ايما دنكان (أيدينشيك، تركيا)
ما زال الطقس بارداً في الخامسة صباحاً. وها هو أحمد أورهان يوجه زورقه الصغير عبر مياه المتوسط الزجاجية التي بدت وردية اللون مع انبلاج الفجر. انه يقصد شباك الصيد التي نصبها في الليلة السابقة قبالة الشاطئ الصخري في بلدة أيدينشيك التركية، آملاً أن يجدها مليئة بالأسماك. ومثله يفعل ألوف الصيادين الآخرين في أنحاء البحر المتوسط اذ يتفقدون صيد الليل.
أحمد مثال الصياد التقليدي: بشرة سمَّرها مكوث طويل تحت أشعة الشمس، وعينان تشعان بريقاً، وخبرة جعلته منهل معرفة حول البيئة البحرية المحلية. وكسائر الصيادين التقليديين حول العالم، يساوره قلق حول تراجع أعداد الأسماك، فيقول: "قبل عشرين سنة كانت الأسماك كثيرة جداً. أما الآن فلا نرى تلك الأعداد ولا ذلك التنوع".
المشكلة هي سفن الصيد التي تأتي من المدن الكبيرة وتجرف شباكها الضخمة كل ما يعترض سبيلها من دون تمييز. وممنوع أن تقترب هذه السفن من الشاطئ مسافة تقل عن خمسة كيلومترات. فالمنطقة الشاطئية خصصت للصيادين التقليديين المحليين أمثال أحمد، الذين ينصبون شباكاً قليلة تكفي لتزويد بلدتهم بحاجتها من الاسماك. لكن سفن الصيد التي استنزفت الثروة السمكية في المياه العميقة أخذت تقترب من الشاطئ، شيئاً فشيئاً، وبصورة غير مشروعة، خلال السنوات العشرين المنصرمة.
نقص الأسماك أضر بالصيادين، كما أضر بالفقمة الناسكة المتوسطية (Mediterranean monk seal). فهذه الحيوانات الخجولة كانت في الماضي تعيش في مستوطنات على شواطئ البحر الأسود والبحر المتوسط والمحيط الأطلسي من البرتغال الى السنغال. لكنها باتت اليوم من أندر الثدييات في العالم، ولم يبق منها الا نحو 500 رأس، تنتشر بين تركيا واليونان والمغرب وموريتانيا وجزر ماديرا. وتلك التي في اليونان وتركيا تلازم الجزر والشواطئ البعيدة، وتعيش إما وحيدة وإما في "مجموعات" من فقمتين أو ثلاث.
يوضح يالشين سافاس، من منظمة "ساد" التركية التي تعمل مع الصندوق العالمي لحماية الطبيعة (WWF) على حماية الفقمة الناسكة: "انها تفضل المناطق الصخرية غير المقصودة التي تنتشر فيها الكهوف. فالكهوف مهمة بنوع خاص للفقم الصغيرة، التي تولد فيها، وتحتمي بها من العواصف والأمواج والأخطار الأخرى، ومنها تبدأ استكشاف عالمها وتتلقى التدريب من الفقم البالغة. ومع انتشار العمران على سواحل البحر المتوسط، وتلوثه بسبب حركة الملاحة الصناعية والمصادر البرية، فقدت الفقم الناسكة كثيراً من موائلها".
الصيد وفقدان الموئل كانا السببين الأولين لتراجع أعداد هذه الفقم، تضاف اليهما مشكلة مستجدة هي نقص الطعام. وقد تبين أن الفقم تعاني من مرض ترقق العظام، ما يشير الى احتمال معاناتها من نقص مزمن في الغذاء. فهي تأكل الأخطبوط والحبار والأسماك، وهذه أنواع يقبل عليها الناس، مما يجعل الفقم في مواجهة تنافسية مباشرة مع الصيادين بسبب محدودية هذا المصدر الغذائي. وقد باتت تعاني من الجوع وانخفاض من عمليات التناسل الناجحة، كما أن بعض الصيادين يقتلون الفقم انتقاماً "لسرقة" الأسماك من شباكهم. وتقع الصغار أحياناً في شباك الصيد فتنفق اختناقاً.
