تعاني البيئة العراقية من مشاكل وخيمة تتطلب تصدياً فورياً. لكن ما خصص لمعالجتها في ميزانية الدولة لا يشجع على التفاؤل بمستقبل أفضل. فمن أصل 200 مليون دولار طلبتها وزارة البيئة لتنفيذ 35 مشروعاً حيوياً، خصص لها مبلغ مليون دولار لكامل سنة 2004.
خلفت ثلاثة عقود من الحروب الداخلية والخارجية تركة ثقيلة للشعب العراقي، أشدها وخامة الكارثة البيئية والصحية. ولعل أخطر معالم هذه الكارثة التلوث بمختلف أنواع الملوثات وأشدها فتكاً، والتي لن تقتصر أضرارها على الجيل الحالي من العراقيين.
وقد ساهمت قوات التحالف الغربية، وبخاصة الأميركية والبريطانية، في حربي الخليج الثانية عام 1991 والثالثة عام 2003، بدور كبير في انتشار التلوث الإشعاعي الذي أكده خبراء الأمم المتحدة. وأحدث دراسة إشعاعية ميدانية أجراها عام 2003 فريق من المركز الطبي الأميركي لأبحاث اليورانيوم UMRC برئاسة العالم الأميركي أساف دوراكوفيتش، وضم العالم الألماني سيغفرت ـ هورست غونتر والباحث العراقي محمد الشيخلي، في 10 مدن في وسط وجنوب العراق. وأظهرت الدراسة تلوثاً إشعاعياً خطيراً، بلغ في بعض المناطق أكثر من 30 ألف ضعف الحد المسموح به. (نشرت مجلة "البيئة والتنمية" في عدد كانون الأول (ديسمبر) 2003 تفاصيل وافية عن النتائج الأولية للدراسة).
وفي كانون الثاني (يناير) 2004 كشف النقاب عن تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة للبيئة يؤكد أن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، والفترة التي أعقبتها، تسببت في احداث مشكلات بيئية خطيرة، وعلى رأسها المشكلات التي ترتبت على استخدام القوات الاميركية والبريطانية لذخائر اليورانيوم المستنفد (Depleted Uranium) في العمليات العسكرية. وأكد التقرير وجوب التعامل الفوري مع المشكلات البيئية في العراق، ومن بينها عمليات نهب مواقع المواد النووية والسموم، مع ضرورة دراسة الآثار التي تترتب على السكان المحليين.
سلطة الاحتلال تتجاهل
مع أن اتفاقات جنيف لسنة 1948، المتعلقة بحماية المدنيين أثناء الحرب والاحتلال، تلزم سلطة الاحتلال بواجبات كثيرة في هذا المضمار، إلا أن الواقع لا يظهر حتى الآن أن مكافحة التلوث ومعالجة المشاكل البيئية الراهنة في العراق هي من الأولويات. وليس أدل على ذلك من تخصيص مبلغ مليون دولار، لا أكثر، في موازنة سنة 2004 لمواجهة مشكلة التلوث. وقد جاء في وكالة فرانس برس بتاريخ 11/2/2004 أن الدكتور علي حنوش، المستشار في وزارة البيئة، صرح بأن الوزارة وضعت لائحة من 35 مشروعاً تبلغ كلفتها الاجمالية أكثر من 200 مليون دولار. وأضاف: "في سنة 2004 خصصت الحكومة لنا ميزانية قيمتها مليون دولار، اضافة الى مرتبات 700 موظف، بالرغم من أن البيئة تعاني من مشاكل خطيرة تراكمت لعقود ثلاثة مما أخل بتوازن الانظمة البيئية". وقال ان الخبراء بدأوا رصد «المناطق الساخنة» للتلوث، مقراً بأن وسائل مواجهة الوضع محدودة، وموضحاً ان مختبرات التحليل التي كانت موجودة في عهد صدام حسين تم نهبها.
وكان وزير البيئة عبد الرحمن صديق كريم أعلن، في كلام نقلته عنه جريدة "بغداد"،أن وزارته تعدّ قانوناً جديداً لحماية البيئة يتكون من 12 فصلاً و46 مادة، تم عرضه على اللجنة القانونية في مجلس الحكم الانتقالي للموافقة عليه. وقال الوزير، خلال ندوة نظمتها الوزارة حول مياه الشرب، أن بيئة البلاد عانت كثيراً تحت النظام السابق من كثرة الملوثات بمختلف أنواعها، حيث كانت المصانع تصرف في الانهار كميات كبيرة من الملوثات الكيميائية والفيزيائية، مما يتطلب أجهزة متخصصة لفحصها ومراقبة كمياتها، مشيراً الى أن المنظمات الانسانية ستوفر هذه الأجهزة قريباً. وأكد أن مياه العراق بشكل عام صالحة للاستهلاك بنسبة 65 في المئة، أيأنها تحتاج الى تحسين بنسبة 35 في المئة، وذلك لن يتحقق الا بتحسين أداء الوزارة وتوفير الجهاز البشري المتخصص والمعدات والمختبرات المتخصصة.
