في كل عام يحتشد ممثلو الدول تحت راية «مؤتمر الأطراف»، غنيها وفقيرها، أبيضها وأسودها. كان الأول عام 1995 في برلين، فجنيف عام 1996، ثم توالت المؤتمرات السنوية، وصـولاً إلى المؤتمر المقبل الذي تم الاتفاق على عقده في العاصمة القطرية الدوحة نهاية سنة 2012. وفي مسيرة هذه المؤتمرات اكتسب مؤتمر كيوتو في اليابان عام 1997 أهمية خاصة، مردها الإعلان عن مجموعة التزامات من 38 دولة صناعية و11 دولة من وسط وشرق أوروبا بخفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة بنحو 5,2 في المئة عما كانت عام 1990، وذلك في فترة التزام تبدأ من 2008 حتى 2012. وعرف هذا الاجراء في ما بعد باسم «بروتوكول كيوتو للاتفاقية الإطارية لتغير المناخ».
ومـع اقتراب مدة الالتزام من نهايتها اكتسبت الاجتماعات اهتماماً متزايداً، وترقب الجميع إجابة عن سؤال: ماذا بعد؟ وما إن جاءت قمة دوربان في جنوب أفريقيا في كانون الأول (ديسمبر) 2011 حتى حبس الجميع أنفاسهم. ومع مرور أيام المؤتمر من دون إجابة تسرب اليأس الى النفوس، حتى انبلج صباح الحادي عشر من ذلك الشهر يصحبه الحل الوسط المتمثل في الاتفاق على معاهدة مناخ تدخل حيز النفاذ سنة 2020 بمشاركة الدول الناشئة، مع تمديد بروتوكول كيوتو خمسة أعوام أخرى. ولكن ماذا يعني التمديد، بمعزل عن مشاركة الدول المسؤولة عن نحو ثلثي الانبعاثات (الولايات المتحدة، كندا، الصين، الهند...)؟
بصفة عامة، تسعى الدول المتقدمة إلى إلزام الدول النامية بتكاليف خفض الانبعاثات وبجهود التكيف مع التغيرات المناخية، متعللة بأن الصين والهند تنفثان 30 في المئة من الانبعاثات الدولية، ما يعادل انبعاثات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بالاضافة الى الولايات المتحدة. وترد الصين والهند ودول نامية أخرى بأن ما سببته الدول المتقدمة من مشاكل بيئية خلال عشرات السنين كفيل بمطالبتها بتصحيح ما أفسدته.
مؤتمر الأطراف الثالث عشر
أقرت الدول المشاركة في مؤتمر تغير المناخ في كانون الأول (ديسمبر) 2007 في جزيرة بالي بإندونيسيا «خـريطة طريق بالي»، بهدف تحديد الالتزامات المقررة على دول الملحق الأول (Annex 1) تمهيداً لعرضها في مؤتمر كوبنهاغن عام 2009. وقد أظهر مؤتمر بالي، الذي حمل الرقم الثالث عشر (COP-13)، الرغبة في اطلاق عملية متكاملة للتمكن من تطبيق المعاهدة من خلال إجراء تعاوني يخدم على المدى الطويل. وذلك بوضع برنامج عمل تنفيذي لخفض الانبعاثات، وتعزيز خطط العمل الوطنية لمكافحة تغير المناخ، وتوفير الموارد لنقل تكنولوجيات الطاقة المتجددة.
وتتضمن إجراءات التخفيف من حدة تغير المناخ اتخاذ إجراءات وطنية ملائمة (NAMA) ومنهجيات تعاون قطاعية (CSA)، واتخاذ إجراءات طبقاً لطبيعة قطاعات الاستهلاك.
بعد مؤتمر بالي عقدت أربعة اجتماعات رئيسية كان آخرها في بوزنان في كانون الأول (ديسمبر) 2008، ركزت على اتخاذ الدول النامية اجراءات وطنية ضمن خطط التنمية المستدامة للحد من تغير المناخ. إلا أن الوثيقة الصادرة عن قمة بوزنان نصت صراحة على أن تدعم الدول المتقدمة الإجراءات التي تتخذها الدول النامية. هكذا أصبحت المساندة أمراً مشكوكاً فيه، مع نص غامض لا يتعدى كلمة «دعم»، تمتد من تدريب المتخصصين في الدول النامية الى التمويل القادر على إضفاء صفة القبول الاقتصادي على مشاريع مكافحة تغير المناخ.