هذا التعارض كان حافزاً لمساعدة كلا الطرفين على البقاء. فمنذ العام 1995، يعمل صيادو أيدينشيك مع منظمة "ساد" وWWF لحماية الفقمة الناسكة وتحسين سبل عيشهم في آن معاً. وينصب جزء من العمل على زيادة المخزونات السمكية وحماية موائل الفقم، فتم تكريس بضع مناطق حول كهوف تكاثرها حيث منع الصيد، فازدادت المخزونات السمكية هناك على نحو ملحوظ. يقول الصياد أحمد: "ألاحظ أن الأسماك تكبر أكثر وأن أعدادها تتزايد، ونحن ما زلنا في البداية".
ويهدف الجزء الثاني من العمل الى إبقاء سفن الصيد خارج مناطق الصيادين المحليين الصغار، وهذه مهمة خفر السواحل، لكن الكلام شائع عن "ثغرة في النظام". لذلك تم تزويد المسمكة التعاونية في البلدة بزورق دورية. يقول عمر دميريورك قبطان الزورق المتطوع والفخور بعمله: "ليس بامكاننا توقيف الصيادين غير الشرعيين، لكننا نبلغ الشرطة البحرية عنهم لتتخذ الاجراء المناسب. كما نشجع الناس في المنطقة على الابلاغ عن أي نشاطات صيد غير مشروعة". ويشكل زورق الدورية رادعاً فعالاً، فرغم أن سفن الصيد ما زالت تقترب من الشاطئ، فقد خفت وتيرة هذه التجاوزات.
وكان جزء مكمّل للعمل افتتاح المسمكة التعاونية، وهي ملكية مشتركة للصيادين المحليين، تدفع لهم سعراً عادلاً للسمك الذي يأتون به وتتولى بيعه. وهذا يوفر لهم مصدر دخل أكثر استقراراً، فلولا التعاونية لتعين عليهم بيع السمك لتجار من خارج المنطقة لا يدفعون لهم دائماً الثمن الذي يستحقونه. كما ان التعاونيات توفر للصيادين قوة ضغط من أجل اصلاحات تمنع ممارسات الصيد غير المشروعة.
يقول الصياد أحمد: "نحن مجرد بلدة صغيرة، لكن صيادينا يساعدون على حماية البيئة البحرية، والتعاونية ستحسن دخلنا ونوعية حياتنا. عندنا اليوم سوق للسمك يقصدها الناس من بلدات أخرى. وبوجود مناطق ممنوع الصيد فيها، سيكون هناك سمك كاف لنا وللفقم الناسكة".
ايما دنكان مسؤولة إعلامية في الصندوق العالمي لحماية الطبيعة.
كادر
ناسكة البحر المتوسط
الفقمة الناسكة المتوسطية (Monachus monachus) من الثدييات الستة الأكثر تعرضاً للخطر في العالم. كانت تعيش في جميع أرجاء البحر المتوسط، لكن صيدها وتدمير موائلها واستنزاف مخزونات الأسماك التي تتغذى عليها، فضلاً عن التلوث البحري، لم تبقِ منها الا نحو 500 فقمة، يعيش 300 منها في شرق المتوسط وخصوصاً على السواحل التركية واليونانية في بحر ايجه.
الفقمة الناسكة من الثدييات البحرية الآكلات اللحوم. معدل طولها 2,4 متر ومعدل وزنها نحو 300 كيلوغرام. يغطي جلدها فرو لطالما طمع به صانعو الألبسة، وتشكل الدهون نحو نصف جسمها. وهي حيوانات خجولة وحساسة جداً، تتجنب الشواطئ المأهولة وتألف الكهوف والجزر المقفرة، ولذلك سميت "الناسكة". ويمكنها الغوص حتى عمق نحو 100 متر ولمدة ساعتين أحياناً، اذ تخزن الهواء في عضلاتها وطحالها وتطلقه ببطء خلال الغوص. تحمل الأنثى جرواً واحداً كل سنتين تقريباً، مما يجعل التكاثر عملية بطيئة جداً.