رحل الامبراطور الياباني هيروهيتو عن دنيانا عام 1989، وانقضت بوفاته ستون سنة حظيت خلالها الدراسات البيولوجية البحرية برعايته. فقد كان مولعاً بدراسة أحياء البحر، ومهتماً على وجه الخصوص بمجموعة من الكائنات الدقيقة التي يكاد لا يلتفت إليها أحد، لأنها من وجهة النظر الاقتصادية "عديمة القيمة".
ولد هيروهيتو عام 1901. وكانت اليابان وقتئذ تشهد انتعاشاً للبحث العلمي في مجال المسامك ودراسة الأحياء البحرية. ولكن قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة فقط، لم يكن هناك اهتمام بعلوم البحار، بل لم تكن ثمة مؤشرات على الاهتمام بالعلم عامةً. فقد تقلَّصت قوة الامبراطور منذ القرن الثاني عشر، وأصبح الحكّام الحقيقيون سلسلة من الاقطاعيين يدعون "الشوجان" توزَّعت بينهم السلطة المطلقة واتسم عصرهم بالانعزالية. وكانت كل صلة اليابان بالعالم الخارجي تتمثل في علاقات تبادل تجاري محدود مع بعض التجار والمغامرين البرتغاليين والإسبان. وفي 1639، قُطعت هذه الصلة الضئيلة بقرار من الشوجان الحاكم، فأُحكمت أسوار العزلة، وأصبحت اليابان بالنسبة الى العالم الخارجي، ولمدة مئتي عام، علامة استفهام.
وقد تمكن طبيب ألماني يدعى أنغلبرت كيميفير من زيارة اليابان في فترة عزلتها التامة عن العالم. واستمرت الزيارة سنتين، من 1690 إلى 1692، وأثمرت كتاباً نشر عام 1727 بعنوان "تاريخ اليابان"، وفيه إشارات إلى بعض الأحياء البحرية اليابانية الغريبة. وكانت تلك الاشارات بداية لجهود تالية ومبادرات فردية قام بها بعض العلماء الألمان والهولنديين الذين جمعوا نماذج من الكائنات البرية والبحرية، وقاموا بوصفها وتسجيلها. وهكذا، بدأت دراسات التاريخ الطبيعي في اليابان في غياب اليابانيين أنفسهم!
تنازل آخر حاكم من الشوجان عن سلطته عام 1867، فاستردَّ الامبراطور متسوهيتو، جدُّ هيروهيتو، وضعه كحاكم فعلي. وبدأ يفتح أبواب بلاده لتدخل منها بذور الثقافة والعلم والصناعة الحديثة.
في العام 1875، زارت سفينة الأبحاث البريطانية الشهيرة "تشالنجر" سواحل اليابان، كجزء من رحلتها العلمية الرائدة لدراسة المحيطين الهادئ والهندي والتي استمرت من 1872 الى 1876. فدعي طاقمها من العلماء والضباط إلى حفل استقبال رسمي في القصر الامبراطوري. وكان واضحاً أن الامبراطور المتفتح متسوهيتو أراد أن يثير اهتمام اليابانيين ويشعل حماستهم لدراسة علوم البحار.
ارتبطت بداية دراسات الأحياء البحرية في اليابان بالأسماك الاقتصادية. وفي العام 1889، أنشئت كلية خاصة للمسامك، تطورت في ما بعد لتصبح جامعة طوكيو للمسامك. ولم تلبث الدراسات الخاصة بالأحياء البحرية، الأقل أهمية اقتصادية من الأسماك، أن لقيت الاهتمام اللائق من الأمير هيروهيتو ذي السبعة عشر عاماً. فخلال جولة تأملية على شاطئ مقاطعة سوروجا، عثر هيروهيتو على نوع غريب من الربيان (الجمبري) ألقت به الأمواج على الرمال. فحمله وعرضه على أحد المتخصصين، الذي أكد أنه نوع جديد تماماً، لم يسبق وصفه ولا تسجيله في مجموعة القشريات البحرية اليابانية. وقد أُعطي هذا النوع اسماً جديداً يحمل معنىً امبراطورياً هو (سيمباسيفيا إمبيرياليز)، توثيقاً لاكتشافه على يد ولي العهد.
