وليم صعب (كتماندو)
محمية أنابورنا في شمال النيبال يقصدها سنوياً نحو 70 ألف زائر، غالبيتهم أجانب. وهي قريبة من الحدود مع التيبت، وتحوي ضمن تضاريسها جبلاً يزيد ارتفاعه على 8000 متر، ووادياً هو الأعمق في العالم، وبحيرات على ارتفاعات عالية، وأنهاراً جليدية، ومناطق نباتية شديدة التنوع تراوح من مراع شبه استوائية الى مراع عالية ألبيَّة، ضمن محيط من الجمال الطبيعي الذي قد لا يضاهى.
تؤوي المنطقة نحو 1226 نوعاً من النباتات، بينها 38 نوعاً من الاوركيديا (السحلبيات)، و101 نوع من الثدييات و474 نوعاً من الطيور و39 نوعاً من الزواحف و22 نوعاً من البرمائيات.
قد يكون بُعد أنابورنا وعزلتها سبب بقائها جميلة جداً وبمنأى عن الآثار الضارة للتنمية. فالوصول اليها غير ممكن الا سيراً على الأقدام أو على ظهور البغال، عبر ممرات جبلية ضيقة ومتعرجة غالباً ما تكون خطرة. مئات الجسور الممتدة فوق أنهار مضطربة، وضيق الممرات المائية، وشدة انحدار المسالك، وأخطار مثل انزلاقات التربة والوحول والانهيارات الثلجية، تجعل من غير الممكن فتح المنطقة أمام وسائل النقل المدمرة للبيئة. لذا فانها بمعظمها تقع على بعد عدة أيام مشي من "التمدن" ـ الذي هو في ذاته مصطلح غير موضوعي ـ في رحلة تعتمد أيضاً على ظروف مثل أحوال الطقس والمسالك، حيث لا يمكن الاتصال حتى بواسطة الهاتف.
هذه المميزات أنقذت المنطقة من غزو "غابات الاسمنت"، لكن ارتفاع أعداد المشاة وتكاثر المنتجات الغربية خلقا فيها مشكلة تلوث بشري.
إذن بالمشي
يخيَّل الى المرء أن الحفاظ على البيئة لا يعطى أهمية معتبرة في بلد مثل النيبال، يعاني من الفقر والجوع والفساد الحكومي والتهديد المستمر من المتمردين الماويين، وتزايد أعداد الاضرابات التي تدعو اليها جماعات متنوعة ذات نفوذ كالمنظمات السياسية والطلابية والنقابات العمالية. ربما كان هذا صحيحاً الى حد ما، وبالتأكيد على أعلى المستويات، اذ من غير المعقول أن نتوقع من الحكومة النيبالية، التي تدير شؤون بلد هو من أفقر البلدان في العالم ويحتل المرتبة 140 على مقياس التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، أن تخصص بعضاً من مواردها الشحيحة أصلاً للحفاظ على البيئة.
ولكن لا خوف على أنابورنا، التي أُطلق مشروع محميتها عام 1986، كمنظمة أهلية، في محاولة لحماية جمالها الطبيعي.
نص برنامج عمل المشروع على "حماية وادارة وتعزيز الطبيعة بكل تنوعها، وموازنة الحاجات البشرية مع البيئة على أساس مستدام من أجل الخير العام". وتؤوي المحمية عشر جماعات عرقية شديدة التمايز، يربو عدد أفرادها مجتمعة على 120 ألفاً، يحاول المشروع أن يوازن سبل معيشتهم مع الحاجات البيئية.
وقد أرسي نظام ألزم جميع زائري المنطقة من غير النيباليين أن يدفعوا رسم إذن (كانت قيمته هذا الخريف 2000 روبية، أي نحو 30 دولاراً) يسري مفعوله لمدة ثلاثة أسابيع، تعهدته الحكومة كوسيلة للاعتناء بمحمية أنابورنا. وأقيمت نقاط تفتيش على طول الطريق تضمن حصول جميع المشاة على هذا الاذن، الذي هو في الواقع تبرع زهيد مقارنة بالمشهد الطبيعي والثقافي الرائع الجمال الذي تتاح للزائر فرصة التمتع به. إذن المشي هذا، الذي هو في الحقيقة رسم دخول الى المنطقة، هو مصدر الدخل الرئيسي للمشروع.
ماء على طريق
قد يكون البرنامج الأكثر فعالية وأهمية تركيب ما يسمى "محطات شرب الماء المأمون" على طول المسالك. فماء الشفة في النيبال يسبب بعض المشاكل للأجانب، الذين ليسوا معتادين على الماء الذي يشربه النيباليون، ويترتب عليهم إما شراء ماء معبأ واما تنقية الماء بأنفسهم. وبالطبع، يبدو أن الطريقة الأولى تروق أكثر لغالبية السياح، مما يعني تفاقم مشكلة القوارير البلاستيكية الفارغة.
