاً حساسية، وضبط البيئة المنزلية يساعد في الحد من الإصابة. بالنسبة إلى مرض الربو، ينصح بعدم ارتياد الشوارع المزدحمة العابقة بدخان السيارات، وخصوصاً في الأيام الرطبة.
- التدخين السلبي، أي استنشاق دخان سجائر الآخرين، يعرض الأطفال لنحو 4000 مادة كيميائية يعرف أن أكثر من 40 منها تسبب السرطان. وهو مسؤول عن ملايين حالات الالتهاب في مجرى التنفس السفلي. وهو يزيد نوبات الربو والموت الفجائي لدى الأطفال.
- البركلورواثيلين (PCE) مذيب يستعمل في التنظيف الجاف للملابس، وهو سم عصبي له علاقة أيضاً بسرطان الكبد والمثانة. ويتركز بمقدار ثلاثة أضعاف في حليب الأم، ويمكن أن يؤدي إلى إصابة الأطفال باليرقان (الصفيرة). أما التنظيف الرطب، الأسلم بيئياً، فلا يتسبب بإطلاق القماش غازات كيميائية أو بتصريف مادة البركلورواثيلين في المياه الجوفية.
- عند اختيار الخشب لرصف الملاعب والأرضيات، اجتنب الخشب المضغوط المعالج بمركز الزرنيخ والنحاس والكروم (CCA)، اذ يمكن ان ترشح كميات غير مأمونة من الزرنيخ إلى خارج الخشب، ومنه إلى أيدي الأطفال أو إلى التربة.
كارد
الأمراض البيئية تقتل 5 ملايين طفل سنوياً
نيودلهي: «البيئة والتنمية»
أكثر من خمسة ملايين طفل يموتون كل سنة نتيجة أمراض وحوادث لها علاقة بالبيئة التي يعيشون فيها. فحوالى ثلث مجمل الأمراض في العالم تسببه عوامل بيئية. والأطفال تحت سن الخامسة، الذين يشكلون 10 في المئة فقط من عدد سكان العالم، يتحملون حالياً 40 في المئة من عبء الأمراض.
في يوم الصحة العالمي، الذي احتفل به في العاصمة الهندية نيودلهي في 7 نيسان (أبريل) الماضي تحت شعار «بيئة صحية للأطفال»، دعت منظمة الصحة العالمية الى اتخاذ اجراءات أكثر فاعلية للحد من الأخطار البيئية على حياة الأطفال. وقالت المديرة العامة للمنظمة غرو هارلم برونتلاند: «هذه الوفيات يمكن منعها. نحن نعرف ما يجب أن نفعل، وقد طورنا استراتيجيات لمكافحة الأخطار التي تهدد صحة الأطفال. لكن يجب أن نعمل أكثر لتطبيقها على نطاق واسع عالمياً ووطنياً ومحلياً».
يموت كل سنة حوالى مليوني طفل تحت سن الخامسة نتيجة التهابات تنفسية حادة، هي أول قاتل رئيسي للأطفال الصغار. انبعاثات الوقود ودخان السجائر داخل المنزل، ومنفوثات السيارات والمصانع في الخارج، هي السبب الرئيسي للأمراض التنفسية. وتتفاقم الالتهابات بفعل تلوث الهواء داخل المنزل، الناجم بشكل خاص عن الطبخ والتدفئة باستعمال أنواع رديئة من الوقود.
الاسهال هو ثاني أكبر قاتل للأطفال، ومسؤول عن وفاة 1,3 مليون طفل كل سنة. وله علاقة مباشرة بتلوث المياه وغياب أو عدم كفاءة المرافق الصحية. وكثيراً ما تسببه كائنات ممرضة أو سموم تنتقل الى الطفل من أيد ملوثة أو من تناول ماء أو طعام ملوث.
الملاريا، التي ينقلها البعوض الذي يتكاثر في المياه الآسنة، تقتل حوالى مليون طفل كل سنة، معظمهم مقيمون جنوب الصحراء الافريقية الكبرى.
ويموت كل سنة حوالى 50 ألف طفل نتيجة حالات تسمم عرضية، خصوصاً بغاز أول أوكسيد الكربون الذي ينبعث من المواقد، والمبيدات، والمنظفات المنزلية، وتناول العقاقير الموضوعة في متناولهم.
وحذرت منظمة الصحة العالمية من الأخطار الكيميائية التي تتهدد الأطفال، ولاسيما من الصناعات غير المنضبطة، والمكبات العشوائية للنفايات السامة، ومنفوثات السيارات في الاماكن المزدحمة. والتعرض المزمن لبعض المواد الكيميائية يلحق أضراراً بالجهاز العصبي للطفل ونموه ووظائف أعضائه. ونبهت الى ضرورة التأكد من سلامة تخزين وتوضيب واستعمال المنظفات والوقود والمذيبات والمبيدات والمواد الكيميائية الأخرى في البيت والمدرسة، ووضع ملصقات واضحة عليها.