تلوث خطير للمياه
كشف تقرير لوكالة "فرانس برس" في 10/2/ 2004 أن المياه الملوثة تستخدم في ري المزروعات على مقربة من محطة لتنقية المياه. ويصل نحو 325 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة يومياً الى محطة الرستمية، ومن ثم تصب في نهر ديالي، أحد روافد دجلة، دون أي تكرير وتحت انظار السكان. وقال مدير المحطة رياض نعمان الشمري ان "طاقتنا تراجعت الى الصفر"، مضيفاً: "منذ نيسان (ابريل)، يصب ما بين مليون و1,5 مليون متر مكعب من المياه المبتذلة الناجمة عن سكان العاصمة في نهر دجلة". وأقر بأن المحطة التي شيدت خلال الستينات لم تكن تعمل بكامل طاقتها قبل الحرب عندما كان المهندسون والفنيون يواجهون صعوبات في الصيانة وتجديد المعدات والتجهيزات، وخصوصاً في سنوات الحظر الدولي (1990 ـ 2003).
وأشار تقرير"فرانس برس" الى أن الوكالة الاميركية للتنمية الدولية تتولى في الوقت الحالي، كمقاول من الباطن لشركة "بكتل" الاميركية، اعادة تأهيل قطاع المياه، ولا تعمل الا في المحطات الثلاث الموجودة. وكانت الوكالة الأميركية أعلنت في كانون الثاني (يناير) 2004 ان "بامكان المحطات الثلاث معالجة نحو 800 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة يومياً يستخدمها 5،3 مليون نسمة"، مؤكدة أن الاشغال ستنتهي في تشرين الاول (أكتوبر) المقبل.
من جانبها، أكدت نهلة العقيلي ـ من المختبرات المركزية في وزارة البيئة ومديرة قسم المياه ـ أن المشاكل التي يعاني منها نهر دجلة سببها معامل الطابوق (طوب الاسمنت) التي ترمي أوساخها في النهر، اضافة الى تراكم مياه الصرف الصحي. وقالت إن المياه ساءت بسبب الحرب وانقطاع التيار الكهربائي والنقص الحاد في مادة الكلور المعقمة.
وحذر تقرير ميداني لصحيفة "واشنطن بوست" من أن شبكة المياه في العراق معرضة للخطر. فبالرغم من أن نهري دجلة والفرات هما عصب الحياة في تلك البلاد الصحراوية، الا أن سنوات طويلة من الاهمال أدت الى ارتفاع معدلات التلوث فيهما. فالمياه الآتية من الشمال نظيفة ونقية، لكنها تصبح موبوءة حين تصل الى العاصمة في وسط البلاد، اذ تلقى مخلفات المجاري في النهرين. وعند بلوغ الطرف الجنوبي في العراق، تصبح مياه النهرين ملوثة الى درجة أن جماعات المساعدات الانسانية تعتبرها مسؤولة عن تفشي الاوبئة يومياً، بالاضافة الى الاضرار التي تلحق بالبيئة. وذكر جون كلوسنر من شركة بكتل الاميركية ومدير شبكات المياه والمجاري والري في مشروع عملية اعادة بناء العراق: "ربما تذهب 75 في المئة من مجاري العراق الى الانهار". وقالت شركته ان هيئة المياه في بغداد حددت مشروع توسيع شرق دجلة باعتباره "أكثر المشروعات أسبقية". ويعني مشروع توسيع شرق دجلة زيادة امدادات المياه بنسبة 40 في المئة في شرق العاصمة، يستفيد منه 640 الف شخص.
وفي آذار (مارس) 2004 أكد علي جابر، مسؤول إدارة قسم الهواء والضوضاء في وزارة البيئة، أن حالة تلوث الهواء في مدينة بغداد تنذر بأزمة حقيقية جعلتها تتصدر أولويات الوزارة. وقال إن إدارته قامت بفحص مدى التلوث بعد الحرب، عبر نموذج ورقي أبيض يستخدم لتقصي الملوثات والغبار العالق في الهواء، وبعد تعرض النموذج للهواء على مدار 24 ساعة كان يصبح أسود اللون وبشكل مخيف.
