التلوث الإشعاعي وضحاياه في العراق واقع قائم منذ أكثر من عقد. لم يفلح البنتاغون بالتغطية على آثاره. ولم يعد سراً أن من أسباب التلوث الإشعاعي الأساسية استخدام القوات الأميركية وحليفاتها لذخائر اليورانيوم المستنفد في حربين طاحنتين ضد العراق، عامي 1991 و2003. وهي مشعة وسامة، لكونها مصنعة من نفايات نووية خطيرة. والتسرب الإشعاعي الذي حصل في نيسان (أبريل) 2003، ابان نهب مركز هيئة الطاقة النووية العراقية في التويثةجنوب بغداد، والعبث بحاويات اليورانيوم ومواد أخرى مشعة كانت موجودة في مخازنه ومختبراته، حصلا أمام أنظار القوات الأميركية.
ولقد أكدت التلوث الإشعاعي في العراق عدةدراسات علمية، عراقية ودولية، آخرها الدراسة الميدانية الكبيرةالتي أجراها المركز الطبي الدولي لأبحاث اليورانيوم(UMRC)في أيلول وتشرين الأول (سبتمبر وأكتوبر) 2003، ووجدت التلوث الاشعاعي منتشراً في مدن وسط وجنوب العراق كافة، وبدرجة خطيرة بلغت في بعض المواقع التي تعرضت للقصف بذخائر اليورانيوم المستنفد أكثر من 30 ألف مرة الحد المسموح به(راجع مجلة "البيئة والتنمية"، العدد 69،كانون الأول/ ديسمبر 2003). وقد أصيب اثنان من الفريق العلمي الذي قام بقياسات الإشعاع في المناطق المضروبة بأعراض تسمم إشعاعي حاد مع أنهما لم يمكثا هناك أكثر من أسبوعين، ورغم الإجراءات الوقائية. فما بالك لو مكثا فترة أطول،أو كانا أثناء القصف؟
وأكدته، أيضاً، أحدث فحوص البروفسور الدكتور أساف دوراكوفيتش، الخبير بالذرة والطب النووي وأضرار ذخيرة اليورانيوم، وآخرها تلك التي أجراها مطلع العام الجاري لتسعة جنود أميركيين من فرقة الشرطة العسكرية الرقم 442، أصيبوا بأعراض مرضية عقب خدمتهم في العراق عام 2003، مع أنهم كانوا يتولون مهمات غير قتالية هناك. وبينت الفحوص إصابة 4 منهم بأعراض التسمم الإشعاعي، عبر تنشقهم لغبار أوكسيد اليورانيوم المشع المتولد من انفجار الذخيرة. وتوقع دوراكوفيتش، بحسب صحيفة "نيويورك دايلي نيوز" الأميركيةالتي مولت الفحوصوأعلنت نتائجها في نيسان (أبريل) الماضي، ظهور حالات أكثر خطورة بين الجنود الذين شاركوا في المعارك وتعرضوا لجرعات أكبر من الإشعاع. وأكد خبير الفيزياء النووية العالم الأميركي ليونارد ديتز إمكانية ظهور إصابات إشعاعية كثيرة لدى الجنود الأميركيين في المستقبل، لأن مفعول أوكسيد اليورانيوم طويل الأمد.
