وزارة الإصلاح الإداري في لبنان أصدرت تقريراً ضخماً، يحوي لائحة بآلاف الدراسات والمشاريع التي تم إعدادها خلال السنوات الماضية، وبقيت حبراً على ورق، بعدما تم صرف الملايين عليها، معظمها من قروض وهبات قدمتها منظمات دولية وحكومات أجنبية.
تقرير الوزارة، الذي صدر في مجلد فخم، وبتمويل دولي أيضاً، لن يكون مصيره، على أهميته التوثيقية، أفضل من مصير الدراسات التي يعددها في صفحاته. فما لم تتخذ خطوات عملية سريعة لضبط سبل صرف المساعدات الدولية، سيبقى التقرير على الرف، في انتظار أن ينضم إليه، بعد عشر سنوات، جزء ثانٍ، يعدد آلاف الدراسات الأخرى التي سيكون استنبطها خيال "الخبراء".
كل الدراسات والمشاريع تذهب في مهب الريح إذا لم تكن في إطار تنفيذ خطة قائمة على استراتيجية واضحة. وهذه لا بدّ منها لتحديد الأولويات وتوزيع الأدوار والمهمات، للتأكد من أن أي دراسة تصب في اتجاه تنفيذ أحد بنود الخطة الوطنية، ولمعرفة خط سيرها بعد إنجازها: فمن يتابع ومن ينفذ ومن يراقب؟
من قرر، مثلاً، أن تمويل وزارة البيئة لإعداد "خطة طوارئ" للسلامة في الأبنية تتقدم، من ضمن المهمات البيئية الموكلة اليها، على أولوية وضع خطة طوارئ للتسرب النفطي على الشواطئ؟ ومن قرر أن دراسة ثقب الأوزون أهم من دراسة حفر صرف المياه المبتذلة، التي تلوث مجاري المياه الجوفية؟
ما زلنا نذكر ابتسامات الفرح بقرب الفرج على وجوه رؤساء بلديات البقاع منذ سنوات، حين زارهم فريق من السويد مع خبراء وزارة البيئة اللبنانية، في حفلة "إطلاق" دراسة لتنظيف مجرى نهر الليطاني وبحيرة القرعون. ونرى الخيبة واليأس على وجوه جيران الليطاني اليوم، وقد تم صرف الملايين على الدراسات والخبراء، وبقيت الوعود أنهاراً من سراب.
مشكلتنا في العالم العربي أننا ننتظر الكارثة لنكتشف هشاشة الدراسات وضعف التخطيط. فالسنة الماضية وقفت الهيئات المختصة مشدوهة أمام نفوق آلاف الأطنان من الأسماك في بحر الكويت بسبب التلوث المتواصل. وتعاملت الهيئات الرسمية بعجز مع سلسلة التسربات النفطية على شواطئ الخليج. والشهر الماضي، لم تنفع كل الدراسات والمشاريع والتقارير في معالجة التسرب النفطي من مصنع الاسمنت في شكا على الشاطئ اللبناني. فحين حصلت الكارثة، اكتشف المسؤولون أن لا خطة طوارئ لمعالجتها، وتركت التدابير البدائية على عاتق "خبراء" لم يشاهدوا بقعة زيت من قبل إلا في صحن اللبنة.
يحق لنا أن نتساءل: لماذا تذهب معظم القروض والهبات لبرامج تكتفي بجمع المعلومات، ونادراً ما تصرف أية مبالغ على البحث العلمي الذي ينتج المعلومات ويستنبط الحلول؟ وهل تبقى الدراسات مهملة على الرفوف، قلما تجد طريقها الى التنفيذ، لأنها خيالية تقوم على معلومات تقديرية لا على وقائع؟
كتبنا الشهر الماضي أن مساعدات الفقراء تذهب الى جيوب "الخبراء"، وحذّرنا من هدر الأموال الدولية. جاءنا احتجاج من إحدى المنظمات، يقول إن هناك آليّة لمراقبة البرامج ومراجعتها من قبل خبراء مستقلين، مما يضمن سلامة العمل. وقد ذكّرنا هذا برفض إحدى المنظمات تعيين واحد من كبار الباحثين المصريين لمراجعة دراسة، تم إعدادها بشراكة بين تلك المنظمة ومجلة "البيئة والتنمية"، بحجة أنه تم تكليف هذا الباحث سابقاً بإعداد تقرير عن عمل المنظمة، فجاء سلبياً. فهل كان المطلوب أن يقول في تقريره ان كل شيء تمام حتى يؤمن تعيينه في مهمة أخرى؟
نخشى أن نكون دخلنا عصر الخبراء من فصيلة "أمرك سيدي".
|