من جهة أخرى، تغمر المياه الآسنة شوارع مناطق بغداد السكنية، من وقت الى آخر، وتدخل الى البيوت، وتجبر أهلها على الهرب إلى بيوت أخرى، الأمر الذي جعل الكثير من الأسر تمنع أطفالها من الخروج خوفاً من الأوبئة، وقد أصيب العديد منهم بأمراض معدية.
ومما يلفت الانتباه في معظم الأحياء السكنية، وفق تقرير لجريدة "المدى" في 23/3/2004، تجاهل الدوائر الخدمية لأبسط مقومات عملها، كالنظافة وتسليك المجاري ورصف الطرقات. وتواجهك كثرة النفايات أينما اتجهت، في تلال وأكواممنتشرة على طول الطريق. ولا تقوم آليات البلدية برفع النفايات، ويتذرع المسؤولون بعدم وجود إمكانيات.
وقدأكد وزير البيئة لجريدة "الصباح" في 13/3/2004 انه تم الاتفاق مع وزارة الموارد المائية على وضع آلية عمل بين الوزارتين بشأن تحسين نوعية المياه والحفاظ على الصحة العامة، وتشكيل لجنة تنسيق عليا لمتابعة تطوير البرامج في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا والتربية البيئية، فضلاً عن تنفيذ مشروع إنعاش الاهوار وإحيائها. وقال ان الاتفاق يهدف الى ترسيخ أطر التعاون مع وزارة الموارد المائية في مجالات السدود والخزانات والشبكات الاروائية ومشاريع الصناعة والزراعة، فضلاً عن حماية التنوع الاحيائي ومكافحة التلوث وملوحة التربة والتصحر.
وأعلن عن بدء الكوادر المتخصصة في دائرة ماء بغداد تنفيذ مشروع شرق دجلة لتصفية الماء في جانب الرصافة. وقال مصدر في الدائرة ان هذا المشروع، الذي ستنجز مرحلته الاولى في حزيران (يونيو) المقبل، يتضمن نصب ستة أحواض عملاقة ستقوم بتجهيز المياه الصالحة للشرب لنحو 2.5 مليون شخص في الرصافة كمرحلة اولى، ولنحو 1,5 مليون شخص في جانب الكرخ في مرحلته الثانية، مشيراً الى أن كلفة المشروع هي 17,4 مليون دولار. ويذكر أن سعة أحواض المياه في هذا المشروع تبلغ 6000 متر مكعب، اذ يبلغ قطر الحوض نحو 42 متراً بارتفاع 44 متراً.
هل ستنفذ الوعود؟
حتى الأسماك النهرية مسمومة. فقد أكد مزارعون من منطقة ديالى أن الاسماك كانت منذ 30 سنة موجودة بكثرة في هذه المياه. أما الآن، فهم لا يجرؤون على اطعامها حتى للأبقار، لانها ستنفق على الفور. ورووا ان أحد وزراء النظام السابق أراد تشييد مزرعة لتربية الدواجن في المنطقة، لكن الخبراء أكدوا له أن الدواجن ستنفق لا محالة بسبب كثافة التلوث.ويتعرض المواطنون، ولا سيما الأطفال والنساء والشيوخ، للإسهال والتقيؤ وتيبس الأنسجة والحساسية والحكة الجلديةوغير ذلك. وتغطي أسراب الذباب وجوههم فور خروجهم من منازلهم.وتنتشر الأمراض المعدية والسارية، وخاصة أوبئة الزحار الأميبي والكوليرا والتهابات الكبد الوبائي الفيروسيوذات السحايا وذات الرئة.
المشاكل البيئية في العراق كثيرة ووخيمة، تستلزم معالجتها توفير الأموال والعمل الجاد.أما الوعود فلا تغني ولا تسمن.والى أن يتحقق المطلوب، سيبقى العراقيون يتنفسون الهواء الملوث، ويشربون المياه الملوثة، ويتناولون الأطعمة الملوثة، ويتحملون الروائح النتنة، خصوصاً في الصيف عندما ينخفض مستوى الأنهار.وسيبقى المزارعون يروون محاصيلهم،من خضر وحبوب وثمار، بمياه الأنهار الملوثة، لبيعها في الاسواق.
وسيبقى العراقيون، لأجيال، ضحايا السرطان والتشوهات الولادية وتشكيلة رهيبة من الأمراض المستجدة نتيجة التلوث الكيميائي والاشعاعي.
