Thursday 18 Apr 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
 
مقالات
 
نجيب صعب خيارات بيئية للبنان  
تموز-آب (يوليو-اوغسطس) 2004 / عدد 76-77
 أزمة البيئة في لبنان هي أزمة سياسة ونظام. فالتركيبة السياسية القائمة على تقاسم المغانم تشجع على التعامل مع الموارد والثروات العامة لا كملك وطني مشترك، بل كبقرة حلوب يتقاسمها النافذون باسم الطوائف والمناطق. وفي متابعة قضايا المقالع والكسارات والمازوت ومكبات النفايات أمثلة عن خلط العام بالخاص وتغليب الشأن المذهبي والمناطقي على المصلحة المشتركة.
النفايات
ما تزال معالجة النفايات قائمة ضمن برامج الطوارئ. وليس لدينا بعد خطة وطنية للنفايات. وما يزال معظم المليون ونصف المليون طن من النفايات التي ينتجها لبنان سنوياً يرمى في الطبيعة وعلى الشواطئ وفي مكبات عشوائية. وقد بقي الملف لسنوات في أيدي هواة يفتقرون الى الخبرة، فتحكم المقاولون في خطط الطوارئ لجني أكبر قدر من الربح في أسرع وقت. ولم يتطرق أي برنامج تم طرحه إلى الادارة المتكاملة للنفايات، من الانتاج فالنقل فالمعالجة، لتقليل الكمية من الأساس واعتماد خيارات معالجة متعددة وفق المنطقة وحجم نفاياتها ونوعيتها. الكوارث والأزمات التي نشهدها اليوم في ملف النفايات الصلبة ليست مفاجأة. المشكلة كانت في أساس البرامج التي قامت على معطيات ومبادئ مغلوطة، وكانت في هذا تحمل بذور فشلها. والذين يحتجون اليوم على مطمر النفايات في الناعمة، مثلاً، هم الذين كانوا أشد المتحمسين لاقامته. وبعد صرف الملايين على الدراسات والنقاشات، لا يوجد حتى اليوم برنامج لمعالجة النفايات الطبية قابل للتطبيق.
تلوث الهواء
في مسألة تلوث الهواء من السيارات، من المفيد أنه تم منع محركات المازوت القديمة. لكن هل حُلّت المشكلة؟ وهل تم فعلاً توقيف كل السيارات العاملة على المازوت؟ ما هي مواصفات البنزين المستعمل الآن؟ ما هو البديل للمحركات المصنوعة أساساً لاستخدام البنزين مع رصاص، وهي تحتاج إلى مادة مضافة، كبديل للرصاص، لتجنب التعطيل. وهذا البديل مفروض ليس فقط في أوروبا، بل حتى في دول مجاورة مثل مصر، منذ تحولت إلى البنزين بلا رصاص. وهناك أكثر من خيار للمادة المضافة البديلة للرصاص، لكل منها حسناته ومضاره البيئية. فأين المواصفات والمعايير التي تحدد هذه المسألة في لبنان؟ وأين الجدية في إعادة العمل بنظام المعاينة الميكانيكية بشكل جدي وحازم؟
وبالعودة إلى المازوت، هل تمت دراسة المسألة بعناية؟ الجواب هو، بالتأكيد، لا، لأن الحقائق لا التخمينات تثبت ان محركات المازوت الحديثة، مع الصيانة الجيدة ونوع المازوت الصالح، أقل تلويثاً للهواء في كثير من النواحي. نحو 40 في المئة من السيارات الجديدة في أوروبا تعمل على المازوت. والنسبة تصل إلى 60 في المئة في فرنسا و70 في المئة في النمسا. هل تساءلنا لماذا؟ ومن نصح بالتدابير الاعتباطية؟ محركات المازوت التي رُكّبت على سيارات الاجرة كان لا بد من سحبها، لأنها من فضلات المحركات القديمة الملوثة الممنوعة في بلد المنشأ. وتم تصديرها الى لبنان كنفايات معدنية، وهي ملوّثة بغض النظر عن نوع المازوت المستعمل فيها، أكان أحمر أم أسود أم أخضر! لكن الحافلات مسألة أخرى، اذ تم استيرادها أساساً مع محركات تعمل على المازوت. ألم يكن من الأفضل والأوفر فرض المواصفات السليمة والرقابة على حافلات المازوت بدل دفع عشرات الملايين كتعويضات مقابل منعها؟ وأين الدراسات العلمية التي تبين لنا نوعية الهواء قبل المنع وبعده؟ ما هي، مثلاً، نسبة الرصاص في دم الأطفال قبل المنع وبعده، وما هي نسبة الأوزون الأرضي في الهواء الذي نتنشقه؟ بينما تشير الأبحاث إلى أنها أضعاف المسموح به، مما يشكل خطراً على الصحة، ينصبّ الاهتمام على معالجة ثقب الأوزون في الأجواء الخارجية، كما جاء في ملصق وإعلان كبير نشرته الوزارة منذ شهور بعنوان: "كلنا أصدقاء للأوزون". أي أوزون؟ وقد أظهر فحص أجراه فريق بحثي من الجامعة الأميركية في بيروت أن كثافة غاز الأوزون الضار بلغت 400 ميكروغرام في المتر المكعب كحد أدنى في بيروت، بينما يعتبر تجاوزها 300 ميكروغرام مؤشراً خطراً. سبب آخر لضرورة وجود المؤسسة الوطنية للبيئة: لتصحِّح المفاهيم وتضع المعايير، فلا نبقى في الشعارات الإنشائية.
