إلى جانب التمسّك بأرفع معايير الأداء البيئي، كان على رودي أويتنهاك، المهندس الهولندي الحائز على جائزة الاستدامة، والشريك الأردني «المستشارون المتّحدون»، تجاوز عدة تحدّيات شاقّة. أهمها تضمين التصميم الجديد الإبقاء على فيلا قديمة قائمة في الموقع، وتدابير الحماية من مخاطر الزلازل، ومستويات عالية من العزل، والتظليل، واحتياطات السلامة التشغيليّة.
شملت الإجراءات البيئية في التصميم مستويات عالية في كفاءة الطاقة، والحفاظ على الماء وإعادة تدويره، واختيار المواد بدقّة. كما روعي التزوّد بجميع المنتجات ومواد البناء من السوق المحليّة إلى أقصى حدّ ممكن. وأخذ التصميم المعماري بعين الاعتبار تخفيض أحمال التدفئة والتبريد، وجعْل ضوء النهار مصدر الإنارة الأساسي في منطقة المكاتب. ولكن تبيّن خلال أعمال الإنشاء أنّ التخلّص من تسرّب الحرارة أمر في غاية الصعوبة.
كان أوّل مظاهر الاستدامة في عملية البناء إعادة استخدام الفيلا الموجودة في موقع السفارة الجديد. ولأجل توفير مساحات كافية لحاجات السفارة، تُوِّجت الفيلا القديمة بطابق إضافي أوسع من الطابق الأرضي القائم، ممّا وفّر التظليل لواجهة المبنى الجنوبيّة.
وتبيّن بنتيجة التحليل الإنشائي، وفقاً لأنظمة البناء المتعلقة بمقاومة الزلازل في الأردن، أنّ قدرة الفيلا على تحمّل الطابق الإضافي هي دون المستوى المطلوب. ولذا كانت ثمّة حاجة إلى تدعيمها بوضع أعمدة إضافية، ما أوجد واجهة أماميّة جميلة في هيئة صفّ أعمدة عصرية مكسوّة بالحجر. ولعلّ في ذلك انعكاساً للتراث الأردني المعماري العريق، الذي يجمع تقاليد اليونان والرومان والأنباط. كما تمثل هذه الواجهة حسن الضيافة الذي هو أيضاً من مزايا المجتمع الأردني. يُضاف إلى ذلك أنّ هذه الأعمدة تؤمن ظلاً أمام واجهة المبنى.
سطح المبنى مغطّى بمظلاّت شمسيّة من القماش، في إشارة إلى خيام البدو التقليدية في الأردن، وكذلك إلى التراث الهولندي إذ تشبه أشرعة السفن المواجهة للريح. وهي في كلتا الحالتين تدمج بين الثقافتين وتفيد عملياً في الاقتصاد بالطاقة. أما من الناحية الجماليّة، فـإنّ خفّتها ورقّتها تلطّف من وطأة الحجر. ويُشار إلى أنّ هذا التظليل في واجهة المبنى وجانبيه وفي السطح يخفّض إلى حدّ كبير الكسب الحراري المباشر من الشمس في صيف عمّان الحارّ. كما صممت المظلاّت بحيث تسمح للشمس بتدفئة داخل المبنى خلال فصل الشتاء البارد، حين تكون الشمس على ارتفاع منخفض، وذلك يخّفض مقداراً كبيراً من استهلاك الطاقة للتدفئة. وبفضل هذا التظليل أصبحت واجهة الطابق الجديد شبه شفّافة. أمّا المكاتب فتتميّز بنوافذ واسعة تتيح مجالاً للرؤية الواضحة ودخول ضوء النهار، ما يزيد في تقليص الحاجة إلى الإنارة الاصطناعية.
وبغية إدخال ضوء النهار إلى قلب المبنى، تمّ تجويف وسط الفيلا، فأصبحت القاعة الوسطى الناتجة تصل بين الطابق القديم والطابق الجديد، مع وفــرة في الضـوء الذي يخترق كوّة السقف (المنور). وبالإمكـان فتح الكوّة في الأيام الحارّة لإطلاق الحرارة الزائدة، ما يساهم في تهوئة المبنى بشكل طبيعي. وهذا الصحن أو الفناء الداخلي ليس معلماً جديداً، بل هو موجود في البيوت العربيّة التقليديّة. وهكذا نجح المهندس المعماري لمبنى السفارة الهولنديّة في الدمج بين المفاهيم التراثيّة والتصاميم والوظائف الحديثة.
