أين أرمي نفاياتي؟
عند وصولي الى اليابان قادماً من لبنان للدراسة، كان هذا أحد جوانب الحياة اليابانية التي صعب علي التعامل معها. طبعاً، هناك أمور كثيرة جداً تعيَّن علي التكيف معها، كالطعام واللغة والناس، ولكن كانت الخطوة الأساسية الاولى أن ''أتعلم'' كيف أتخلص من نفاياتي.
بالنسبة الى غالبية العائلات في لبنان، يكفي أن تضع كل شيء لا تحتاج اليه في كيس بلاستيك وترميه في مستوعب للنفايات. في اليابان، هذا التصرف غير مقبول على الاطلاق.
عندما ذهبت لتسجيل نفسي لدى الدائرة المختصة في مدينة نيغاتا حيث أقيم، أُعطيت مجموعة من المستندات القانونية، بينها دليل شامل لطريقة التخلص من النفايات في الحي الذي أقيم فيه. وهو يحتوي على جدول تفصيلي لمواعيد جمع النفايات، ويشرح كيفية فرزها الى ثلاث فئات: مواد قابلة للاحتراق، ومواد غير قابلة للاحتراق، ومواد صالحة لاعادة التدوير.
بناء على الجدول الزمني، بامكاني أيام الثلثاء والخميس حتى الساعة التاسعة صباحاً أن أرمي النفايات القابلة للاحتراق، التي تشمل فضلات الطعام والخشب والورق وغيرها. ومرة في الأسبوع، أستطيع التخلص من النفايات غير القابلة للاحتراق، مثل القطع المعدنية والزجاجية والأغلفة والأكياس والقوارير البلاستيكية. كما أن هناك يوماً محدداً للمواد الصالحة لاعادة التدوير، مثل علب المرطبات والقوارير الزجاجية والجرائد. ويمكن العثور على مستوعبات اعادة التدوير الخاصة بهذه المواد أمام كل محلات السوبرماركت والمراكز التجارية. أما المواد السامة والخطرة، مثل البطاريات، فتجمع على حدة مرة كل شهر أو كل ثلاثة أشهر.
يخوض الدليل أيضاً في التفاصيل الدقيقة، حول كيفية تقطيع الملبوسات المهملة الى أجزاء صغيرة، أو غسل المخلفات البلاستيكية جيداًقبل التخلص منها بحيث لا تجتذب الآفات، الى غير ذلك.
بالتأكيد، يجب وضع النفايات في الأماكن المخصصة لها. واذا وضع أحدهم نفاياته هناك في غير اليوم المحدد، أو خلط عدة أنواع منها، فان العمال الذين يتولون جمعها يمتنعون عن أخذها، بكل بساطة. وقد أخبرني صديقي ريتشارد، وهو طالب من الفيليبين، أنه رمى مرة علب تونا فارغة مع بعض النفايات العضوية. وفي اليوم التالي أعيدت اليه نفاياته مع ملاحظة تطلب منه التقيد بالقواعد. وكان، لسوء حظه، وضع في الكيس ذاته مظروفاً يحمل اسمه وعنوانه. هذه الحادثة البسيطة تعكس جزئياً السياسة اليابانية الخاصة بادارة النفايات الصلبة: فكل مواطن عليه واجبات ومسؤوليات في ما يتعلق بالنفايات، ويجب أن يشارك في تحمل العبء.
في البداية، تساءلت كيف تستطيع البلديات التأكد من أن الناس يلتزمون بقواعد تصنيف النفايات؟ ولكن مع مرور الأيام، ومن خلال مراقبتي لجيرانيوهم يرمون نفاياتهم متقيدين تماماً بالجدول الزمني، فهمت لماذا يعمل هذا النظام بنجاح. فاليابانيون مدركون جيداً للمشاكل البيئية، وهم يعبِّرون عن اهتمامهم بالبيئة وقلقهم إزاءها بالطريقة التي يعاملون بها نفاياتهم. حتى أن هناك أفراداً من المجتمع يؤدون دور ''بوليس النفايات''، فيفتشون في القمامة للتأكد من أنها وضعت بطريقة صحيحة. وعندما شكوت الى صديق ياباني، في أولى أيامي هناك، من تعقيدات عملية فرز النفايات، أجابني بحماسة: ''نحن شعب كبير العدد يعيش في بلد صغير، فتصور ماذا يمكن أن يحدث لو رمينا كل نفاياتنا في كل مكان!'' والواقع أن البلديات اليابانية، التي تواجه صعوبات متزايدة في تأمين مطامر، تجد لزاماً عليها أن تتخذ اجراءات أكثر تشدداً لتقليل النفايات.