وأين البرنامج المتكامل للنقل العام الذي وحده يؤمن تخفيفاً فعلياً للازدحام ويلجم التلوث من السيارات؟ هذا الأمر أكدته دراسة أجريت عام 2003 لمصلحة وزارة البيئة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي. وكالعادة، انتهت على أحد الرفوف في مكتب ما.
التلويث الصناعي
أظهر تقرير "وضع البيئة في لبنان"، الذي أصدرته وزارة البيئة سنة 2001 بالتعاون مع الأمم المتحدة، وجود نحو 22,000 مؤسسة صناعية في لبنان، نصفها في بيروت، و90 في المئة منها منشآت صغيرة يعمل فيها أقل من عشرة أشخاص. ومن المتوقع أن تنتج المصانع 191,623 متراً مكعباً من النفايات السائلة سنوياً، سيصل 90 في المئة منها الى شبكة مياه الصرف العادية، فتلوث المياه الجوفية والبحر، في غياب حلول جدية للمعالجة. وتساهم الصناعة بنحو 75 في المئة من انبعاثات المواد العضوية السامة، في ما عدا غاز الميثان، بينما ينتج عنها اليوم نحو 200,000 طن من النفايات الصلبة سنوياً، يقدر أنها تحتوي 3,350 طناً من النفايات الخطرة، ينتهي معظمها في مكبات النفايات المنزلية.
في مجال الفلتان الصناعي، تم التغاضي عن التلويث المزمن من مصانع شكا وسلعاتا، وصدرت شهادات حسن السلوك من الوزارة المعنية، التي أكدت سلامة الانبعاثات، بينما الشواطئ وهواء القرى المحيطة مشبعة بالسموم التي تبثها. وقد أظهرت دراسة لمستويات تلوث الهواء في منطقة شكا والقرى المحيطة بها، أجراها فريق من الجامعة اللبنانية الأميركية طوال عام 2003 ونشرت نتائجها في مطلع 2004، أن جزيئات الغبار تصل إلى ما بين 250 و450 ميكروغراماً في المتر المكعب، بينما الحد الأعلى اليومي المقبول عالمياً لا يتجاوز 150 ميكروغراماً، والمعدل السنوي المقبول لا يتجاوز 60 ميكروغراماً في المتر المكعب. وبينت الدراسة أن مستويات أوكسيدات الكبريت تتجاوز في مواقع عدة الحدود العليا المسموحة بما بين 10 أضعاف و20 ضعفاً، في حين وصلت مستويات أوكسيدات النيتروجين في حالات كثيرة إلى آلاف الأضعاف عما هو مسموح به، وذلك في القرى المحيطة وليس حول المصانع فقط. فمن يحاسب على التفاوت الهائل بين مستويات التلوث التي أصدرتها المصانع نفسها وأيدتها هيئات رسمية، وتلك التي أظهرتها دراسات أجراها باحثون جامعيون مستقلون، وبيّنت أضعاف مستويات التلوث؟
على الرغم من كل المؤتمرات والبرامج، لا يزال هواؤنا ملوثاً من الصناعات وتوليد الطاقة ووسائل النقل. وتبلغ نسب التلوث بأوكسيدات الكربون والكبريت والأوزون والغبار أضعاف المسموح به عالمياً. ويخسر لبنان 170 مليون دولار كل سنة أضراراً صحية ناجمة عن تلوث الهواء. وبينما لا توجد محطات ثابتة لقياس الهواء، تربض في مستودعات كلية الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت عشرات الأجهزة الحديثة الجاهزة للاستعمال، إضافة إلى محطة نقالة مجهزة بآلات كومبيوتر متطورة لقياس تلوث الهواء، لم يستعمل أي منها لعدم الاتفاق على آلية مناسبة مع وزارة البيئة، فضلاً عن الافتقار الى ميزانية للتشغيل، بعدما حصلت الجامعة على المعدات كهبة.