ويستلهم نظام البناء أساليب المباني الأردنيّة التقليديّة، حيث إنّ الواجهة مغطّاة بالحجر الجيري الملكي الأبيض للمحافظة على التناغم بين المبنى القديم والبنـاء الذي أضيف إليه، في حين تعتمد أناقة رصف الحجارة على دقّة الصناعـة والبراعة اللتين تميّزان هندسة رودي أويتنهاك. وتسمح التركيبات الميكانيكيّة بإعادة استخدام الأحجار بعد انتهاء الحاجة إلى المبنى، وهذا مفهوم جديد بالنسبة إلى المقاول الأردني.
تكييف الهواء
لاستيعاب الأنابيب والأسلاك الملتفّة الخاصّة بنظام التدفئة والتهوئة والتبريد، تُرك فراغ بين الإنشاء القديم والأرضيّة المرتفعة «المعلقة» للطابق الجديد، ممّا أتاح المجال لاستخدام التهوئة الليليّة. وقد جُهِّزت واجهة هذا الحيِّز «المتوسّط» بفتحات شبكيّة تسمح بمرور نسيم الليل المعتدل لإخراج الكسب الحراري الناشئ في النهار، وفي الوقت عينه تخفيض حمل التبريد.
وجاء تصميم نظام التدفئة والتهوئة والتبريد خطوة أخيرة في تخفيض الطاقة اللازمة للمبنى. فقد وُضعت الألواح الشمسيّة لنظام تسخين المـاء على سقيفة مواقف السيارات الجانبيّة، لتوفير المياه الساخنة للمبنى في فصل الشتاء. وغُطّيت بركة السباحة القديمة وحُوِّلت إلى «بالوعة حراريّة» تحت الأرض لتخزين طاقة التسخين أو التبريد. ونُقلت مضخّة الحرارة التي كانت في مبنى السفارة السابق إلى المبنى الجديد واستُخدمت لتبريد المياه خلال الليل، حيث يتمّ تخزين هذه المياه في البركة لاستخدامها نهـاراً. ويُستخدم خلال النهار نظام تهوئة يتميّز بالقدرة على استرجاع الطاقة، وذلك للتوفير في استهلاك الطاقة وضمان جوّ داخلي مريح في المبنى.
كهرباء شمسية واقتصاد مائي
رُكّبت على السطح ألواح فوتوفولطية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، وهي تؤمّن نحو 12 في المئة من جميع احتياجات الكهرباء في المبنى وتكفي لتشغيل أجهزة الكومبيوتر، كما توفّر ظلاً للسطح. وقد روعيت متطلّبات الاستدامة في المراحل كـافـة، وصولاً إلى اختيار المفروشات، إذ زَوّدت شركة «جيسبن» الهولنديّة المبنى بالأثاث المعتمد وفق نظام الإدارة ومراجعة الحسابات الإيكولوجية (EMAS) وهو نظام مقاييس بيئيّة وضعه الاتحاد الأوروبي.
ونظراً لأنّ الأردن من أكثر بلدان العالم معاناةً من ندرة المياه، أُعطيت أهمية قصوى للمحافظة على المياه. ويعكس المبنى هذا التوجّه بالذات، إذ إنه بالمقارنة مع أي مبنى مصمّم بالطرق التقليدية، يخفّض 32 في المئة من استخدام المياه الصالحة للشرب نتيجة اعتماد تركيبات عالية الكفاءة في استخدام الماء. أضف إلى ذلك أنّ ريّ الحديقة يكاد لا يستنفد شيئاً من مياه الشرب (4٪ فقط من الاستهلاك الأدنى). ويتمّ تجميع مياه الأمطار في الموقع بمعدّل 48 في المئة لتُستخدم في الريّ. وقد جرى اختيار نباتات محليّة لا تحتاج إلى ري كثيـر، وأُبقيت الأشجار القديمة في مواقعها حيث أمكن.
بصورة عامة، فإنّ مبنى السفارة الهولندية في عمّان هو مرفق جديد بديع يتميّز بمساحة واسعة للمكاتب ويزدان بهندسة معمارية لافتة. وبفضل مراعاة مقاييس الاستدامة المتوازنة، كان أوّل مبنى في الأردن يُمنح شهادة القيادة في مجال الطاقة والتصميم البيئي (LEED).