يوم بدأت الحرب على العراق، انطلقت أصوات تحذير من زاوية قصيَّة في العالم تنبه إلى قضية أخرى تهدد بصراعات في المستقبل القريب. فقد أعلن مشاركون في المنتدى العالمي الثالث للمياه، الذي عقد في اليابان بين 16 و23 آذار (مارس)، أن المياه سلعة أهم بكثير من النفط الذي يرى البعض أنه سبب الحرب الأميركية في العراق، وأنها لا تقل خطورة عنه كمصدر للصراع.
قال الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف أمام المشاركين في المنتدى، وهو يرأس حالياً منظمة "الصليب الأخضر" غير الحكومية: "ان الماء حق بشري. الماء هو الحياة. والناس على استعداد أحياناً ليفعلوا أي شيء للحصول على الماء. وقد تكون لذلك عواقب وخيمة". وأشار إلى "قلق خاص يحيط بنهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا ويجريان عبر سورية قبل أن يمدا العراق بالمياه، فضلاً عن التوتر الدائم بين إسرائيل وجيرانها".
وخيمت أجواء حرب العراق على جلسات المؤتمر، الذي عقد في ثلاث مدن يابانية متجاورة هي كيوتو وشيغا وأوساكا، وحضره أكثر من 12 ألف موفد من 165 دولة و43 منظمة دولية. وقال محمد اليازغي، وزير البنى التحتية والمياه والبيئة في المغرب، ان السلام ضروري لتسوية قضايا المياه، "ونحن في العالم العربي نحتاج إلى سلام لكي نتمكن من إدارة مواردنا المائية". وقد استهجن بعض المتحدثين تخصيص الولايات المتحدة نحو مئة بليون دولار اضافية للحرب على العراق، كان يمكن استعمالها لحل مشكلة المياه.
وفي رسالة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى المنتدى، الذي كان سيشارك فيه لولا الحرب على العراق، قال ان حق الحصول على المياه يجب ان "يعتبر بمثابة حق أساسي"، وينبغي تعزيز "الشراكة بين الصناعة والمستثمرين". وأكد أن المياه ستكون فصلاً أساسياً في قمة مجموعة الثماني التي ستعقد برئاسة فرنسا في حزيران يونيو المقبل في إفيان.
وقال جان ميشال كوستو، ابن عالم البحار الشهير الراحل جاك كوستو: "لا يجوز النظر إلى الماء على أنه ذهب أو نفط المستقبل. هناك بدائل للنفط، ولكن لا توجد بدائل للماء".
وناشد رئيس المجلس العالمي للمياه وزير الري المصري محمود أبو زيد المشاركين الاستجابة لتطلعات أولئك الذين هم في حاجة إلى المساعدة. وقال ان "العالم يركز انتباهه وأنظاره علينا" واصفاً مشاكل المياه بأنها "أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين".
السدود والخصخصة
وكانت السدود الضخمة وخصخصة المياه مسألتين ساخنتين ومدار خلاف بين المؤتمرين. فقد ورد في تقرير للجنة العالمية للسدود أن نحو 80 مليون شخص في أنحاء العالم شردوا بسبب السدود، التي أحدثت ضرراً بالغاً على الأنظمة البيئية والكائنات الحية في الأنهار. ودعا مناصرو بناء السدود إلى قيام مشاريع كبيرة في البلدان النامية توفر مصدراً ضخماً للطاقة. أما المعارضون فقالوا ان تكاليف السدود الكبيرة وانعكاساتها على المجتمعات الأصلية التي تغرق بيوتها ومصادر رزقها تفوق الفوائد. ومثال على ذلك سد بروكوبوندو في اندونيسيا الذي أجبر خمسة آلاف شخص على الرحيل والتوطن في منطقة أخرى، ولا ينتج سوى 30 ميغاواط من الطاقة.
وتتخذ خصخصة المياه واستغلالها تجارياً عدة أشكال. ويدعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مساعي شركات متعددة الجنسيات لتأسيس "اتحاد" لاحتكار الإمدادات المائية وشبكات مياه الصرف في العالم. وهي تقتحم أسواقاً جديدة في العالم الثالث، حيث تجبر حكومات ترهقها الديون على التخلي عن الخدمات المائية العامة وتسليمها الى شركات تتوخى الربح. وهناك القليل من الشفافية في تعاملاتها. وكثيراً ما أجبرت أسعارها المرتفعة الفقراء على استعمال مياه ملوثة بالكوليرا وأمراض أخرى. من جهة أخرى، تتنامى صناعة المياه المعبأة بنسبة 20 في المئة سنوياً. وفي العام 2002، بيع حوالى 100 بليون ليتر من المياه المعبأة حول العالم، معظمها في قوارير بلاستيكية لا ترد. وتنهمك شركات كبرى حالياً في إنشاء خطوط أنابيب ضخمة لنقل الماء العذب مسافات طويلة بغرض بيعه، فيما تبني أخرى ناقلات عملاقة لنقل المياه عبر المحيطات. وقد جاء في تقرير للبنك الدولي أن "الماء سوف ينقل قريباً حول العالم كما ينقل النفط حالياً"، في أنابيب عابرة للحدود وناقلات عملاقة.