هدر المياه
في حين يعاني اللبنانيون نقصاً في كمية المياه المتوفرة للاستعمال وتدهوراً في نوعيتها، بسبب سوء ادارة الموارد المائية، يتم هدر أكثر من نصف الـ2600 مليون متر مكعب من المياه السطحية والجوفية التي يمكن استغلالها. ناهيك عن تلويث المياه العذبة بمجاري المياه المبتذلة، وآبار التصريف التي تحفرها البيوت والمؤسسات والمستشفيات أيضاً، فتختلط مياه المجارير بمياه الشرب. وما تزال تربض أمام مبنى وزارة البيئة منذ سنوات محطة سيارة لقياس تلوث المياه، حصلت عليها الوزارة كهبة فرنسية، لكنها لم تستخدمها ولا مرة واحدة.
تراجع الغابات والزراعة
رغم الكلام عن برامج التشجير والمحميات، فقد انخفضت الغابات الى نحو 7 في المئة من مساحة لبنان، بسبب التنمية العشوائية والحرائق وقطع الغابات والمقالع، بعدما كانت قبل 25 سنة تغطي 20 في المئة منه. وكانت آخر بدعة تلزيم التشجير إلى شركات خاصة. فمن يتولى الصيانة والمراقبة والعناية، وأين دور البلديات؟
وقد أدى ضعف التنمية الريفية، والجفاف بسبب هدر المياه، وتقصير برامج الدعم والتوجيه، إلى إهمال نحو 40 في المئة من الأراضي اللبنانية الصالحة للزراعة، فانجرفت التربة وأصبحت الأرض صحراء قاحلة. وأكد هذا الواقع تقرير "الخطة الوطنية لمكافحة التصحر" الذي صدر في حزيران 2003، حين أشار الى أن 60 في المئة من الاراضي اللبنانية معرضة لخطر التصحر بدرجة مرتفعة. كما بين آخر تقرير عن استعمالات الاراضي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة عام 1999 أن مساحة الاراضي الزراعية انخفضت من 360,000 هكتار عام 1970 إلى أقل من 250,000 هكتار عام 1999. وأدى الاستخدام الكثيف للاسمدة والمبيدات الكيماوية بلا قيود جدية إلى تلويث التربة والمياه واختلال التوازن الطبيعي والتسبب بأمراض للمستهلكين.
فوضى التنظيم المديني
من أهم المعضلات التي تهدد سلامة البيئة ولا تلقى اهتماماً جدياً حتى اليوم مسألة تحديد استعمالات الأراضي (Zoning)، حيث أن نحو 90 في المئة من الاراضي ما برحت غير مصنفة. البلد يعامل كعقار كبير معروض للبيع، إذ يمكن، بتفسيرات واجتهادات قانونية وبعض الشطارة اللبنانية، استثمار أي جزء من شواطئه وغاباته، عن طريق توظيف نفوذ المال والسلطة والطائفة. وهنا لا نتكلم عن الجرود والمناطق النائية فقط. بعض المشاريع داخل بيروت أيضاً نموذج صارخ عن الإجرام البيئي، الذي يشارك في ارتكابه المستثمرون والقانون والدوائر التي تسمح بهذا التشويه. فقد تم بناء مجمع تجاري من 120 ألف متر مربع، على أرض في الأشرفية يملكها وقف الروم الأرثوذكس، بلا أي تراجعات عن الطرق، وبلا فسحات وساحات، وبلا طرق خدمة أمام مداخل ومخارج موقف يتسع لآلاف السيارات، ضمن منطقة سكنية مكتظة أساساً وعلى طريق مزدحمة أصلاً بمدرسة كبيرة، وسوبر ماركت، ومدفن، وفندق تحول في زمن الكساد إلى جامعة تضم آلاف الطلاب وسياراتهم، ومستشفى. ماذا سيكون أثر هذا وسواه من انتهاكات التنظيم المديني على تلوث الهواء؟
أما جامع محمد الأمين، الذي بوشر بناؤه في وسط بيروت على أرض كان جزء منها مخصصاً لحديقة عامة، فقد أعلن القيمون عليه باعتزاز أنهم استحصلوا على ترخيص بالبناء "من الرصيف إلى الرصيف، بلا أي تراجع ولا حدائق".