هناك 70 ألف زائر من المشاة سنوياً، يستهلك الواحد منهم ما بين 4 و5 ليترات من الماء يومياً، وتستمر رحلات المشي عادة بين أسبوع وثلاثة أسابيع، وأحياناً أكثر. وتدفع للحمالين النيباليين، الأقوياء جداً، أجور متدنية. وهم يحملون أثقالاً من اللوازم صعوداً في المسالك، ولكن ليس هناك ما يحفزهم على العودة نزولاً وهم يحملون جميع القمامة الناتجة عن الرحلات، اذ لا تُعرض عليهم أجور لنقلها. لذلك فان نظام محطات الماء المأمون يشجع المشاة على أن يجلبوا معهم عدداً صغيراً من القوارير (2 الى 5 تكون كافية عادة) ويعبئوها في محطات على طول الطريق، حيث تتم تنقية الماء بفاعلية كبيرة في مراكز خاصة ضمن المشروع باعتماد تقنيات الترشيح الاوزوني.
فضلاً عن الفوائد البيئية لهذا النظام، هو ينفع الجيب أيضاً. فالماء المكرر أرخص مرتين الى ثلاث مرات من شراء الماء المعبأ الذي يتم نقله صعوداً في الجبل، اذ ان أسعار السلع تزداد كلما ابتعد المرء عن الطرقات. ففي أعالب أنابورنا يكلف ليتر الماء المعبأ نحو 200 روبية (3 دولارات) بينما ليتر الماء المكرر في احدى المحطات يكلف 60 روبية (0,9 دولار). ويدير المحطات أفراد من المجتمع المحلي ـ غالباً جمعيات نسائية ـ لذلك تشكل مصدر دخل للأهالي. وهي أقيمت بالتعاون مع الحكومة النيوزيلندية، ويبعد بعضها عن بعض مسافة تجعل المشاة يمرون بمحطة واحدة على الأقل كل يوم، في المتوسط. ويبنى المزيد منها سنوياً.
نهر الى الهند
المشروع الآخر الأكثر تشدداً هو منطقة مخيم أنابورنا الأساسي، أي قاعدة الانطلاق لتسلق جبل أنابورنا 1 الذي يبلغ ارتفاعه 8091 متراً. وقد تم تصنيفها "منطقة يمنع فيها استعمال الزجاج والمياه المعدنية" منعاً باتاً، اضافة الى كونها "منطقة يمنع فيها استعمال حطب الوقود".
ويزود المشروع السكان المحليين بمعارف حول التنمية المستدامة والزراعة العضوية بالتخلي عن استعمال المواد الكيميائية. وقد أخبرنا عضو المشروع تشيرينغ شيربا أن الجمعية التي تديره "ترسل أناساً كل سنة لتنظيف الوادي". وللأسف، يبدو أن المشكلة الرئيسية هذه الأيام هي اقناع السكان المحليين بفوائد سبل الحياة الصديقة للبيئة. ففي حين أن السياح على العموم يتقيدون بأنظمة المشروع، إلا ان كثيراً من السكان المحليين يغريهم الطعام الذي تنتج عنه مخلفات، مثل المعكرونة السريعة التحضير التي كثيراً ما تشاهد أغلفتها البلاستيكية مرمية في طرقات القرى وفي النهر. وقد أفادنا شيربا بأن "السكان المحليين يقولون ان الهند هي صندوق قمامة النيبال، فيرمون القمامة في النهر الذي يصل الى الهند".
حمّام شمس
يوفر مشروع المحمية الدعم الفني والمالي لبناء محطات كهرمائية، منها 13 محطة تزود القرى بالكهرباء بفاعلية وموثوقية. وتقدم مشاريع الطاقة الشمسية الدعم أيضاً، خصوصاً في المناطق المرتفعة التي يقل تأثرها بالأمطار ويزيد نصيبها من أشعة الشمس. ويطلب من المرشدين والحمالين المحليين قيادة السياح الى نُزُل وبيوت ضيافة مزودة بأجهزة شمسية لتسخين الماء، ويُستعمل الكيروسين في مواقدها بدلاً من الحطب. والحقيقة أن أول حمام ساخن تمتعت به بعدما أمضيت ست أسابيع في النيبال كان على ارتفاع 3000 متر، في قرية معزولة لا هاتف فيها، تحت دوش تسخنه أشعة الشمس.
عموماً، أثبت مشروع محمية أنابورنا أنه ناجح جداً، ويجدر أن يشكل مثالاً لمبادرات بيئية تنفذها منظمات أهلية حول العالم. وللمشروع تأثير دائري: فكلما ازداد عدد السياح الذين يزورون أنابورنا، ازداد دخل المشروع، وأصبحت المنطقة أنظف، وبقيت بذلك تجتذب مزيداً من السياح.
وليم صعب زار النيبال مؤخراً كمدرس متطوع للغة الانكليزية، ضمن مشروع تطوعي ينظمه سنوياً طلاب جامعتي كمبريدج وأكسفورد تحت اسم Oxbridge Volunteers Nepal (OVN). وهو كتب هذا المقال المصور لـ"البيئة والتنمية".