واعتبر المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي ميشال كامدوسو، الذي يرأس هيئة تضم 20 مصرفياً وممثلاً لشركات وهيئات دولية، أن "اللامركزية هي المفتاح، وتمويل المشاريع يجب ان يتم على المستوى المحلي"، ملخصاً تقريراً للهيئة سيعرض على قمة "مجموعة الثماني". لكن المنظمات غير الحكومية رأت أن التقرير يأتي في مصلحة القطاع الخاص.
مستشار زواج!
أعلنت منظمة الاونيسكو إنشاء جهاز دولي للتحكيم في النزاعات التي يمكن أن تنشأ عن إدارة الأحواض المائية المشتركة. وقال أندراس سولوزي ناجي، مدير برنامج المياه الدولي في الاونيسكو، ان الجهاز "سيضطلع بدور مستشار زواج... فيسهل المحادثات لكي يطّلع الأطراف المعنيون على حاجات الآخرين ويتجنبوا إقامة دعوى طلاق أمام محكمة". وسيقام جهاز الوساطة في المقر العام للمنظمة في باريس بالتعاون مع المجلس العالمي للمياه والمحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي وعشر جامعات من دول مختلفة.
وقدم مدير برنامج المياه في الاونيسكو غوردون يانغ أن العالم قادر على حل أزمة المياه التي تؤدي إلى وفاة 2.2 مليون شخص سنوياً بسبب نقص المياه الصالحة للشرب والمجاري الصحية، لكنه يحتاج إلى "قرار سياسي" لذلك. وقدم تقريراً من 700 صفحة يعرض عمل مختلف هيئات الأمم المتحدة مستنتجاً: "إذا خصصنا فقط ما بين 50 و100 بليون دولار في السنة لمشكلات المياه، سنتمكن من حل معظم المشكلات العالمية". وأقر بأن هذه المبالغ قد تبدو ضخمة، ولكن "هناك 30 بليون دولار يتم إنفاقها كل عام على نشاطات مثل لعبة الغولف التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، كما ننفق 12 بليون دولار في السنة لإطعام قططنا وكلابنا، والحكومات تخصص أموالاً طائلة لشراء الأسلحة".
وأحصى التقرير 507 مواقف خلافية حول المياه سجلت حتى الآن بين الدول، قادت 37 منها فقط إلى استعمال القوة، ونتج عنها 21 تحركاً عسكرياً (يتعلق 18 منها بإسرائيل). أما البلدان الأكثر افتقاراً للمياه العذبة الطبيعية (غير المحلاة) فهي: الكويت (10 أمتار مكعبة للفرد في السنة)، قطـاع غـزة (52 متراً مكعباً)، الإمارات العربية المتحدة (58)، جـزر الباهاما (66)، قطـر (94)، جزر المالديف (103)، ليبيـا (113)، مالطـا (129)، سنغافورة (149 متراً مكعباً). ووفقاً للفرضيات المتشائمة، فبحلول سنة 2050 سيواجه 7 بلايين نسمة في 60 بلداً مشكلة مائية. وسيتسبب التغيير المناخي بنسبة 20 في المئة من ازدياد الشح عبر العالم.
وخلال اجتماع وزاري عقد في ختام المنتدى، أصدر 101 وزير من 96 دولة اعلاناً تم التصديق عليه بالاجماع، يدعو المجموعة الدولية لتعبئة كل الطاقات المالية والبشرية للتغلب على "أزمة المياه العالمية" التي تحرم أكثر من بليون فرد مياه الشفة. وذكروا بأن العالم تعهد في قمتين (عام 2000 في نيويورك وعام 2002 في جوهانسبورغ) خفض هذا العدد إلى النصف بحلول سنة 2015، وكذلك عدد الأشخاص الذين يعيشون دون مرافق صحية ويقدر عددهم بأكثر من بليونين. وقال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في رسالة تلاها ممثل له إلى البدء بتنفيذ الوعود خلال 2003 التي أعلنت "سنة المياه العالمية".
لكن الاعلان واجه انتقادات كثيرة، ووصف بأنه لين جداً، ويخلو من الاشارة الى مسائل مثيرة للجدل مثل بناء سدود كبيرة، ولم يقدم خطوات ملموسة لانهاء أزمات المياه والمرافق الصحية في العالم.