حيال هذا علق الباحث البيئي نجيب صعب بحق:"إذا كانت هذه حال الجنود الأميركيين، الذين يفترض أنهم احتاطوا لمخاطر اليورانيوم المستنفد في ساحة المعركة، وكان جيشهم هو الذي يستخدمه، فما هي حال الناس الذين تم استخدامه ضدهم؟"
تشوهات وسرطان
فعلاً، تؤكد أحدث التقارير العلمية ما توصلت إليه دراسات عديدة نشرت خلال العقد المنصرم، وهو انتشار أمراض السرطان، والولادات المشوهة، وحالات الإجهاض المتكرر، والولادات الميتة، والعقم، وأعراض تلف جهاز المناعة والكبد والكليتين، وعلل عصبية وعضلية شديدة، وغيرها، تأكدت صلتها بالتلوث الإشعاعي المنتشر في أرجاء العراق. وتوصل باحثون وممثلو أربع وزارات عراقية شاركوا في ندوة بشأن التلوث الإشعاعي عقدت في تموز (يوليو) الماضي في بغداد، الى أن تلوث البيئة العراقية بالإشعاع سبب تشوهات في الولادات الحديثة وإصابات سرطانية بنسب عالية. وأعلن الدكتور سلام حسينممثل وزارة الصحة، خلال الندوة التي نظمتها لجنة الصحة والبيئة في مجلس مدينة بغداد وشارك فيها ممثلو وزارات الصحة والبيئة والصناعة والعلوم والتكنولوجيا،أن وزارة الصحة اكتشفت وجود تلوث إشعاعي في العديد من المناطق العراقية، بدأت أعراضه تظهر على الولادات الحديثة، فأصابت 5 في المئة منها بتشوهات. وأشار الى قيام قسم الرقابة بتقسيم المناطق التي تحتوي على مواد مشعة، كالتويثة، الى مربعات سكانية لإجراء المسوحات عليها. وأوضح حسين أن الفحوص جارية على نماذج غذائية وأخرى من التربة وأوراق الأشجار للوقوف على مستوى التلوث.وأقر الدكتور ثامر عبد الرزاق، ممثل وزارة العلوم والتكنولوجيا، بخطورة التلوث الإشعاعي والخشية من الوصول الى مناطق في البصرة لوجود إشعاعات فيها، بسبب استخدام اليورانيوم المستنفد في الحرب، مؤكداً تشكيل لجنة لقياس التلوث الذي لوحظت زيادة في نسبته.
وكشف الدكتور رياض العضاض، رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس مدينة بغداد، أن 12 في المئة من سكان مدينة البصرة مصابون بأمراض السرطان نتيجة التلوث الإشعاعي، مشيراً الى أن التلوث الإشعاعي في العراق سببه استخدام اليورانيوم المستنفد في الحرب وعمليات السلب والنهب التي طالت مركز التويثة ومراكز أبحاث أخرى. وعن حجم الاصابات بالامراض السرطانية،أعلن الدكتور عبد علي مهدي الكاظمي،مدير مستشفى الطب النووي،أن العدد المسجل لدى وزارة الصحة العراقية يتراوح بين120 و140 ألف مصاب، يضاف اليهم نحو 7500 اصابة جديدة سنوياً. وهذه الارقام مخيفة في ظل الاوضاع المضطربة التي يعيشها آلاف المواطنين.
وأكد الدكتور كاظم البغدادي، الباحث في مجال البيئة،أن حرب الخليج خلفت مئات، ان لم نقل آلافاً، من الآليات والمعدات العسكرية الملوثة بالاشعاع نتيجة استخدام اليورانيوم المستنفد، اضافة الى مئات الأطنانمن هذه المادة المشعة القاتلة في ساحات العمليات الحربية. وأضاف أن الاصابات بالامراض السرطانية برزت بعيد حرب1991، وخاصة في المحافظات الجنوبية، وبنسب احصائية لافتة للنظر، وخاصة بين النساء اللاتي تعرضن للتلوث بالاشعاع. ونجمت عن ذلك تشوهات خلقية بولادتهن أطفالاً بدأوا حياتهم عاجزين.
أسلحة اليورانيوم والأمراض الجديدة
أوضحت الدكتورة نهلة علي، الاستاذة في كلية العلوم بجامعة بغداد،أن الاشعاع الناتج عن اليورانيوم المستنفد في الاسلحة التي استخدمتها القوات الاميركية في قصف بغداد والمحافظات العراقية سبب الكثير من التخريب للبيئة، سواء للانسان أو النبات أو الحيوان، ولا سيما من خلال كثرة الاصابة بالتشوهات الخلقية، وكثرة حالات الاجهاض لدى النساء. ونلاحظ في مستشفيات الاطفال حالات من الولادات الغريبة، تؤدي في غالب الاحيان الى موت الوليد بعد فترة وجيزة من ولادته. وأضافت أن البلاد، وخاصة مناطق البصرة، تضررت بهذه الاشعاعات مما أدى الى ولادة أجيال مشوهة خلقياً مات معظمهم وهم رضع.وأضافت: "نحن نحارب هذه الامراض الفتاكة بأسلحة فاسدة.فوسائل التشخيص، من اجهزة ومواد كيميائية، غير متوافرة في المختبرات التحليلية والاشعاعية، وان توافرت فهي رديئة أو قديمة، بالاضافة الى ضعف الكادر الطبي العامل عليها. ومستشفياتنا الخاصة بهذه الامراض تعد على الاصابع، وهي تستخدم العلاجات الكيميائية والاشعاعية القديمة وغير الكفوءة.
