حملت الصحف حول العالم مؤخراً، بما فيها صحف عربية، اعلاناً تحذيرياً أخاف كثيرين من القراء، مع ان معظمهم لم يفهم المقصود منه. جاء في الاعلان ما حرفيته: ''اذا كنت قد تعرضتَ للأسبستوس أو منتجات تحتوي على الأسبستوس صُنعت أو وُزّعت أو بيعت أو امتُلكت من قبل شركة فدرال موغول... التي هي قيد إجراءات اعادة التنظيم والافلاس في الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد يكون لك حق المشاركة في تلك الاجراءات".
النص يشرح أن الشركة، المصنّعة لمادة الأسبستوس (الأميانت)، التمست من المحاكم الأميركية والبريطانية الموافقة على طلبها إنشاء صندوق تعويضات للمتضررين المحتملين من منتوجاتها. ويطلب الاعلان من أي شخص، في أي مكان في العالم، لديه ادعاء ضد الشركة ''يتعلق بالتعرض للاسبستوس أو منتجات تحتوي عليه مصنّعة من قبل الشركة أو وكلائها، التصويت لقبول خطة التعويض أو رفضها''. ويحدد الاعلان كيفية الحصول على التفاصيل والتصويت ''قبل انعقاد جلسة المحكمة لاتخاذ القرار في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2004".
يحمل هذا الاعلان في طياته كثيراً من الدلالات. فهو يؤكد، مرة أخرى، على خطورة مادة الأسبستوس، التي كان استعمالها حتى وقت قريب شائعاً في الدول العربية. وحين أطلقت ''البيئة والتنمية'' حملة واسعة ضد الأسبستوس عام 1997، اتهمتنا شركات مصنّعة في لبنان والسعودية والامارات بالتحيّز. ومن الحجج التي ساقها المدافعون عن الأسبستوس أن ''لا اثبات على أنه يضر بالصحة إذا دخل الجسم مع الماء، لأن ضرره الأكيد هو على الجهاز التنفسي لا الهضمي''. وقد استخدمت تلك الحجة الواهية لتبرير استخدام أنابيب الأسبستوس في شبكات المياه. ومن المفارقات أن وزارة البيئة اللبنانية أيدت هذا الموقف في ذلك الوقت، فنشرنا صوراً لأطفال يلعبون فوق قطع من أنابيب الأسبستوس المحطمة والمرمية على جوانب الطرقات في مواقع العمل، وقلنا انه حين يتطاير غبارها في الهواء لا نستطيع أن نطلب من الناس تذويبها في الماء بدلاً من تنفسها مع الهواء، لأنها غير منظورة. ومن المفارقات أيضاً أن سماسرة الأسبستوس استندوا في حينه إلى تقارير مجتزأة من منظمة الصحة العالمية، من دون أن تصحح المنظمة معلوماتهم.
من حسن الحظ أن الأسبستوس أصبح خارج الاستعمال الآن في معظم الدول العربية، بقانون أو بدونه، لأن حملات التوعية أدت الى رفضه من قبل الناس والمسؤولين على السواء. غير أن بعض مصانعه التي توقفت، ومنها مصنع الأسبستوس في شمال لبنان، ما زالت تخزّن القطع المصنّعة التي أصابها الكساد، وفضلات المواد الأولية، في الهواء الطلق، مما يشكل خطراً جسيماً على الناس. وفي حين تحتاج إزالة متر مربع واحد من ألواح أو جدران الأسبستوس المستعملة في أبنية قديمة في أوروبا إلى تصريح مسبق، قبل أن يُسمح لشركات متخصصة مرخّصة القيام بالعمل ودفن الفضلات كنفايات سامة، ما زال التعاطي مع بقايا الأسبستوس في بلداننا حرّاً بلا قيود.
وقد تكون أبرز دلالة في الاعلان الذي بدأنا مقالنا بمقتطفات منه هي إعطاء الناس حق الاطلاع والمشاركة في القرار. فقبل أن تقبل المحاكم بتحرير الشركات من مسؤولية المطالبات بأضرار محتملة من الأسبستوس، فرضت على هذه الشركات نشر اعلان حول العالم لمنح أي متضرر حق الاعتراض والتعويض. وهي أعطت الجمهور مدة طويلة تسمح له بتقديم الاعتراض، باجراءات بسيطة غير معقّدة، بدل ''تهريب'' القضية من التداول. وهذا يتناقض كلياً مع ما تمارسه معظم بلداننا، حيث تبقى تقارير الأثر البيئي للمشاريع، إذا وجدت أصلاً، مخفية في الأدراج لا يُسمح للناس المتضررين بالاطلاع عليها، بحجة أنها من أسرار الدولة.
ان الصناعات الملوثة في عالمنا العربي تعيش اليوم مرحلة الوقت الضائع، بين شريعة الغاب وحكم القانون. لكنها لن تستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية في التهرب من مسؤولياتها.
|