في الزاوية الشمالية الشرقية النائية من ولاية ألاسكا الاميركية تقبع محمية الحياة الفطرية القطبية. هناك تلوذ عشرات آلاف الأنواع من الكائنات الحية التي يتوقف وجودها على تلك الطبيعة العذراء. وتشكل المحمية، التي تبلغ مساحتها 19,6 مليون فدان (78,400 كيلومتر مربع)، امتداداً شاسعاً من السهول العشبية ترصعه المستنقعات والبحيرات الضحلة، وتزينه الانهار المندفعة بين سفوح جبال بروكس والمياه الجليدية لبحر بوفورت. هذا الملاذ الفطري تهدده صناعة النفط التي لا تعبأ بجماله وانما بموارده المدرة للأرباح.
عيون شركات النفط على القلب البيولوجي لهذا الموئل، أي سهله الساحلي على المحيط المتجمد الشمالي. ففيه يجد 160 نوعاً من الطيور أماكن للتزاوج والتعشيش والاستراحة، وهو مبيت للدببة القطبية، ومكان التوالد الرئيسي لقطيع يضم 130 ألفاً من أيائل الرنة المهاجرة التي تقطع حوالى 400 كيلومتر كل سنة آتية من البراري الكندية لتضع صغارها. وهذه الأيائل مصدر رئيسي للطعام والملبس والدواء لهنود الغويتشن، وهم من الشعوب القليلة الباقية في العالم التي تعتمد على الموارد الفطرية. وتعيش في المنطقة أيضاً الدببة الرمادية وأيائل المسك والذئاب والثعالب القطبية والحيتان وغيرها.
القانون الأميركي الذي صدر عام 1980 وأوجد المحمية منع أيضاً التنقيب عن النفط والغاز في رقعة مساحتها 1,5 مليون فدان (6000 كيلومتر مربع) من السهل الساحلي، ما لم يسمح به الكونغرس. وقد فتح أكثر من 90 في المئة من الاراضي الساحلية غرب المحمية للتنقيب، مع ما استتبعه ذلك من آثار سلبية مؤكدة على الحياة البرية وموائلها.
وعلى رغم ادعاءات شركات النفط الكبرى أنها تستطيع الحفر "بمسؤولية" على المنحدر الشمالي في ألاسكا، أصبحت التسربات النفطية أمراً مألوفاً. ففي حقل خليج برودهو النفطي، على بعد 100 كيلومتر غرب المحمية، تسجل يومياً تسربات منتجات نفطية ومواد خطرة، مقرونة بالضوضاء والملوثات الهوائية الناتجة عن عمليات التصنيع. وبعد مباشرة أعمال الحفر في المنطقة بقليل، نقل قطيع أيائل الرنَّة مراكز توالده مبتعداً عن المنشآت، واستقر به المقام في موائل أقل جودة.
وتحدث تلوثات نفطية تكراراً بفعل تسربات من خط أنابيب "ترانس ألاسكا"، وأثناء ضخ النفط الى الناقلات، ونتيجة حوادث الناقلات. وما زالت ماثلة آثار التلوث العظيم الذي حصل عام 1989، عندما تسرب 257 ألف برميل من النفط الخام من الناقلة "اكسون فالديز" في مضيق الأمير وليم. وقد تسبب هذا التسرب في نفوق ملايين الأسماك وأكثر من 250 ألف طائر بحري و2800 قضاعة و300 فقمة و250 نسراً أصلع نادراً ونحو 25 حوتاً، وما زال يؤثر على الكائنات الفطرية حتى اليوم. ويخشى البيولوجيون أيضاً من التأثيرات البيئية البعيدة الأمد لملايين البراميل من النفايات الناتجة عن عمليات النفط والغاز، التي يتم التخلص منها في حفريات مكشوفة، أو تحقن تحت الأرض، أو تجمَّد في التربة الجليدية، أو تصرف مباشرة في الهواء والماء.
ويدعو تحالف لجماعات بيئية وأهلية في ألاسكا الى حماية تامة لـ"البقع الساخنة" في موائل الحياة البرية، تسمح بالتنقيب عن النفط والغاز في حوالى 65 في المئة من الاراضي التي يرجح أنها تحتوي على النفط، وتمنع العمليات والانشاءات في الـ35 في المئة الباقية التي تقطنها أكبر حشود الحياة البرية. وتشمل المناطق التي يطالب التحالف بحظرها على التنقيب موقعاً لمبيت الدببة القطبية، وحوضاً بحرياً تقطنه الفقم المنقطة وحيتان البيلوغا، ومنطقة نهرية تعشش فيها الصقور الجوالة.
الحفر في المحمية يمكن أن يحمل الكوارث للحياة الفطرية، خصوصاً لأن المنطقة المطلوب استغلالها تضم موائل مهمة وحساسة جداً. ويتوقع البيولوجيون أن يهبط معدل ولادة أيائل الرنة 40 في المئة اذا سمح بأعمال الحفر، وأن يزعج التنقيب الاهتزازي الدببة القطبية ويحملها على هجرة جرائها فتموت. وحتى التسربات الصغيرة ستكون كارثية على الفقم والثدييات البحرية الأخرى التي تعيش عند الخط الساحلي للمحمية، لأن النفط والمواد الكيميائية المتسربة تميل الى التجمع داخل جيوب هوائية تستخدمها هذه الحيوانات. وستكون للمضايقات تأثيرات كبيرة على الاوز الثلجي والبجع البوقي والخرشنة القطبية والطيور المهاجرة الأخرى التي تزور المحمية لتتغذى وتتوالد.