وأكد الدكتور مهدي عبد القادر، الاختصاصي بالامراض السرطانية، أن السنوات العشر الاخيرة حملت للعراقيين الكثير من آثار أسلحة الحرب الحديثة التي لوثت بيئتهم بمئات آلاف الاطنان من الاسلحة المحرمة دولياً.ومنها المشبعة باليورانيوم المستنفد، وهو مادة سامة ذات تأثير سلبي طويل الامد على صحة الانسان والبيئة تمتد آلاف السنين، أدت الىظهور الكثير من الامراض الجديدة على المجتمع العراقي، ومنها الامراض السرطانية التي انتشرت في مناطق عديدة وخاصة المناطق الجنوبية والحدودية التي شهدت مواجهات بين القوات العراقية وقوات التحالف.وأضاف: "نسبة تزايد الاصابات كانت لافتة بين النساء اللاتي حصلت لديهن حالات واسعة من الولادات المشوهة والاجهاض. وتفاقمت المشكلة معالنقص الكبير في أدوية الأمراض السرطانية، سابقاًوحالياً، حيث أن المتوفر منها في المستشفيات الرسمية قليل جداً، والمتوفر في الاسواق أسعاره غالية لا يتمكن معظم المصابين من توفيرها".
وقال الدكتور علي عبد الحسين، المسؤول عن اللجان الصحية في دائرة اليرموك الطبية والمنتدب في دائرة صحة ديالى: "ان تزايد الاصابة بالامراض الجلدية يعود للتلوث البيئي الكبير الذي تعرضت له البيئة العراقية من جراء الحروب، وخاصة في الجنوب. وليست لدينا مؤسسات صحية أو علمية تعالج الامر أو تشخصه. فقبل عامين مثلاً ظهر مرض جلدي متمثل بطفح جلدي وارتفاع درجة الحرارة. طلبنا من وزارة الصحة دراسته ومعالجته، لكنها اعتذرت لكونها عاجزة تماماً، ولا يوجد مركز متخصص بالابحاث الفيروسية.
أطفال يلعبون بالاشعاع
يلمس المرء حجم معاناة المراجعين المرضى وذويهم أثناء تجواله في مستشفى الطب النووي. فهناك تحدث عادل علي، من قرية التأميم قرب بعقوبة، الذي أحضر أحد أقربائه الى المستشفى. وأكد أن الكثير من الحالات المرضية الغريبة ظهرت في القرية، وأدت الى العديد من الاصابات بالسرطان والوفيات دون معرفة السبب.وأشار الى إلقاء الطائرات الاميركية مقذوفات وقنابل علىأراضي القرية، التي كانت فيها بعض القطع العسكرية العراقية.
أما المريض عبدالرحمن محمد، القادم من مدينة في جنوب العراق تبعد نحو 500 كيلومتر عن بغداد، فيصف معاناته في مراجعة هذا المستشفى منذ أشهر، والنفقات الكثيرة التي تكبدها رغم ضعف حالته المادية، مما أجبره على بيع العديد من حاجيات بيته لتغطية نفقات العلاج والسفر والمبيت أحياناًفي بغداد لأيام من أجل الحصول على الدواء المخصص له في ذلك المستشفى. وعن سبب تعرضه للسرطان، يؤكد أنها ليست حالة وراثية، وثمة العديد من سكان المنطقة التي يعيش فيها أصيبوا بمثل هذه الامراض منذ 1991، علماًأنه يسكن المنطقة الحدودية القريبة من الكويت، حيث جرت معارك عنيفة بين الجيش العراقي والقوات الاميركية عامي 1991 و2003، ومازال فيها الكثير من الدبابات والمعدات العراقية التي تعرضت للقصف الجوي. وقد زارها بعد الحرب الكثير من الخبراء الاجانب، وحذروا أهالي المنطقة من الاقتراب منها كونها ملوثة باليورانيوم المستنفد. وأضاف أن ذلك التحذير جاء متأخراً، اذ كانت تلك المخلفات منتشرة في كثير من المناطق، والاطفال يلعبون بها، والاغنام ترعىالعشب الموجود حولها، وسيول الامطار تمر عليها قبل وصولها الىالمناطق السكنية.
ووصف الخبير البيئي عدنان خالد الجبوري الحالة في العراق بالمأسوية، حيث كل شيء ملوث وينذر بنتائج وخيمة علىصحة الانسان والبيئة، الآن وعلى المدى البعيد.