فأي عاقل يقتنع بأن وخامة المشاكل البيئية القائمة ستعالج بهذا المبلغ التافه ـ مليون دولار! ـ وأن من قرر هذا المبلغ "حريص" على إيجاد حلول جدية للكارثة البيئة في العراق؟
الدكتور كاظم المقدادي طبيب وباحث عراقي مقيم في السويد
وزير البيئة العراقي صديق كريم:
سنعالج مشكلة اليورانيوم المستنفد
بغداد ـ عماد خياط
في حديث الى برنامج "بيتنا العالم" الذي يقدمه راديو مونت كارلو بالاشتراك مع مجلة "البيئة والتنمية"، أكد وزير البيئة العراقي المهندس عبدالرحيم صديق كريم أن حكومته تأخذ مسألة اليورانيوم المستنفد جدياً، وتعمل على تنظيف المواقع المضروبة. كما كشف عن أن العراق سيوقع قريباً على الاتفاقات البيئية الدولية، كمدخل للانخراط في العمل البيئي العالمي.
· يلاحظ زائر بغداد وغيرها من المدن العراقية نوعاً من الغبار والروائح، مما يسبب الانزعاج ويسيء إلى الصحة العامة. ما هي الأنشطة التي تقوم بها وزارة البيئة من أجل معالجة هذه الظواهر، خصوصاً في ظل الانبعاثات الناجمة عن عوادم السيارات التي تدفقت بمئات الآلاف إلى العراق خلال السنة الأخيرة؟
- الوزير كريم: العامل الأول لحماية البيئة هو سن التشريعات البيئية، والعامل الثاني وجود ذراع قوية لتطبيق القانون، وهو ما لا نستطيع توفيره إلا باستتباب الأمن. فلا أحد يهتم بالبيئة طواعية في ظل غياب الوعي البيئي طوال السنوات السابقة. وبالتالي، فنحن كوزارة استشارية استطعنا أن نعمل من خلال مجلس التعاون البيئي، بحيث نأخذ يومياً نماذج من الهواء والتربة في أماكن محددة، وعينات من مياه نهر دجلة، ونقوم بإبلاغ النتائج إلى الوزارات التنفيذية المهتمة بهذا الجانب. أحياناً نستطيع أن نصل إلى حل جيد، وأحياناً لا نستطيع الوصول إلى هذا الحل كما ترون في كثير من هذه المسائل. لكن مقارنة العراق بغيره من الدول التي لم تشهد حروباً هي مقارنة غير عادلة. الوضع البيئي في العراق يتحسن عما كنا عليه قبل سنة، ولكن طموحنا أكبر بكثير.
· كيف سيتم التعامل مع الخردة الموجودة ومخلفات الحرب، خصوصاً أنها تترك آثاراً سلبية على البيئة حالياً ومستقبلاً؟
- فاتحنا قوات الائتلاف في الخصوص، وقلنا ان مخلفات الحرب مضروبة بأسلحة ربما تنتج مواد مشعة قد لا تظهر أثارها الآن. وعقب هذا، قاموا بتحديد المواقع التي فيها نفايات من آليات وسيارات عسكرية عراقية مضروبة. وعن طريق برنامج محدد، سوف تقوم وزارة الخارجية العراقية بتنسيق مع دولة صديقة لرفع هذه الأنقاض ومعالجتها في دولة صديقة، لان العراق لم يوقع على اتفاقية بازل لنقل النفايات عبر الحدود. ولذلك نعمل مع مجلس التعاون البيئي على تشكيل لجان وطنية مع الوزارات المعنية لكي نوقع في حزيران (يونيو) المقبل، كحكومة ذات سيادة، على اتفاقيات دولية مختلفة. ان عدم توقيع العراق أدى إلى حرماننا من الإمكانات الدولية، خصوصاً بعد انسحاب هيئات الأمم المتحدة، بما فيها برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
· مع من تتعامل وزارة البيئة العراقية حالياً من المنظمات والهيئات الدولية، وهل من مشاريع مستقبلية تعدونها؟
- منظمة الصحة العالمية ساعدتنا منذ البداية، كما ساعدتنا الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). وهناك حالياً بحث مع وكالة حماية البيئة الأميركية لتقديم المساعدة. وقد زارنا وزير البيئة الإيطالي ووعدنا بمساعدة وزارة البيئة عملياً.