من ثم نجد أن مؤتمر بالي اقترن مع «حشر» الدول النامية في المسؤولية العالمية تجاه إجراءات مكافحة تغير المناخ. فارتسمت ملامح باهتة أول الأمر، سرعان ما أخذت تتضح شيئاً فشيئاً، لتتردد على الأفواه إجراءات NAMA بدلاً من CDM أي آلية التنمية النظيفة. وشتان ما بين اللفظـتين، فالأولى تنطوي على أعباء تتحملها الدول النامية على قدم المساواة مع الدول المتقدمة، بعد أن كانت آلية التنمية النظيفة تلزم الدول المتقدمة فقط.
الإجراءات الوطنية
استخدمت خطة العمل التنفيذية في بالي كلمة «إجراءات» (Actions)، وهي كلمة مطاطة كأختها السابقة «دعم»، وتعني ببساطة «أي نشاط»، بداية من الإعلان عن سياسات وطنية إلى تنفيذ المشروعات، أي أننا لا نتحدث عن إجراءات محددة. يأتي هذا متزامناً مع صدور دعوات لبعض الإجراءات الطوعية، فأوستراليا تطالب بوضع جداول وطنية تتضمن تنفيذ إجراءات «ما» حتى سنة 2050 كالتزامات للمكافحة، واليابان ترى الربط بين ما تنوي الدول القيام به وقدرتها الماية على التنفيذ، أما الاتحاد الأوروبي فيطالب الدول النامية بوضع استراتيجيات تنمية منخفضة الكربون تخفض انبعاثاتها بنسب تتراوح بين 15 و30 في المئة بحلول سنة 2020 مقارنة بسنة 2012، وهو ما تسانده الولايات المتحدة.
بالاضافة الى الإجراءات المتعددة التي يمكن إتمامها من خلال المشاركة الطوعية، تتبنى دول عدة المستويات الثلاثة التي عرفها الاتحاد الأوروبي، وهي: إجراءات أحادية تتخذ بشكل منفرد من جانب الدولة وتنفذها من مواردها الخاصة، وإجراءات مدعومة تركز على التكنولوجيا وسبل التمويل وبناء القدرات، وإجراءات إضافية تُدعم من سوق الكربون.
في هذا الصدد، أقرت خطة بالي التنفيذية إجراءات للقياس والتوثيق والتحقق من السياسات والتدابير والدعم المالي والتكنولوجي الذي تقدمه الدول الصناعية الى الدول النامية. إلا أن معايير جودة التقارير لم تحدد بعد.
وباستقراء تلك التوجهات نجد بروز اتفاق عام نحو إلزام الدول النامية. وللبدء في هذا التوجه، اتخذت الدول الصناعية مواقف تراوح من التشدد كما في موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى اللين الممزوج بتحديد التزامات على الدول النامية كما في دعوتي نيوزيلندا واليابان. وبين هذا وذاك تراوح الدول النامية داعية الدول الصناعية الى الالتزام بمسؤولياتها، رافضة الاكتفاء بالتزام خمس سنوات كتكفير عن الحقبة الطويلة السابقة من الانبعاثات.
التمويل ونقل التكنولوجيا
يظل جانب التمويل أكثر الجوانب غياباً في محادثات مكافحة تغير المناخ. فعلى رغم أن المادة الرابعة من المعاهدة الإطارية لتغير المناخ والمادة الحادية عشرة من بروتوكول كيوتو تطالبان دول الملحق الأول بتقديم المزيد من الموارد المالية للدول النامية لتنمية مشاريعها النظيفة، إلا أن هذه المطالبات لم تلقَ آذاناً صاغية. ولعل السبب الرئيسي للعجز في تدبير الموارد المالية الكافية هو تخصيص دول غير الملحق الأول مساهمات مالية لأغراض محددة، لذا اقترحت النروج إجراء مزايدات دولية على كميات الكربون المجنَّبة، ودعت سويسرا إلى فرض ضريبة على انبعاثات الكربون.