وأشار الجبوري الىأن مسألة تزايد نسبة الاصابات السرطانية ما هي الا وجه واحد من الكارثة.ويضاف اليها التلوث المتزايد في مياه الشرب، وسوء أنظمة مياه الشرب والصرف الصحي، وتلوث المواد الغذائية المستوردة. ففي غياب السلطة المختصة، يجلب كل شيء وأي شيء من دون اخضاعه لفحوص مختبرية للتأكد من صلاحيته للاستهلاك البشري.
السؤال الذي يطرح نفسه: الى متى تبقى دول التحالف، والمجتمع الدولي، والوكالات الدولية المتخصصة، تتفرج على محنة العراقيين الناجمة عن التلوث الإشعاعي؟
كاظم المقدادي، طبيب وباحث عراقي مقيم في السويد
كادر
علماء عراقيون يكافحون تلوث بلادهم مع الأمم المتحدة
أعلنت الأمم المتحدة في 14 أيلول (سبتمبر) 2004 أن علماء عراقيين سيقيّمون التلوث في البلاد، بداية من تسربات نفطية الى حطام مركبات عسكرية، في محاولة لمعالجة المشاكل البيئية في البلد الذي دمرته الحرب. ففيما تعم أعمال العنف العراق، يحاول علماء البيئة لفت الانظار الى الاضرار الناجمة عن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة العام الماضي وعن حرب الخليج عام 1991، والمخلفات الناجمة عن الصناعة التي تكافح لتجاوز عقدة العقوبات التي استمرت أعواماً.
ويبدأ مشروع رائد في تشرين الأول (اكتوبر) الحالي لاجراء اختبارات على عينات من خمسة مواقع، من أصل 300 موقع في العراق تعتبر خطيرة التلوث. وقالت وزيرة البيئة مشكاة مؤمن في بيان صادر عن مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي: "تواجه بلادي مجموعة من القضايا الملحة التي يجب معالجتها حتى ينعم شعب العراق بالاستقرار والصحة والرخاء في المستقبل". وينسق يونيب المشروع بالتعاون مع الحكومة العراقية، في اطار برنامج أوسع بقيمة 4,7 ملايين دولار يموله مانحون لدعم وزارة البيئة في العراق.
وقد ربط علماء بيئة وناشطون مناهضون للاسلحة النووية بين استخدام اليورانيوم المستنفد في الذخيرة الاميركية والبريطانية وارتفاع معدل الاصابة بالسرطان والعيوب الخلقية بين المواليد في العراق بعد حرب 1991، على رغم أن الدراسة لا تركز على هذه القضية. وفي خطة منفصلة، طلب البرنامج 2,5 مليون دولار من المانحين لتقويم مواقع يشتبه علماء انها ملوثة باليورانيوم المستنفد، الذي يقول البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) انه لم يجد أدلة على أنه يسبب مشاكل صحية طويلة الاجل.
وسوف يتولى علماء عراقيون درَّبهم برنامج الأمم المتحدة للبيئة فحص العينات بالتعاون مع نظرائهم من "وحدة تقييم ما بعد النزاعات" التابعة للبرنامج في جنيف. وقال المدير التنفيذي للبرنامج كلاوس توبفر: "هذا جزء من هدفنا الطويل المدى بتكوين فريق عراقي مستقل كلياً يضم علماء ممتازين لتقييم أحوال البيئة".
وتشمل المواقع الاولى التي يجري تقويمها خط أنابيب حيث أدت هجمات معارضي الحكومة الموقتة الى تسرب نفطي. كما يعتزم العلماء زيارة شركة "المشرق" للكبريت التابعة للدولة لتقويم التلوث الناجم عن حرائق الكبريت، ومخازن مصفاة الدورة وسط العراق للتحقيق في تسرب أكثر من خمسة آلاف طن من الكيميائيات بينها رابع اثيل الرصاص.
كما تجرى اختبارات في مخزن حبوب في الصويرة، حيث تم رش الحبوب بمبيد للفطريات يحوي الزئبق المثيلي، وهو أحد الأنواع السامة للمعدن السائل يمكنه أن يدمر الجهاز العصبي للانسان. وقال "يونيب" ان نحو 50 طناً من الحبوب الملوثة سرقت خلال الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق، مما يزيد من خطر تلويث مواد غذائية مثل الخبز.
وينوي العلماء زيارة موقع للخردة لتقييم خطر التلوث من كيميائيات مثل الاسبستوس وزيوت محركات الدبابات ومواد خطيرة أخرى.