· كانت السلطات العراقية السابقة تتحدث عن تعرض العراق خلال الحرب التي عقبت تحرير الكويت لقصف بقنابل تتضمن اليورانيوم المستنفد. وقد أكدت هيئات علمية دولية مستقلة وجود مستويات مرتفعة للاشعاع في بعض المناطق. بعد انشاء وزارة البيئة، هل تقومون بإجراءات للتحقق من هذا الأمر؟
- نحن كوزارة البيئة نقول إن شعارنا الصراحة والشفافية. يجب ألا نخدع الناس، وعلينا اعلان الحقيقة. لدينا الآن مركز فعال للوقاية من التلوث الاشعاعي. ونحن نعلم أن اليورانيوم المستنفد استخدم في الأسلحة الفتاكة خلال الحرب الأخيرة وربما سابقاً، ولكن نحتاج الى التأكد من الحجم ومن مستوى هذه المواد المشعة، وبالتالي نحتاج إلى أجهزة قياس دقيقة. أجهزتنا الحالية قديمة جداً لا نستطيع أن نعوّل عليها. لو حصل خطأ في القراءة فقد يؤدي إلى كارثة، وإلى نوع من النزوح البيئي وتخلي الناس عن مناطقهم بسبب الخوف، وهذا ما لا نريده في هذه المرحلة. وبالتالي، عندما زرنا الولايات المتحدة واتصلنا بوكالة حماية البيئة وجامعة ستوني بروك، طلبنا منهم أجهزة لقياس مستويات اليورانيوم المستنفد. وأنا دخلت إلى المختبرات ورأيت الأجهزة، ونحن بانتظار وصولها للقيام بالمسوحات. وهناك أيضاً برنامج جديد للدعم البيئي عن طريق البنك الدولي نعول عليه كثيراً. نحن نحتاج إلى قاعدة معلومات بيئية، تكون نتيجة لمسح بيئي شامل ننتظر أن يساعدنا البنك الدولي على اجرائه.
أهوار العراق
عقود من الإهمال وعام تحت الاحتلال
وحيد محمد مفضّل
لآلاف السنين، كان "الهلال الخصيب"، تلك المنطقة الممتدة بين نهري دجلة والفرات والتي تمثل أهوار العراق جزءاً كبيراً منها، يمثل سلة الغذاء الرئيسية لجميع الشعوب المحيطة. وكان يشع نوراً وثقافة على العالم أجمع من خلال احدى أقدم الحضارات الإنسانية التى شهدت مولدها تلك الأرض المعطاءة.
والأهوار، بحسب ما جاء في "لسان العرب" و"القاموس المحيط"، هي جمع هور، وتعني بحيرات تغيض بالماء الوفير وتزدهر فيها النباتات المائية. ومن الناحية الجغرافية، تشغل أهوار العراق المثلث الواقع بين مدن العمارة في الشمال والبصرة في الجنوب والناصرية في الغرب. وفي هذا الإطار تقسم إلى أهوار شرقية (أهوار الهويزه) وتقع شرق دجلة، وأهوار وسطى تمتد من غرب دجلة حتى شمال الفرات، وأهوار جنوبية (أهوار الهمار) وتشغل جنوب الفرات وغرب شط العرب. أما من الناحية البيئية، فيمكن تصنيفها إلى أهوار دائمة تنتشر فيها نباتات البوص والقصب بكثافة، وأهوار موسمية يغطي البردي أقسامًا كبيرة منها، إلا أنها تجف في الخريف والشتاء، وأهوار موقتة يرتبط تواجدها بحدوث الفيضانات وارتفاع مستوى المياه في الأنهار.
الماضي الجميل والواقع المرير
اشتهرت أهوار العراق لفترة طويلة بمميزات بيئية فريدة قلما تجتمع في منطقة أخرى. فهي تعد من أبرز نطاقات الأراضي الرطبة، ليس فقط في منطقة غرب آسيا بل في العالم أجمع. وفي الماضي القريب كانت هذه المنطقة تزخر بكل أشكال التنوع والثراء البيولوجي، تميزها بيئة معيشية خصبة وموائل طبيعية زاخرة بالكائنات الحية من طيور نادرة وحيوانات برية ومائية فريدة ونباتات متنوعة. وأتاح ثراؤها الطبيعي وموقعها الجغرافي أن تكون استراحة أو نقطة عبور رئيسية لملايين الطيور المهاجرة من روسيا إلى جنوب أفريقيا. ثم إنها منطقة توالد لأنواع كثيرة من الأسماك المعروفة في الخليج العربي. وقد صنفها برنامج الأمم المتحدة للبيئة كأحد أهم مراكز التنوع الأحيائي في العالم.