حدث أيضاً تقدم ملموس في ميثاق كوبنهاغن بشأن المقترحات السابقة. فالميثاق يتوقع جمع 30 بليون دولار من مصادر جديدة لأنشطة التكيف ومنع الانبعاثات خلال الفترة من 2010 حتى 2012، بالاضافة الى التزام الدول الصناعية تدبير 100 بليون دولار حتى سنة 2020. كما دعا الميثاق الى تأسيس «صندوق كوبنهاغن الأخضر للمناخ» ككيان عامل في آليات التمويل، لدعم مشاريع المعاهدة وبرامجها وسياساتها، وأنشطة الدول النامية في مكافحة تغير المناخ، وإجراءات المواءمة وبناء القدرات وتنمية التكنولوجيا. إلا أن الميثاق لا يتضمن أي تفاصيل عن آليات تفعيل التمويل. وعلى غرار المواضيع المالية، عولجت مواضيع نقل التكنولوجيا بأولوية متدنية.
يبقى عدم التوافق في العلاقة بين آليات التكنولوجيا وآليات التمويل المستقبلية. ويبدو الاختلاف أيضاً حول نقل أصول الملكية الفكرية، في وقت تصر الدول المتقدمة على تطبيق «اتفاقية حماية الملكية الفكرية» بشأن الأبحاث والتنمية ونشر التكنولوجيا.
«تكتيك» الدول المتقدمة
طبقاً لخطة بالي، فإن المفاوضات الحالية بشأن مستقبل المناخ تتضمن اعتبارات وطنية لخفض انبعاثات الدول النامية، من خلال التكنولوجيا الملائمة وآليات التمويل وإعداد الأفراد في إطار قابل للقياس والتحقق والتوثيق. وعلى كل حال، لم تتضمن خطة بالي التنفيذية ولا المفاوضات التي تلتها تعريفاً محدداً للإجراءات الوطنية الملائمة للمكافحة لاعتمادها كإجراءات لخفض الانبعاثات.
وعلى الجانب المؤسساتي، ينتظر أن تؤدي الإجراءات الطوعية إلى حشد دول الشمال والجنوب معاً، بمعنى استخدام موارد الشمال في اتخاذ إجراءات لدى دول الجنوب. ينتظر أيضاً أن تكون هناك كيانات فنية تعمل على إعداد التقارير وصياغة الفروض والمنهجيات المتوقع استخدامها، ومن ثم ينتظر أن تتم مثل هذه الإجراءات وفق معايير دولية.
تختلف وجهات نظر الدول النامية من حيث اتخاذ إجراءات طوعية لمكافحة تغير المناخ. فإندونيسيا وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا ترحب باتخاذ تلك الإجراءات، في حين تأخذ البرازيل والصين موقفاً معاكساً من هذا المبدأ، فتنظران إلى تلك الإجراءات كخطوة تجاه المساهمة في حماية المناخ تختلف عن الإجراءات التعويضية المتعارف عليها في آلية التنمية النظيفة، حيث دأبت هذه السوق على شراء دول الملحق الأول لوفورات الكربون من دول غير المرفق الأول مما يمكن أن يدخل تحسناً طفيفاً على اقتصاديات المشروع.
وعلى رغم الاتفاق على ضرورة تحمل الدول كافة لمسؤولياتها، فعلى الدول النامية أن تعي آليات تحرك الدول المتقدمة، فهي تسعى لوضع أعباء على كاهل الدول النامية وتكبيلها بالمسؤوليات، مع محاولات للتملص من التزامات نقل التكنولوجيا والدعم المادي تعويضاً عن المسؤولية التاريخية للدول الصناعية.
إن التراخي في مواجهة هذه التحركـات سوف يؤدي إلى وضع أعباء مادية قد لا يتحملها كثير من الدول النامية الفقيرة. وربما تطورت الآليات لنجد آليات إلزام للحفاظ على البيئة تتحرك مصحوبة بقوات دولية تجاه الدول غير الملتزمة بيئياً، لتصبح البيئة حصان طروادة القرن الحادي والعشرين.