محمد السارجي
السلاحف البحرية هي مجموعة من الزواحف الكبيرة التي استطاعت مواصلة الحياة عبر ملايين السنين. ويعيش في المياه اللبنانية نوعان هما السلحفاة الخضراء (Chelonia Mydas) والسلحفاة ذات الرأس الضخم (Caretta caretta).وفي بعض الاحيان نكتشف وجود سلاحف ضخمة من ذواتالظهر الجلدي(Dermochelys coriacea) والتي تدخل البحر المتوسط خطأ من المحيط الاطلسي عبر مضيق جبل طارق، ولكن لا دليل يثبت حتى الآن أنها تضع بيوضها تحت رمال الشؤاطئ المتوسطية. وفي العام الماضي ظهرت سلحفاتان من نوع جديد مقابل نهر القاسمية في الجنوب،أظهرت الدراسات الاولية أنهما ينتميان الى نوع من السلاحف النهرية التي تعيش في مياه النيل العذبة. وقد أرسلنا احداهما الى المتحف البحري في صور بهدف العرض وإجراء الدراسات العلمية.
قبل سنوات الحرب الاهلية اللبنانية تكاثرت السلاحف البحرية في بحرنا المتوسطي ووضعت بيوضها تحت رمال الشواطئ اللبنانية التي كانت ما تزال عذراء. ومعظم الاطفال الذين عاشوا قرب الشواطئ آنذآك يحتفظونبذكريات حميمة عن الايام التي كانت تخرج فيها صغار السلاحف من تحت الرمال بالمئات، بل بالالوف. لكن خلال سنوات الحرب عانت السلحفاة البحرية من عبث الناس والصيد بالمتفجرات. وكان بعض الصيادين يتنافسون على تفجير السلاحف، خاصة خلال موسم التزاوج حيث تكثر علىسطح مياه البحر وعلى مقربة من الشاطئ.
وفي العام 1998، عندما منع الصيد بالمتفجرات عملياً، ظهرت أول سلحفاة بحرية ووثقت بالصور الفوتوغرافية.وناشدت نقابة الغواصين المحترفين في لبنان وزارة الزراعة حمايتها. وسارع الوزير آنذاك شوقي فاخوري الى اصدار قرار يمنع بموجبه منعاً باتاً صيد السلحفاة البحرية على طول الشاطئ اللبناني. وفي 1999 صدر قرار يمنع صيد أو بيع أو شراء السلاحف البحرية أو مشتقاتها.
اليوم تعود السلحفاة البحرية لتثبت مكانتها ضمن النظام البيولوجي الغني بتنوعه في بحرنا، رغم العديد من العقبات التي ما زالت تهدد وجودها. ومنذ شهر أيار (مايو) بدأت السلاحف بالاقتراب الى الشواطئ الرملية لمعاينتها. وفي الفترة الممتدة ما بين 20 أيار (مايو) حتى أواخر حزيران (يونيو) تضع بيوضها في أعشاش تحت الرمل تحفرها بعمق يتراوح بين 40 و80 سنتيمتراً، ثم تقوم بتمويهها وتضييع معالمها جيداً. وقد تضع السلحفاة بيوضها مرتين أو ثلاث مرات خلال الموسم الواحد،وقد لا تضع شيئاً خلال سنوات. ومن الطبيعي أن تضع السلحفاة ما بين 80 و120 بيضة في العش الواحد.
من أهم الاخطار التي تواجه البيض في هذه المرحلة سرقته بهدف البيع أو الاستهلاك الشخصي. لكن الخطر الأعظم يأتي قبيل خروج صغار السلاحف من البيض، حيث تشغّل الكلاب البرية حاسة شمّها القوية لديها موقع الاعشاش بدقة لا مثيل لها،وتحفرها لالتهام صغار السلاحف قبل أيام معدودة من خروجها من تحت الرمل. ومن خلال تجربة قام بها فريق من نقابة الغواصين المحترفين في لبنان السنة الفائتة على شواطئ الزهراني في الجنوب، تبين أن هذه الكلاب مسؤولة عن الفتك بأكثر من 50 في المئة من الأعشاش الموجودة على الشاطئ. لذا من الضروري حمايتها في السنوات المقبلة بوضع شريط حديدي مشبك فوق كل عش لكي يصدّ الكلب عند محاولته حفر العش.
تخرج صغار السلاحف من تحت الرمل بعد انقضاء مدة حضن البيوض التي تتجاوز 50 يوماً. وعندئذ تواجه عدة عقبات تعيق وصولها الى البحر، وأحياناً تشكل حاجز موت، مثل النفايات الصلبة وبقايا القصب الذي يستعمله رواد الشاطئ، وبقايا الحرائق التي تشعل في ساعات الليل للسهر والطبخ، وحتى الحفر التي تخلفها أقدامالمتنزهين على الشاطئ. وهناك بعض الاعداء الطبيعيين مثل سلطعون البحر والكلاب البرية. واذا صادف وجود أشخاص على الشاطئ أثناء خروج صغار السلاحف، فقد تؤخذ للبيع في محلات الحيوانات أو للتربية في الاكواريم أو البيت، وهذا يؤدي بالطبع الى موتهاالسريع.
من الضروري أن نحمي أعشاش السلاحف، ومن ثم نساعد صغارها للوصول الى بيئتها الطبيعية، وذلك لمدة زمنية محدودة ريثما تستعيد السلحفاة مركزها الطبيعي ضمن ميزان التنوع البيولوجي البحري. ولا شك في أن التدخل السلبي والاجرامي احياناً في بيئة السلحفاة، والذي مارسه الانسان عبر عشرات السنين،أدى الى شبه انقراضها من بحرنا المتوسطي.
ولا ننسَ أننا اذا اردنا أن يكون هناك وجود للسلحفاة البحرية في بحرنا فعلينا حماية الشواطئ الرملية، التي بدونها لا يبقى مكان لتضع فيه بيوضها، فتضطر الى هجرة بحرنا أو الانتظار حتى تعلق في شباك الصيادين لتختنق وتموت حتى تنقرض كلياً.
من المؤسف أن ينقرض هذا الحيوان، الذي استطاع مواصلة الحياة لعشرات ملايين السنين، نتيجة جشع الانسان وعبثه وإهماله.
محمد السارجي نقيب الغواصين المحترفين في لبنان.
|