النص: وجدي رياض
الصور: أشرف عبدالسلام
لن أستطيع أن أصف بالكلام جمال حدائق المرجان، التي تسبح في أعماق البحر الأحمر وخليج العقبة، لأن القلم يعجز عن الوصف التفصيلي لما يجري في دنيا المياه الدافئة المالحة تحت سطح تلك المياه، من شعاب مرجانية حمراء وصفراء وسمراء وبيضاء. لقد صنع المرجان من الاعماق شوارع وأزقة وبيوتاً ومخازن وحدائق، تتحرك فيها جموع السكان من الاسماك الملونة الغريبة والعجيبة والنادرة.
واذا كان الناس يتذوقون الثياب من ألوان مختلفة، تبهر بها بيوت الازياء العالمية عقول البشر، فان عظمة الخالق لا يضاهيها فكر أو عقل أو فن أو ذوق. وعندما تبدأ رحلة الغطس في منتجعات البحر الأحمر وخليج العقبة، حيث يرتدي الهواة البذلة الخاصة وقد حملوا فوق ظهورهم اسطوانات الاوكسيجين، ويبدأون الرحلة في المياه العميقة اللازوردية، فان أول جملة يقولونها هي: سبحان الله، ما أعظمك! فالمشهد بالغ العظمة والجمال ويأخذ الألباب. ينسى الانسان نفسه سابحاً في ملكوت الله، مستمتعاً بما يرى وهو يجول بين ملايين الاسماك الملونة، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بأسماء وأشكال وأجناس وفصائل تكاد لا تتسع لها مجلدات العلماء في أعرق مكتبات العالم.
تعال معنا في رحلة من رحلات الغطس، لتعيش الصورة كاملة. انها رحلة يوم واحد، في أحد المنتجعات الساحلية على شواطئ الغردقة وسفاجا والقصير ومرسى علم، المدن المصرية الأربع الكبرى المطلة في محافظة البحر الأحمر. وهي تقع على مسافة 500 كيلومتر جنوب شرق القاهرة، حيث تستغرق الرحلة بالطائرة الى الغردقة، عاصمة المحافظة، ساعة واحدة، ومنها تذهب بالسيارة جنوباً الى سفاجا على بعد 60 كيلومتراً، ثم الى القصير، فالى مرسى علم، وبعدها شلاتين وحلايب على الحدود السودانية.
هذه المنتجعات عبارة عن قرى سياحية رائعة الجمال، يؤمها السائحون من جنسيات مختلفة، وهدفهم في الدرجة الاولى متعة الغطس. والغطس رياضة يعشقها كثيرون من كل دول العالم، لها رداء خاص، وتحتاج الى الكشف الطبي أولاً للتأكد من سلامة وصحة هاوي الغطس، حتى يتحمل الضغط الشديد في الاعماق، ناسياً نفسه في متعة لا تضاهى.
الرحلة تبدأ من أحد مرافئ المنتجعات الجميلة الراقدة على مياه البحر الاحمر، في السابعة صباحاً، حيث يتجمع الغطاسون في مجموعات، وينطلقون الى مراكز الغطس في القرية السياحية. وهناك يرتدي الغطاس البذلة الخاصة، وهي من الكاوتشوك الأسود ومحكمة على الجسم، ويرتدي قناعاً وزعانف وغطاء رأس، ويحمل فوق ظهره اسطوانة الاوكسيجين مع جهاز تنفس مرتبط بها. ثم تقلع السفينة بهواة الغطس الى حيث أكثر المناطق ثراءً بالحدائق المرجانية، فتتوقف، ويقفز الهواة واحداً وراء الآخر، ويختفون عن الانظار في الاعماق، حول الشعاب المرجانية وبين أسراب الأسماك الملونة في المياه المالحة الدافئة. ويظل الغطاس ساعات متأملاً وراصداً تجمعات الاسماك وحيوانات البحر المختلفة، ونباتات وأصدافاً وقواقع ومساكن، ودنيا اسمها الجمال الراقد في اليم.
انها دنيا فيها طحالب وأشجار وشعاب ملونة حمراء. وفي أحدث دراسة خرجت عن التنوع البيولوجي في مصر، ومقارنة أعداد الكائنات الحية وأنواعها منسوبة الى أعدادها التقديرية في العالم، وكذلك الانواع المنقرضة أو المتوطنة أو النادرة، ثبت أن في مصر من نوع أسماك "الاخباتيا" نوعاً واحداً من 63 نوعاً في العالم كله، ومن "الكوندريشاس" 95 نوعاً من بين 843 في العالم، ومن "البوني فيش" 659 نوعاً من بين 18150 في العالم.