وتشير الدلائل إلى أن المنطقة تقبع فوق ثروات نفطية هائلة لم تكتشف بعد، حتى ان البعض يعتبرها بئراً بترولية ضخمة تحت طبقة غضة من الماء والنبات. وإلى كل هذا، للمنطقة إرث تاريخي لا ينكر ، فعلى أرضها عاش عرب الأهوار أو ما يعرف بإنسان المعدان الذي يصنف بأنه من أقدم السلالات البشرية على وجه الأرض.
على هذا النحو، تضافرت للمنطقة في الماضي كل عوامل التميز والجاذبية، من خلفية حضارية رائدة ومصادر مياه وفيرة وصفات بيئية فريدة وثروات نفطية وطبيعية واعدة. لذا لم يكن غريباً أن يتغنى كثيرون بجمالها وثرائها إلى حد الإدعاء بأنها كانت في الماضي البعيد جنة عدن المفقودة.
ورغم كل هذا الثراء التاريخي والبيئي والاقتصادي، طالتها يد الإهمال وجار عليها الزمن نتيجة تضافر عدد من العوامل البشرية، ما أحالها خلال أقل من ثلاثة عقود إلى أرض بور مقفرة يندر فيها النبت والماء. وهذه خسارة بيئية عظيمة، ليس فقط لمنطقة غرب آسيا بل للعالم أجمع، وقد صنفها برنامج الأمم المتحدة للبيئة كاحدى أكبر الكوارث البيئية على مر التاريخ، ولا تقل في الحجم أو الفداحة عن كارثة جفاف بحر آرال أو تدهور غابات الأمازون.
التدهور البيئي للأهوار: الأسباب والتداعيات
لا يعني هذا في مجمله إلا أن الإنسان، بقصد أو بدونه، قد ارتكب جرماً بيئياً كبيراً يصعب محوه أو علاجه. أما الأسباب فيمكن إيجازها بالآتي:
بناء السدود وتغيير أنظمة التصريف السطحي: أقامت تركيا وسورية منذ أوائل الخمسينات، ومن بعدهما إيران والعراق، عدداً من السدود والخزانات على نهري دجلة والفرات، لا سيما بالقرب من المنبع، بغرض التحكم في سريان وكميات المياه الجارية في النهرين. ويقدر عدد السدود التي تم بناؤها خلال هذه الفترة بما لا يقل عن 60 سداً، في ما يعتبره البعض أكبر حركة بناء سدود عرفتها البشرية وبادرة غير مسبوقة لقدرة الإنسان على التحكم في طاقة الأنظمة النهرية. وللدلالة على مدى تأثير هذه السدود، كان معدل سريان المياه في نهر الفرات بين عامي 1938 و1973 يقدر بنحو 2600 متر مكعب في الثانية، فتدنى إلى أقل من 830 متراً مكعباً بين 1973 و1998 وهي الفترة التي تعرف بعصر السدود. ولم تقتصر عواقب بناء السدود على حجز المياه ومنع تدفقها عن منطقة الأهوار ، بل امتدت الى جوانب سلبية أخرى شملت تملح التربة وانخفاض جودة المياه وتغير طبيعتها وافتقارها، على قلتها، للطمي والعناصر الغذائية الأساسية التي كانت تعطي تربة الأهوار خصوبة كبيرة.
التجفيف المتعمد: في سبيل القضاء على ثورة عرب الأهوار، دهست قوات صدام مقدرات البيئة في المنطقة بغير رحمة. فدرجت على التهجير القسري للسكان، وحرق قراهم، وتغيير أنظمة التصريف في المنطقة بغرض حجب المياه عنها وتجفيفها من أجل تسهيل تعقب الفارين والثوار. وكانت مشاريع التنمية الزراعية غير المدروسة قد جففت مساحات كبيرة من الأهوار خلال السنوات الثلاثين الماضية، مما أخل بتوازنها الطبيعي. هذا التلاعب بالانظمة الطبيعية كان له أبلغ الأثر في الإضرار بثروات الأهوار وموائلها.
الحروب المتتالية: كانت منطقة الأهوار، مثل بقية أراضي العراق، مسرحاً للاقتتال والمعارك الطاحنة خلال عدة حروب بدءاً بالحرب العراقية ـ الإيرانية خلال الثمانينات، فحرب الخليج في بداية التسعينات، وأخيراً الحرب على العراق قبل سنة. ونالها تدمير مباشر من جراء القصف والتفجير ونثر الملوثات والنفايات.