وكان نائب من كسروان اعتبر منع المقالع في منطقته، التي تضم بعض أجمل غابات لبنان ومنحوتاته الصخرية، اعتداء على حق موارنة المنطقة في استثمار ثرواتها الطبيعية. فكأن البعض أعطوا أنفسهم حقاً إلهياً لانتهاك الطبيعة، قد يكون مستنداً إلى تفسير خاص لما جاء في سفر التكوين: "... أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض".
لقد برّر أحد المسؤولين السماح ببناء مجمع "أ.ب.ث" التجاري على أرض تملكها الطائقة الأرثوذكسية وسط حي سكاني مكتظ في الأشرفية بالسماح قبله ببناء مركز تجاري في المصيطبة لجمعية المقاصد الاسلامية. إنه توازن الرعب البيئي، باسم الطوائف والمذاهب.
الاعتداء على الشاطئ وتلويث البحر
تحتل المشاريع الصناعية والسياحية والتجارية الخاصة 56 كيلومتراً من الشاطئ اللبناني، أي 23 في المئة منه. وتملأ النفايات معظم الجزء المتبقي، حيث يصل الى البحر يومياً ثلاثة آلاف طن منها عبر مكبات الشواطئ أو الأنهار والسواقي. ويصب في البحر كل يوم نصف مليون متر مكعب من المياه المبتذلة، وتبقى مشاريع محطات المعالجة مجمدة بسبب خلاف الرؤساء على الاستملاكات.
التلوث بالضجيج
أما الضجيج من السيارات والمصانع ومعدات البناء ومكبرات الصوت فيقتحم مدارسنا وبيوتنا ومكاتبنا. وهو نوع آخر من التلوث يؤدي الى أمراض عصبية وجسدية كثيرة. وبينما يصبح الضجيج مزعجاً عندما يتخطى نسبة 70 وحدة صوتية (ديسيبل)، فإن المستوى يتجاوز 85 وحدة صوتية في معظم مناطق بيروت. وبما أن مضاعفة الصوت تزيد من مستواه 3 ديسيبل فقط، فإن مستوى الـ85 ديسيبل يعني تزايد الضجيج نحو 16 ضعفاً عن الحد المقبول.
من كارثة إلى أخرى
نشير إلى أن "قانون حماية البيئة"، الذي أقره مجلس النواب سنة 2002 تحت عنوان "شرعة البيئة"، بقي شعارات تفتقر إلى المراسيم التطبيقية. وتبعته "شرعة المواطن البيئية" التي صدرت عن وزارة التنمية الادارية، لتضيف فصلاً جديداً إلى أدبيات البيئة.
ومنذ العام 1994، تم الاعلان عن عشرات البرامج ذات التمويل الدولي في مجال البيئة وكتبت مئات الدراسات، انتهت كلها إلى الرفوف لأنها لم تكن في إطار برنامج وطني يحدد أولويات، وافتقرت إلى جهاز للتنسيق والمتابعة. والنتيجة أننا اليوم لسنا أفضل حالاً عما كنا عليه قبل عشر سنوات. فكأننا نركض واقفين في مكاننا ونلهث.
وكان البيان الوزاري للحكومة في تشرين الأول سنة 2000، الذي بقي في معظمه بلا تنفيذ، التزم وضع خطة بيئية ذات أولويات، وربط السياسة البيئية بالسياسة المالية عن طريق ضرائب رادعة وحوافز تشجيعية، ووعد بإنشاء المؤسسة الوطنية للبيئة كهيئة للبحث العلمي البيئي. والقرار السياسي الصحيح لا بد من أن يكون مرتكزاً إلى أساس علمي. ان التقاعس عن إقامة هذه المؤسسة أدى إلى استمرار فوضى المشاريع والبرامج بلا تخطيط وتنسيق ومراقبة صحيحة. وما تزال المعالجات في اطار الاسعافات الأولية التي يتولاها مجموعة من الهواة.