واذا بدأت أعمال التنقيب عن النفط، فلن يحصل أحد على نقطة منه قبل مضي 10 سنوات على الأقل، والامدادات الاضافية لن تخفض سعر النفط في الولايات المتحدة. فتطوير مشروع لانتاج النفط يستغرق وقتاً طويلاً، ويكلف كثيراً، ولا يكون مجدياً اقتصادياً الا اذا كانت أسعار النفط عالية. والبلدان الاعضاء في منظمة "أوبك" تتحكم بأسعار النفط، ولا بد من أن تسارع الى خفض الامدادات العالمية لمعادلة أي تدفق لنفط ألاسكا. وليست هناك ضمانة بأن النفط المستخرج من المحمية سيصل حتى الى المستهلكين الأميركيين، لأن ممثلي ألاسكا في الكونغرس يضغطون بقوة من أجل معاودة بيع نفط ألاسكا الى الصين وكوريا واليابان وبلدان أخرى، بعد وقفه خلال عمليات الدمج الأخيرة بين شركات النفط.
رغم الحقائق البيئية والاقتصادية، ينوي الرئيس الاميركي جورج بوش وحلفاؤه في شركات النفط الكبرى فتح السهل الساحلي للاستثمار النفطي. فالقانون الذي أوجد المحمية ترك للكونغرس صلاحية فتحها للتنقيب. ومساهمات شركات النفط الكبرى في الحملات السياسية والانتخابية أكسبتها حلفاء في البيت الأبيض والبرلمان. وقد جعل بوش فتح المحمية حجر الزاوية في سياسته الطاقوية، واختار وزيرين للطاقة والداخلية يشاركانه رغبته في التنقيب.
الخطر الذي يهدد هذه المحمية، آخر نظام ايكولوجي قطبي غير مشوه في الولايات المتحدة، لم يكن يوماً أكبر مما هو الآن.
كادر
تسربات نفطية من "الأربع القذرة"
95 في المئة من الاراضي في ألاسكا مفتوحة حالياً للاستغلال. وتضغط شركات النفط والغاز منذ سنوات من أجل السماح لها بالتنقيب في المحمية القطبية في شمال تلك الولاية الأميركية. وعلى رغم المعارضة الشرسة من المنظمات البيئية، يبقى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش حامل لواء دعاة التنقيب في هذه المنطقة العذراء الفريدة في تنوعها البيولوجي، حتى انه اعتمد بشكل كبير في حملاته الانتخابية على تبرعات من شركات النفط الكبرى.
رئيس "بريتش بتروليوم أموكو" جون براون أعلن عام 2000 أن شركته "مهتمة بالتنقيب في محمية الحياة الفطرية في ألاسكا اذا فاز بوش بالبيت الأبيض". كذلك تتلهف "اكسون موبيل" و"شيفرون" و"فيليبس بتروليوم" لوضع أيديها على السهل الساحلي للمحمية.
لكن هذه الشركات "الأربع القذرة"، كما يدعوها أنصار البيئة، لها سجل حافل بحوادث التسرب والتلوث وتدمير الموائل، التي تراوح من أكبر كارثة بيئية في تاريخ الولايات المتحدة، عندما تسرب 257 ألف برميل نفط من الناقلة "اكسون فالديز"، الى تسربات "صغيرة" تحصل في ألاسكا ربما كل يوم. وقد حكم على هذه الشركات، بدفع ما مجموعه نحو بليون دولار غرامات وتسويات وتعويضات.
كادر
هل تغني المحمية عن نفط الخليج العربي؟
يدعي أنصار التنقيب في المحمية القطبية في ألاسكا أن النفط المستخرج منها ضروري للتقليل من اتكال الولايات المتحدة على الشرق الأوسط ولتعزيز امنها القومي.
ويردّ معارضو التنقيب بأن بلدان الخليج العربي أمَّنت في العام الماضي 13 في المئة فقط من النفط الذي استهلكته الولايات المتحدة، علماً أنها تستورد النفط من 60 بلداً، بينها كندا والمكسيك وبريطانيا. وينبهون الى أن الأميركيين لا يعتمدون على نفط العراق وانما يشترونه بموجب برنامج الأمم المتحدة الانساني "النفط مقابل الغذاء" الذي تم تمديده في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي ستة أشهر أخرى. ويذكرون بأن صدام حسين أعلن في 7 نيسان (ابريل) 2002 أنه سيوقف صادرات النفط مدة ثلاثين يوماً احتجاجاً على الصراع في الشرق الأوسط، وبعد قفزة أولية انخفضت أسعار النفط فعلياً.
وتقدر مؤسسة المسح الجيولوجي الأميركية أن الكمية التي يتوقع أن تستخرج من المحمية القطبية لن تزيد على 0,3 في المئة من الاحتياطات العالمية. لذلك يرى المعارضون أنها لن تكون فعالة في تأمين الاستقلال الطاقوي للبلاد. ويستشهدون أيضاً بتقارير وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA) التي تفيد أن رفع كفاءة استهلاك الوقود في السيارات الجديدة بمقدار خمسة كيلومترات فقط بالغالون من شأنه أن يوفر أكثر من مليون برميل نفط يومياً. وهذا يعادل خمسة أضعاف كمية النفط التي يتوقع أن تنتجها المحمية القطبية. ويستنتجون: "اذا تمكنت السيارة العادية من قطع مسافة 50 كيلومتراً بالغالون، نكون قد وفرنا كمية تعادل تلك التي نستوردها من الخليج العربي".