تصريف النفايات والملوثات مباشرة في الأهوار: ساهمت العادات الخاطئة وأساليب الإدارة البيئية غير الرشيدة المتبعة في المنطقة، مثل تصريف المخلفات الآدمية والنفايات الصناعية والأسمدة الزراعية دون معالجة، في تفاقم الوضع نظراً للضغوط التي تسببها تلك الملوثات على النظام البيئي الهش للأهوار.
وكان نتيجة اجتماع كل هذه العوامل أن تراجعت الحالة البيئية لمنطقة الأهوار بشكل غير مسبوق. فمساحتها الإجمالية تقلصت إلى أقل من 1000 كيلومتر مربع، أي نحو90 في المئة من مساحتها الأصلية التي كانت عليها قبل ثلاثة عقود. كما تعرض أكثر من 40 نوعاً من طيورها وعدد غير محدود من أسماكها لخطر الانقراض، وانقرض منها فعلاً ما لا يقل عن سبعة أنواع. وأمتد هذا التدهور إلى قطاعات أخرى حيوية، فقد تأثرت الزراعة عموماً، وانخفضت جودة المياه، مما حدا بأعداد غفيرة من عرب الأهوار لهجر منازلهم بحثاً عن مناطق أخرى طلباً للرزق والاستقرار. وإذا أضفنا هذه الأعداد الى عشرات الآلاف الأخرى التي هجرها النظام البائد في أوائل التسعينات، فلا عجب أن ينخفض عدد عرب الأهوار إلى أقل من 40 ألف شخص بعد أن كان تعدادهم يربو على 300 ألف منذ أقل من ربع قرن.
اضافة إلى هذا فإن دلتا شط العرب، التي تمثل حوض مصب نهري دجلة والفرات على الخليج العربي، بدأت تعاني هي الأخرى من نحر وتأكل واضحين في شواطئها، وهي التي كانت تمتد في ازدهار وثراء بفضل القسط الوفير الذي كانت تناله من الطمي والغرين الوافدين بكميات هائلة مع مياه النهرين.
كان من الطبيعي أن تتأثر اقتصاديات منطقة الأهوار ومصادر الدخل فيها بشكل كبير، مما أثر على تكوينها الاجتماعي والثقافي نتيجة الهجرات الجماعية التي شهدتها كمحصلة مباشرة لاجتماع كل هذه العوامل.
الأهوار تحت الاحتلال
رغم التحسن النسبي للظروف والعوامل الطبيعية السائدة في المنطقة، وبخاصة في ما يتعلق بنسبة تساقط الأمطار وتحسن نظام التصريف المائي، ورغم تزايد وعود قوات التحالف بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً للأهوار وللعراق عموماً، يمكن القول إن الأهوار تعيش حالياً فترة صعبة لا تقل سوءاً عن أحوالها خلال العقود الفائتة. فقد أتت آلة الحرب الغربية على البقية الباقية منها حين دمرت شبكات المياه والصرف الصحي ومحطات الكهرباء في أنحاء العراق.
ساهم هذا في تزايد الضغوط والأعباء على ثروات الأهوار ومصادر تميزها البيئي، نتيجة اختلاط مياه الشرب النقية بمياه الصرف الملوثة وتعطل ماكينات الري ورفع المياه مع تدفق اللاجئين وشراذم العائلات المشردة والفلول الهاربة الى المنطقة. وقد أدى هذا إلى ازدياد معدلات قطع الأشجار والنباتات فيها، وكذلك ازدياد كميات المخلفات الآدمية المصرَّفة في مسطحاتها المائية الضحلة والعميقة، بالإضافة إلى استنزاف مصادرها المائية لتعويض النقص في مياه الشرب والري.
وإذا أضفنا إلى هذا التداعيات الناتجة من العمليات العسكرية والاحتلال، مثل تسرب كميات هائلة من السموم والأدخنة والغازات السامة الى الأنظمة البيئية المختلفة في العراق، ومنها الأهوار، جراء قصف مصانع الأدوية والورق والأسمدة والكيماويات وغيرها، وما في ذلك من آثار أخرى مثل تلوث الهواء وتساقط أمطار حمضية، وإذا أضفنا توابع استخدام أسلحة مدمرة ومحرمة من نوعية اليوارنيوم المستنفد وغيرها مما خفي، وباعتبار حجم النفايات المتخلفة عن قوات التحالف، يمكن تبين فداحة الضرر الذي أصاب الأهوار خلال العام المنقضي.