وقد تم خلال السنوات العشر الاخيرة العمل على اعتماد معايير صناعية وشروط ومواصفات وبرامج ومراجع إرشادية، مصدر معظمها وصفات جاهزة على شبكة الانترنت. ومع هذا كله، فقد عجزت الدراسات، وحتى "المدعي العام البيئي"، الذي يُفترض أن القانون أوجد منصباً له في جميع المناطق، عن حل مشكلة صغيرة بحجم بضعة براميل نفايات صناعية سامة في قرية بشللي في قضاء جبيل، لم يتم الإعلان عن مصدرها بعد سنتين من الكشف عنها. المشكلة هي في المعايير وخطة العمل والتدابير القابلة للتطبيق. ولا يمكن النجاح في الامور الكبيرة ما دمنا عاجزين عن اثبات قدرتنا على حل مسألة صغيرة، لتكون نموذجاً للجدية.
خطوات للانقاذ البيئي
على هذه الخلفية القاتمة، هل نتكلم خارج الموضوع حين نطرح برنامجاً بيئياً؟ إذ يندر أن يرافق الانتخابات الرئاسية والنيابية عندنا أي برنامج على الاطلاق، مهما كان نوعه، في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية وحقوق الناس الأساسية، ناهيك عن البيئة.
البيئة السليمة حق أساسي طبيعي من حقوق الانسان. انها تعني نوعية الحياة وإمكان الاستمرار في العيش في آن معاً. ولن ندخل العصر ما لم نبدأ التعاطي مع موضوع البيئة بجدية. وكم هو مخيب للآمال أن لا تقدم جماعات البيئة على طرح برامج بيئية وطنية تكون أساساً للخيارات الانتخابية، فتوضع على طاولة النقاش بقوة، ويُدعى المرشحون الطامحون الى تبنيها علناً. ولا يمكن أن تنفصل تدابير رعاية البيئة عن التنمية العادلة والمتوازنة. فالمجتمعات المزعزعة وغير المستقرة، التي تعيش غالبية سكانها في صراع يومي من أجل البقاء، تعتبر الاستثمار في المستقبل رفاهية لا يمكنها تحملها. المطلوب إرادة سياسية وتيار شعبي لدعم مبدأ دفع الثمن الفردي لقاء الربح الاجتماعي.
قبل وضع السياسات البيئية التفصيلية، إذاً، لا بد من تحديد الأولويات الوطنية، وبالتالي تعديل السياسات الاقتصادية لتخفيف الآثار السلبية على البيئة. وإن تقويماً رقمياً للثمن الباهظ الناتج عن إهمال الاعتبار البيئي كفيل بأن يقنع المخططين بإدخال الشأن البيئي في أساس المعادلة الاقتصادية. فالخسائر الاقتصادية الناجمة عن التدهور البيئي في العالم العربي تفوق معدلات النمو. فقد قدر البنك الدولي كلفة التدهور البيئي في لبنان بنصف مليار دولار سنوياً. وبلغت خسارة التدهور البيئي في سورية 700 مليون دولار، وفي مصر 3 مليارات دولار سنوياً. أما مجموع الخسارة الاقتصادية من التدهور البيئي في العالم العربي فقدرت بـ15 مليار دولار سنوياً، أي 3 في المئة من الناتج القومي. وقدرت كلفة الوقاية بخمسة مليارات دولار، أي أن كل دولار يصرف لحماية البيئة يعطي عائداً اقتصادياً يبلغ ثلاثة أضعاف قيمته.
ومع أن النمو الاقتصادي يتسبب غالباً في استهلاك أكبر للموارد، غير أنه من ناحية أخرى يسهّل إيجاد حلول للمشاكل البيئية. وتبقى كلمة السر: التوازن. وقد يكون واجباً القبول بضرر بيئي محدود في المدى القصير، اذا كان لا بد منه لتحقيق نمو اقتصادي يساعد المجتمعات الفقيرة على حماية بيئتها في المدى البعيد. من هنا، لا يمكن معالجة المشكلات البيئية دفعة واحدة، خاصة في الدول النامية التي تواجه في الوقت ذاته مشاكل اقتصادية واجتماعية متشابكة. فالسياسات البيئية، بعد تحديد الخيارات الوطنية، يجب أن تعتمد سلّم أولويات يأخذ في الاعتبار: إلحاح المشكلة، والضرر الذي لا يمكن إصلاحه، والأثر على الصحة، والأثر على نوعية الحياة. في هذا الاطار، على السياسة البيئية أن توقف فوراً أي عمل ينتج ضرراً لا يمكن إصلاحه، حتى لو أدى هذا الى تأخير في عمليات التنمية الاقتصادية. ومن ثم يتم الاتفاق على خطة تفصيلية تعتمد على سياسات عامة ومعايير اقتصادية ومؤسسية، وأدوات تطبيقية، وتدابير تنفيذية.