مجتمع التدوير
ما إن استقر بي المقام حتى كان علي تأثيث شقتي الصغيرة. فنصحني بعض الأصدقاء بأن أذهب وأفتش في متاجر التدوير. اعتقدت في البداية أن تلك المتاجر تشبه ''سوق الأحد'' في لبنان، حيث المواد المستعملة المعروضة للبيع تكون قديمة وقذرةومعطلة أحياناً. لكنني فوجئت بأنها نظيفة جداً وجذابة في غالبيتها. والمعروضات التي تم اصلاحها وصقلها على أفضل وجه بدت كأنها غير مستعملة! وتمكنت من شراء كل ما أحتاج اليه: دراجة، ثلاجة، طاولة، خزانة كتب، جهاز راديو...
عندما يريد أحد الأشخاص التخلص من أثاثه في اليابان، عليه أن يطلب موعداً مع البلدية ويسدد رسماً مقابل أعمال المناولة والنقل. لكنه يستطيع أيضاً أن يبيع أثاثه لمتاجر التدوير. وهذا، في رأيي، جوهر اعادة الاستعمال. لماذا نرمي جميع هذه الأشياء في حين أنها قد تكون نافعة لأناس آخرين؟ لقد أُقر مؤخراً قانون ياباني جديد يلزم المستهلكين باعادة تدوير أجهزة كهربائية مثل الغسالات والثلاجات. فعندما لا تعود قيد الاستعمال، يجب اعادتها الى المصنِّع أوبيعها لمتاجر التدوير. وهي منتشرة في أرجاء اليابان، وتبيع كل شيء تقريباً، من الملابس المستعملة الى الأدوات المنزلية وأجهزة الكومبيوتر وسواها، وتساهم في تقليل النفايات بالتشجيع على اعادة استعمالها.
يقول البروفسور مياتا هارو، الذي يدرِّس قضايا البيئة في جامعة نيغاتا، ان "وعي الناس لأهمية العيش في بيئة آمنة ليس حديث العهد. فبعد الحرب العالمية الثانية، ولَّد النمو الاقتصادي السريع والتصنيع الثقيل مشاكل بيئية حادة في اليابان. وبات كثير من الناس يعانون من أمراض خطرة سببها تلوث الهواء والماء، وبدأوا يضغطون على السلطات لحماية بيئتهم. لذلك أصبح التشريع الياباني منذ ستّينات القرن العشرين أكثر تشدداً في مساعي تخفيف التلوث".
وفي التسعينات، أعدت الحكومة اليابانية خطة لتشجيع التحول الى ''مجتمع قائم على اعادة التدوير''. فأُجبرت محلات السوبرماركت والمتاجر الكبرى على اعادةتدوير ما تبيعه من قوارير الزجاج والبلاستيك وغيرها من عبوات المأكولات والمشروبات. وبموجب قانون جديد هذه السنة، ألزمت شركات صنع السيارات بتجميع غازات الكلوروفلوروكربون من المكيفات والأكياس الهوائية في السيارات، التي تصبح خارج الاستعمال، وإعادة تدويرها أو معالجتها. والغاية من ذلك تحميل المنتجين مسؤولية النفايات التي ينتجونها.
طريقة حياة
الشعور المتنامي الذي خامرني منذ وصلت الى اليابان هو أن التمتع ببيئة نظيفة ومريحة لا يمكن تحقيقه من دون مواطنين ومستهلكين مسؤولين. والتقرير الرسمي الأخير حول نوعية البيئة في اليابان عام 2003 كان عنوانه ''المجتمعات المحلية تقود التحول الى مجتمع مستدام''. وهو يوضح كيف أن الممارسات الطوعية اليومية التي يؤديها مواطنون عاديون للعناية بأحيائهم هي خطوة هامة حاسمة.
صبيحة يوم ربيعي، كنت أمشي في منتزه قرب منزلي، فشاهدت عشرات الأشخاص بأعمار مختلفة يعملون معاً لتنظيف المكان. كانوا أناساً عاديين شعروا ببساطة أنهم قادرون على القيام بعمل يجعل مدينتهم جديرة أكثر بالعيش فيها. وقد تأثرت كثيراً بهذا المشهد. وعندما عدت الى لبنان في زيارة، بدا منظر الناس وهم يرمون النفايات في الشوارع أمراً لا يصدق. وشعرت بالحزن وأنا أفكر كم نحن متخلفون عن "المجتمع الياباني المستدام".
طبعاً، علينا الانتظار بعض الوقت قبل أن تصبح اعادة التدوير والممارسات البيئية الأخرى واسعة الانتشار في بلادنا. لكن أليس باستطاعتنا أن نبدأ بشيء ما، على الأقل بالتفكير جدياً في نفاياتنا وماذا عسانا نفعل بها؟