ورغم الوعود البراقة والشعارات الرنانة للإدارة الأميركية وحلفائها، من أمثلة "عراق جديد" و"مستقبل أفضل"، فالظاهر أنه ليس لها اهتمامات حقيقية بأهوار العراق، اللهم إلا السيطرة على الثروات النفطية الواعدة لهذه المنطقة. وقد بدأت تتواتر أنباء عن منح عقود طائلة لشركات أميركية وبريطانية عاملة في مجال التنقيب عن البترول، في ما يعد تدشيناً لحملة انقضاض على تلك الثروات متسترة ببوادر "طيبة" تجاه بيئة الأهوار.
إصحاح بيئة الأهوار: الآمال والتحديات
كان من الطبيعي بعد سقوط نظام صدام وإطلاق الوعود البراقة بنشر الديموقراطية وبناء "العراق الجديد"، أن تتعالى النداءات المطالبة بإصحاح بيئة الأهوار. وقد حدا هذا ببعض المنظمات الأهلية والهيئات الدولية وأساتذة الجامعات والمتخصصين من المهتمين ببيئة الأهوار لأخذ المبادرة والإعلان عن جملة أفكار ومشاريع بحثية وتنموية لإعادة تأهيل المنطقة وإحياء صورتها المجيدة القديمة.
غير أن هذه الطموحات ما زالت حالمة للغاية مقارنة بالتحديات والصعوبات السياسية والعلمية والاجتماعية الجمة التي تكتنف المشهد العراقي حالياً. وفي ظل تواصل العمليات العسكرية يصعب على أي فريق علمي أو بحثي المغامرة والذهاب حالياً لدراسة مستنقعات الأهوار.
وبالنظر الى الاعتبارات الاجتماعية، بديهي أن أحداً من سكان الأهوار المشتتين في جميع أنحاء العراق لن يقبل العودة الى الهويزه أو غيرها في ظل عدم استقرار الوضع السياسي فيها وافتقارها لأبسط الإمكانيات والمرافق الأساسية والأمان. أما من الناحية العلمية والعملية، فالعارفون بمشاكل منطقة الأهوار البيئية يعلمون جيداً مدى صعوبة مهمة الإصحاح البيئي لتلك المنطقة. وفي هذا الصدد، لم تتجاوز أقصى أحلام المتفائلين إعادة تأهيل ثلث المساحة الإجمالية للأهوار في أحسن الأحوال.
والواقع أن إصحاح بيئة الأهوار لا يرتبط بمجرد توافر الدعم والإرادة والمال بقدر ما يرتبط بحقائق علمية وعوامل طبيعية لا يمكن التحكم فيها، وتشمل في ما تشمل عامل الوقت وتأثير المناخ والعوامل الهيدروديناميكية ومشاكل التربة البائرة والمتغيرات الطبيعية الأخرى. وهذا يدعو الى التشكيك في أن التصريحات المتتالية عن إحياء الأهوار وتحويلها إلى "جنة عدن الجديدة" لا تخرج عن كونها وعوداً مبالغاً فيها تهدف إلى تجميل وجه المحتل أكثر مما تهدف إلى تحسين بيئة الأهوار. ورغم مرور سنة كاملة على الاحتلال، لم تعلن أي برامج علمية حقيقية وخطط إدارة رشيدة لموائل الأهوار وثرواتها المتهالكة. وكل ما اتخذ في هذا الشأن اجتهادات متفرقة لمهاجرين عراقيين يحدوهم الأمل في استعادة ذكريات الماضي الجميل.
وقد يكون من حسن حظ هؤلاء، أو من حسن طالع إدارة الاحتلال، تحسن الظروف الطبيعية في منطقة الأهوار خلال الفترة الماضية. فقد تساقطت أخيراً، وعلى غير عادة، كميات هائلة من الثلوج في الشمال، كما دمر السكان بعد الحرب عدداً من السدود التي بناها النظام السابق لمنع تدفق المياه الى الأهوار. وساهم كل هذا في حدوث تحسن نسبي في الحالة البيئية، وهو ما أكدته الصور الفضائية الملتقطة حديثاً بواسطة أقمار وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، حيث تبين أن نسبة المساحة التي كانت مغمورة بالمياه في تلك المنطقة ازدادت مؤخراً إلى أكثر من 30 في المئة بعد أن كانت لا تزيد عن 10 في المئة منذ فترة وجيزة. وعلى أي حال، الأيام وحدها كفيلة ببيان صدق الوعود الأميركية بهذا الخصوص، وببيان الموقع الحقيقي لبيئة الأهوار في فكر ومنظور إدارة الاحتلال.
الدكتور وحيد محمد مفضّل باحث في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد في الاسكندرية، مصر.