هذه الحدائق تحت مياه البحر هي نتاج مئات الملايين من سنوات التطور. وبفضلها، كما يقول الدكتور مصطفى كمال طلبه الرئيس السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، في كتابه "إنقاذ كوكبنا"، "تمكنت أنواع من الازدهار، ولكن الانشطة البشرية أدت الى خسارة التنوع البيولوجي للأرض، ومع ازدياد النشاط الاقتصادي والسياحي أصبحت معدلات خسارة التنوع البيولوجي أسرع".
ونعود الى رحلات الغطس التي تضاعفت مئات المرات عقب عودة السواحل الذهبية الى مصر في نيسان (ابريل) 1982. فتدفقت الاستثمارات الى هذه المنطقة، وقام فيها أكثر من 500 منتجع ساحلي على البحر الأحمر وسيناء الجنوبية، ترصع السواحل على طول مئات الكيلومترات، من الغردقة حتى مرسى علم جنوباً، ومن شرم الشيخ حتى طابا شمالاً.
في رحلات الغطس يسبح الغطاس لمسافات طويلة وأعماق سحيقة وراء السمك والكائنات الغربية الاطوار، حيث يجد أمامه متحفاً مفتوحاً.
والأمر الطريف ان هناك 500 منتجع يخرج منها على الأقل 5000 هاوي غطس كل صباح، وفي وقت واحد يدخلون حدائق الأعماق، من أجل حجز مكان تحت الماء بين الشعاب الرجانية، يراقبون منه بنظاراتهم حركة الاسماك وأنواعها داخل الكهوف وبين التضاريس.
هل الحماية ممكنة؟
السؤال المهم هو: هل يمكن حماية هذا الموروث الطبيعي؟ والاجابة، للأسف، أن هذا الأمر صعب جداً.
لقد تعرضت الشعاب المرجانية الى تدمير أصاب منها مقتلاً عندما ضربتها عدة مصادر منها:
- السفن والناقلات الحاملة للبترول من أسواق الانتاج في الخليج الى أسواق الاستهلاك في الغرب عبر قناة السويس.
- زيادة سياحة الغطس والتدمير الذي يحدث نتيجة الحركة فوق الشعاب وكثافة أعداد الهواة.
- مضاعفة أعداد السفن التي تلقي بالغاطس والمراسي لتثبيت السفن في الشعاب، مما دمر الكثير منها.
- القاء بعض المواد الخطيرة التي أدت الى ابيضاض الشعاب واصابتها بالامراض.
- اصطدام السفن ليلاً بالشعاب المرجانية لعدم وجود مصابيح عاكسة.
وقد رصدت دراسة أجريت في منطقة الغردقة وحدها تدمير 80 ألف متر مربع من الشعاب المرجانية. ويرجع ذلك الى معسكرات الغوص التي تدير سفناً تقلع يومياً من المرافئ في المنتجعات قاصدة موقع الشعاب. والتدمير الذي أصاب الشعاب المرجانية خلال العقدين الأخيرين سوف يفقد سياحة الغوص ميزتها الرئيسية حين تموت الشعاب.
وقد ساعدت هيئة المعونة الاميركية احدى الجمعيات الاهلية لبناء نوع من المراسي لا يؤذي الشعاب، وفي الوقت نفسه تنظيم حملة توعية بين البحارة وفي مراكز الغطس للحفاظ على الشعاب وحماية الجزر المتاخمة للساحل واعتبارها محميات، ووضع استراتيجية وطنية لصون التنوع البيولوجي.
الشعاب المرجانية بطيئة النمو، وتحتاج الى عشرات السنين لتكوينها. وللأسف فان الاستثمارات، التي تدفقت مرة واحدة، أدت الى عشوائية بناء المنتجعات والردم في البحر لبناء أحواض السباحة والمرافئ. وقد ساهم هذا، اضافة الى ازدياد رحلات السفن والناقلات، في تدمير الشعاب المرجانية، خاصة من انسكاب البترول.
ان العلاقة بين السياحة والبيئة هي علاقة توازن دقيق بين التنمية وحماية البيئة. ولا ينبغي ان تكون سياحة قصيرة النظر، سريعة الربح، لأنها قد تأتي على الدول النامية بدخل كبير لسنوات قليلة، لكنها تفقدها ثروتها الطبيعية في المدى البعيد، فتخسر بهذا مقومات جذب السيّاح.
هذا الجمال الرائع في أعماق البحر الأحمر يحتاج الى تدابير حماية عاجلة حتى نستطيع الاستمرار في التمتع به.