تلك الحادثة عمَّقت ميول هيروهيتو العلمية. ولم يكن غريباً أن يطلب إنشاء وتجهيز مختبر للدراسات البيولوجية البحرية داخل القصر الامبراطوري في طوكيو، حصل عليه عام 1925، قبل سنة من خلافته لأبيه الامبراطور تايشو.
بدأ هيروهيتو نشاطه على الفور، متوزِّعاً بين جولات شاطئية لجمع النماذج والعينات من ساحل خليج ساجامي، على بعد 65 كيلومتراً إلى الجنوب من العاصمة، وأعمال الفحص والدراسة في المختبر. ولعل بعض المحيطين به كانوا يعتقدون أن مشاغل الحكم ومقتضيات السلطة كفيلة بأن تنسيه ميوله العلمية بعد أن أصبح امبراطوراً لليابان. لكنه ظل حريصاً، ما لم يكن هناك من شؤون البلاد ما يشغله تماماً، على أن يخصص ساعات في آخر النهار، يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع، ليهرع إلى مختبره ويواصل فحص وتأمل كائناته البحرية الأثيرة: الهيدرا!
لم يستطع أحد أن يفسر لماذا انجذب الامبراطور إلى هذه المجموعة من الحيوانات البحرية. إنها كائنات دقيقة، قريبة الصلة بشقائق النعمان البحرية وقناديل البحر (الأسماك الهلامية)، وقد يحسبها الشخص غير المتخصص من النباتات. فهي تنمو وتتفرَّع في هيئة شبيهة بالسرخسيات، فوق الصخور وعلى الأصداف وملتصقة بالطحالب البحرية. وتتكاثر من دون تزاوج، فتنتج وحدات صغيرة تسمى "ميدوزا" تشبه قناديل البحر إلى حد كبير ولها القدرة على السباحة. وتنحصر مهمة هذه الميدوزات في إنتاج الأمشاج الذكرية والأنثوية في الماء. وما إن تتكوَّن الأجنّة حتى تأخذ في التحوُّر لبعض الوقت، ثم تترك الحياة الطليقة في الماء وتتجه إلى أقرب سطح مناسب لتلتصق به، مكوِّنةً أفراداً جدداً من الهيدرا.
ولا يجد علماء البيولوجيا البحرية في اليابان، أو خارجها، أدنى حرج حين يؤكدون على القيمة العلمية الكبيرة لأبحاث الامبراطور هيروهيتو. فقد كان له السبق في وصف وتسجيل عدد غير قليل من أنواع الهيدرا البحرية. كما شجَّع عدداً من علماء البيولوجيا البحرية اليابانيين والأجانب على دراسة مقتنياته من العينات التي جمعها بنفسه من خليج ساجامي، واشتملت على الرخويات والقشريات والجلدشوكيّات وغيرها من مجموعات الكائنات البحرية.
وكان الاهتمام العلمي لا يفارق الامبراطور في رحلاته الخارجية، على قلَّتها. وقد أمضى 18 يوماً في زيارة لبعض الدول الأوربية عام 1971، وكان حريصاً عند وصوله إلى لندن على زيارة متحف التاريخ الطبيعي الشهير، حيث أهداه علماء المتحف مجموعة من الشرائح المجهرية تحتوي على عينات من كل الأنواع البريطانية من الهيدرا البحرية. ومنحته الجمعية الملكية في لندن درجة الزمالة، وهي درجة فخرية تمنح للعلماء الذين يساهمون في تقدم العلم. وفي 1975، زار هيروهيتو الولايات المتحدة حيث دُعي لزيارة معهد سميثسونيان، والتقى علماء المعهد المتخصصين في البيولوجيا البحرية، فأهدوه نموذجاً لنوع نادر من رخويات البحر الكاريبي.
الامبراطور الحالي أكيهيتو خلف والده أيضاً في الاهتمام بعلوم البحار البيولوجية. غير أن الإبن يختلف عن أبيه في ميله إلى دراسة مجموعة من الأسماك الشديدة التنوُّع، تعيش في المياه الضحلة وعند مصبات الأنهار، هي أسماك الـ "جوبياس". وقد نشر أكيهيتو العديد من الأبحاث حول هذه الأسماك في المجلات العلمية. والعجيب أن أسماك الجوبياس، التي حظيت باهتمام الامبراطور الابن، تشترك مع كائنات الهيدرا ـ هوى الامبراطور الأب ـ في ضآلة، بل انعدام، قيمتها الاقتصادية!