يقوم مفهومنا عن المسؤولية البيئية على أساس مبادئ برزت منذ قرن ونصف. ورغم ما دار خلال تلك الفترة من حوار ودراسات ومناقشات، لم يصل العالم الى صورة واضحة عن الارتباط بين التنمية وحماية البيئة، إلا في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الانسانية الذي عقد في استوكهولم في عام 1972. فقد أعاد ذلك المؤتمر تعريف البيئة على انها مخزون المصادر الطبيعية والاجتماعية المتوفرة في أي وقت من أجل تلبية احتياجات الانسان. كما عرَّف عملية التنمية نفسها على انها عملية استخدام تلك المصادر بهدف زيادة رفاهية الانسان، أو على الأقل المحافظة على مستواها. وبذلك اتضحت العلاقة الوثيقة بين حماية البيئة وتحقيق التنمية.
وقد أدت هذه التعريفات الجديدة الى البحث عن مفهوم جديد موسَّع للتنمية. وبرز نتيجة الدراسات مفهوم التنمية المستدامة، الذي انشغل به المجتمع الدولي خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي. وفي مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو في البرازيل سنة 1992، تبنت دول العالم هذا المفهوم الموسع، التنمية المستدامة، الذي يعني تحقيق احتياجات الجيل الحاضر من دون حرمان اجيال المستقبل حقها في الافادة من موارد الأرض التي يعيشون عليها. وقد اعتمدت قمة الأرض خطة لتحقيق مثـل هذه التنمية سميت الأجندة 21، أو خطة القرن الحادي والعشرين.
مستجدات الألفية الثالثة
لعل من أهم المستجدات على المستوى العالمي التي تشكل محددات رئيسية للتنمية المستدامة في كل مكان:
- العولمة وتحرير التجارة العالمية وقيام التجمعات الإقليمية الضخمة والاندماجات المتتالية بين الشركات والبنوك العملاقة.
- الزيادة السكانية المستمرة وتغير التركيب الهيكلي لأعمار السكان، ليزداد عدد المسنين في الدول الصناعية وعدد الشباب دون سن العمل في الدول النامية.
- ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء. دعوني هنا أذكر رقماً واحداً، وهو أن مجموع ما يملكه اليوم أغنى 358 ملياردير (بليونير) في العالم يعادل مجموع الدخل لأفقر 45 في المئة من سكان العالم، أي 2.75 بليون نسمة. وهذا الأمر لابد أن يؤدي إلى زيادة التوتر بين الأغنياء والفقراء.
- تغير طبيعة العمل بشكل متلاحق بسبب التطورات الضخمة في تكنولوجيا الاتصالات. ونتيجة لذلك أصبحت البطالة والفراغ من معالم السنوات الأخيرة من القرن العشرين، كما برز النقص الحاد في العاملين ذوي المهارات العالية الجديدة اللازمة لسوق العمل في الدول النامية.
- الإرهاب والجريمة المنظمة والحوادث الدينية والعرقية، التي ازدادت بطريقة حادة. ويبدو أن هناك الكثير من الترابط بينها جميعاً، مع عجز تام عن مواجهتها، أو حتى عن تعريف الإرهاب، والخلط المتعمد بينه وبين الدفاع عن الحقوق المشروعة للدول والأراضي المحتلة.
- نقص المياه العذبة، وهي قضية تشغل تفكيري بدرجة كبيرة. فقد أصبحت المياه العذبة نادرة في عدد كبير من مناطق العالم. ولعل أخطر ما في هذا الموضوع قضية المصادر الدولية التي تشترك فيها دولتان أو أكثر، وتلك التي تنبع من خارج أراضي الدولة، وكلها تمثل مصادر محتملة للخلافات والنزاعات الإقليمية. وقضية المياه أحد الأسباب الرئيسية لما يجري حالياً على الأرض العربية.
- الانتقال من عصر الثورة الصناعية إلى عصر المعلومات والمعلوماتية. وفي هذا المجال يمكن أن نقول ان تكنولوجيا المعلومات تحمل الأمل والخطر على حد سواء. فقد أصبح الأثير وسيلة جديدة وهامة غير مسبوقة للحضارة. وتمثل الانترنت أحد أقوى عوامل التغيير في العالم، ويمكن أن تؤثر، إذا أُحسن استخدامها، تأثيراً إيجابياً في كل شيء، من العلم والدين إلى السياسة والثقافة. ومع ذلك فما زال معدل استخدام الانترنت في العالم العربي أقل منه في أي منطقة أخرى في العالم، بما في ذلك أفريقيا جنوب الصحراء.
- التقدم المذهل في الأنواع الجديدة من التكنولوجيا الحيوية وخاصة الهندسة الوراثية. يشعر المختصون في كل أنحاء العالم بأن الهندسة الوراثية سوف تكون في السنوات القليلة المقبلة من أقوى التكنولوجيات التي شهدها العالم ومن أكثرها تأثيراً في حياة الإنسان. وما زلنا في العالم العربي بعيدين عن مركز النشاط في هذا المجال.
في ظل كل هذه المستجدات، التقت دول العالم على مستوى القمة منذ أربعة شهور في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا لتقييم ما تم تنفيذه من الأجندة 21 وما يجب التركيز عليه في العقد القادم والاتفاق على أهداف رقمية محددة.