وفي حين أن السياسات الجيدة اقتصادياً تكون في كثير من الأحيان مفيدة بيئياً، مثل رفع الدعم عن تسعير الماء والكهرباء والمحروقات، فهي ليست دائماً هكذا. فتحديد انبعاث الغازات من الصناعات، مثلاً، عالي الكلفة اقتصادياً. لكنه ثمن اجتماعي لا بد من دفعه. كذلك الأمر بالنسبة لفرض معاينة ميكانيكية صارمة على السيارات والآليات، الذي قد يزيد الاعباء بعض الشيء على المواطن، لكنه في المدى المتوسط والبعيد يخفف من نفقات استهلاك السيارة وصيانتها ويحد من حوادث السير الكارثية.
مهمات أساسية
من هذا المنطلق، يمكن المباشرة بوضع برنامج بيئي قابل للتطبيق، يقوم على الخطوات الأساسية الآتية:
- تنظيم وزارة البيئة وتفعيلها، واستكمال أجهزتها بالكفاءات، حتى تصبح قادرة على ادارة القضايا الآتية: السياسات البيئية والتخطيط الاستراتيجي، التشريعات والقوانين، الصناعة وحماية المستهلك، النفايات، العلاقات الدولية بما فيها المعاهدات والمنظمات، الضجيج والسير، الماء والزراعة، المواد الكيميائية والمشعة، الهواء والطاقة، الاعلام والتوعية وغيرها.
- انشاء المجلس الأعلى للبيئة برئاسة رئيس الحكومة، كهيئة سياسية مكلفة مهمة التنسيق البيئي بين الوزارات والادارات المختلفة، ومخولة باتخاذ قرارات ملزمة.
- تشكيل هيئة طوارئ بيئية من أبرز الاختصاصيين والعاملين في شؤون البيئة، تكون مهمتها أن تنجز خلال ثلاثة شهور إجراء مسح لجميع المشاريع والبرامج البيئية التي حصلت على تمويل دولي أو خارجي أو محلي، لتقييم نتائجها ومراحل تنفيذها وتقرير امكانات الاستفادة منها، والتأكد من عدم التكرار. كما تحدد الهيئة الأولويات البيئية التي يجب معالجتها خلال سنة، لتخفيف حدة التدهور الى حين بدء تنفيذ برامج الادارة البيئية المتكاملة وظهور نتائجها.
- انشاء المؤسسة الوطنية لحماية البيئة، كجهاز مختص مهمته وضع الخطط والدراسات العلمية البيئية، لتكون أساساً يستند إليه أصحاب القرار. ولا بد من تخصيص ميزانية كافية لهذه المؤسسة، كي تقوم بعملها العلمي بالتعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية والجامعات والشركات والمنظمات المختصة. ومن مهمات المؤسسة تنسيق المشاريع ذات التمويل الدولي ومراقبتها ونشر التقارير الدورية حول وضع البيئة في لبنان.
- اعتماد سياسة وطنية للبيئة تضع أهدافاً محددة تتيح إجراء المحاسبة وتحديد مواقع النجاح والفشل خلال فترة زمنية معينة.
- انشاء أجهزة بيئية في البلديات لتنظيم العمل البيئي على المستوى المحلي وادارته، وتطوير برامج للتنمية الريفية تنفذها البلديات، تقوم على تعميم تكنولوجيات ملائمة صديقة للبيئة، كمعالجة النفايات بالتسميد والتخمير وتشجيع الزراعة العضوية ودعم مصادر الطاقة المتجددة وانشاء مراكز للتنمية الريفية تتولى تنفيذ هذه البرامج.
هذا النص هو القسم الأول من فصل في كتاب "خيارات للبنان" الذي يصدر هذا الأسبوع عن دار النهار. وفي حين يستعرض هذا القسم المشاكل والخطوات الأساسية للحل، يقدم القسم الثاني المنشور في الكتاب خطة مفصلة للانقاذ البيئي.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.