كان تحديد هذه الأهداف قد بدأ بالفعل أثناء اجتماع الألفية الثالثة، الذي عقدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2000، حيث أقر رؤساء الدول والحكومات عدداً من الأهداف، أكدتها قمة جوهانسبورغ، وأضافت إليها أهدافاً جديدة.
ولعل أهم كل هذه الأهداف: أن يتم بحلول سنة 2015 خفض عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، وعدد الجياع وعدد المحرومين من المياه الصالحة الشرب ومن الصرف الصحي إلى النصف. وتخفيض ثلاثة أرباع عدد النساء اللواتي يمتن أثناء الوضع وثلثي الأطفال الذين يموتون قبل سن الخامسة. ورفع مستوى المعيشة لمئة مليون من أولئك الذين يعيشون في المساكن العشوائية والأكواخ بحلول سنة 2020. واتخاذ إجراءات محددة لزيادة استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة.
وكان بديهياً أن يدور الحوار بعد كل ذلك عن وسائل تحقيق هذه الأهداف. وكان من أهم الموضوعات المثارة قضية التمويل وقضية الشراكة. قضية التمويل تجمدت عند الاتفاقات غير الواضحة التي تمت في مؤتمر تمويل التنمية الذي عقد قبل قمة جوهانسبورغ بشهور قليلة في المكسيك. واتجه الحوار إلى التركيز على الشراكة، وهنا نعني الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل المساهمة الجادة في تحقيق هذه الأهداف. وجاء التركيز في المجتمع المدني على المنظمات غير الحكومية.
كل هذه القضايا والأهداف التي اتفقت عليها دول العالم ليست أموراً عارضة أو اتفاقات جوفاء. فهي تتعرض لقضايا نعيشها في الدول العربية بدرجات متفاوتة، ونسعى إلى تحقيق الأهداف والبرامج التي أقرت في جوهانسبورغ للوصول إلى موقع متقدم بين الدول في العالم المتسارع الخطى الذي نعيشه الآن.
يحتاج التعامل مع هذه القضايا التي ذكرتها إلى عمل جاد، يأتي في مقدمته، على سبيل المثال: أن تختار الدولة أولوياتها من بين تلك الأهداف والبرامج الكثيرة، في ضوء معرفة كاملة بكل المستجدات على الساحة الدولية وأثره علينا، وفي ضوء تحديد دقيق لما تقدره من حدة المشكلة وحجم المتأثرين بها وإمكانات حلها. الى جانب إيمان الحكومة، والمجتمع ككل، بأن الحكومة وحدها، أو حتى مجموعة من أهل بلد ما، لا تستطيع وحدها التصدي لهذه القضايا. إنها تحتاج الى الدولة مجتمعة، بأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، بالإضافة إلى جهود المجتمع المدني ممثلاً بالجامعات ومراكز البحوث والمنظمات غير الحكومية والنقابات والاتحادات والقطاع الخاص وهيئات أخرى.
تأتي المنظمات الأهلية في مقدمة المشاركين في هذا الجهد، بشرط أن تكون جادة في أهدافها وعلمية في أسلوب إعداد برامجها وتنفيذها. ولا بد لها أيضاً من أن تعمل لتحديد الأسباب الحقيقية لعزوف الجمهور عن عضوية الكثير من الجمعيات الأهلية، بل عن العمل التطوعي أيا كان نوعه.
ان دور الجمعيات الأهلية يجب أن يسير إلى ما هو أكثر من تحليل الظواهر وأسبابها ووسائل علاجها، إلى تطبيق أمثلة محددة مما تنادي به كحلول قابلة للتنفيذ بإمكاناتها المتواضعة، لتثبت للدولة، ممثلة بالحكومة، أن المشكلة قابلة للحل وبتمويل وإمكانات لا تعجز عنها الدولة. هذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه الجمعيات الأهلية.
أنا أعلم أن عدداً، قد يكون كبيراً، من الجمعيات الأهلية ليس على مستوى المسؤولية. ولكن العديد منها أيضاً على قدر عالٍ من الكفاءة والإخلاص والنشاط والخبرة. بقي أن ترى الجمعيات الأهلية مسؤولياتها بوضوح وتحدد ما تستطيع القيام به فعلاً بالجهود التطوعية وبالتمويل الذي يمكن أن يتاح لها بصورة دقيقة. وبقي أيضاً أن ترى الجمعيات الأهلية أن تعاونها مع القطاع الخاص، إذا بني على مبادئ سليمة، يمكن أن يفيد الطرفين. بقي بعد ذلك، بل لعله قبل ذلك كله، أن ترى الحكومة في المجتمع المدني، وخاصة الجمعيات الأهلية، شركاء صادقين معها، فتتيح لها فرص المشاركة الحقيقية في تخطيط وتنفيذ وتقويم برامج التنمية.
أدعو الى إيمان المجتمع كله بالعمل التطوعي. وللجمعيات الأهلية أقول إن عائد الاخلاص والجدية هو النجاح. أما رسالتي الى الحكومات، فهي ان عليها احترام الجمعيات الأهلية ودعمها، لأنها قادرة على المساهمة الفعالة في حمل جزء من العبء الذي تنوء به الدولة للارتفاع بمستوى المواطن العربي على أرضه.
الدكتور مصطفى كمال طلبه، رئيس المركز الدولي للبيئة والتنمية والمدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، كتب هذا المقال لـ"البيئة والتنمية".