''إنه يلتهم كل شجرة... كل عشب... كل شيء في طريقه!'' كلمات بسيطة لمزارع موريتاني قالها لأحد مسؤولي منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) مستغيثاً من الجراد الصحراوي الذي أتى على كل ما هو أخضر في أرضه. كلمات مقتضبة، لكنها تعبر عن كارثية غزو تلك الآفة.
المشهد لم يكن ليختلف في أكثر من دولة في شمال أفريقيا والمشرق العربي، انتقل إليها الجراد ممارساً مهنته المفضلة وهي قضم كل ما هو أخضر. وخيمت أسرابه بظلال قاتمة على الأجواء العامة في تلك البلدان، ما اضطر معظمها إلى استنفار جميع أجهزتها ومرافقها للتصدي للجحافل الغازية. غير أن القلق كان أشد في بلدان أخرى، ما دفع مثلاً الرئيس السنغالي عبدالله واد إلى طلب معاونة زعماء الدول الثماني الكبرى من أجل القضاء على الجراد، مشدداً على أن ضرر هذه الآفة أكثر فتكاً من أي صراع مسلح!
شراهة الأسراب المهاجرة
الجراد حشرة قارضة آكلة للنباتات، تعيش فرادى أو في جماعات أو أسراب بحسب مرحلة نموها وطورها العمري. تنتمي إلى مجموعة كبيرة من الحشرات تعرف شيوعاً باسم الجنادب، وهي مـن الحشرات المستقيمة الأجنحة التـي تتميز بقوائم خلفية قوية تساعدها على القفز. ويختلف الجراد عن أنواع الجنادب الأخرى بتغير عاداته وشكله وسلوكه عنـد الانتقال مـن طور إلى آخر، إضافة إلـى مقدرته علـى الطيران والهجرة لمسافات طويلة جـداً.
ويعتبر الجراد الصحراوي (Schistocerca gregaria) من أخطر الأنواع، ويتميز بتشكله في تجمعات كبيرة مستوطنة أو أسراب ممتدة مهاجرة. وهو يستوطن المناطق الجافة وشبه الجافة في أفريقيا والشرق الأدنى وجنوب غرب آسيا. وفي أفريقيا، أكثر القارات تضرراً من غزواته، يستوطن أجزاء واسعة من السودان والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالي حيث يتوالد ويتكاثر. غير أنه يقوم موسمياً بالهجرة إلى شمال أفريقيا ثم الشرق الأوسط وربما أبعد من ذلك باتجاه إيران وحدود الهند وباكستان.
تبدأ حشرة الجراد دورة حياتها عندما تضع الأنثى بيضها مدفوناً على عمق 10 ـ 15سنتيمتراً في التربة الرملية، عادة في الوديان والصحارى وضفاف الترع. وعندما تتوافر الظروف البيئية المؤاتية، وأهمها توافر الرطوبة في التربة الحاضنة، تتم عملية فقس البيوض ليخرج منها أول الأطوار وهو الطور اليرقي. وأهم ما يميز هذا الطور لونه الأخضر وعدم تزوده بأجنحة تساعده على الطيران، مما يجعله يعتمد في تنقله على القفز. وهو انفرادي، لا يعيش في جماعات أو أسراب مثل الأطوار التالية. ولسبب غير واضح ومن خلال لغة غير معروفة على وجه اليقين، تبدأ أعداد كبيرة من هذا الطور في الانجذاب بعضها الى بعض لتجد نفسها في النهاية مجتمعة في مكان واحد. واللافت هنا تحول لون الحشرة في هذه المرحلة إلى الأصفر، وبدء ظهور أجنحة تتيح لها الطيران لمسافات طويلة. وفي مرحلة تالية يتحول اللون إلى الأحمر، المميز للطور قبل البالغ الذي هاجمت أسرابه المنطقة العربية في الخريف الماضي. بعد ذلك تبدأ عملية النضوج الجنسي حيث تسبق الإناث الذكور. ومنذ ذلك الحين يبدأ الجراد تشكيل أسراب تهاجر في مسارات محددة، تتم خلالها عملية النضج التناسلي للذكور، ويتحول الطور الناضج التجمعي إلى الطور الأخير المهاجر الذي يعود إلى موطنه الأصلي بعد وضع البيض لبدء دورة حياة جديدة.
تنبع خطورة حشرة الجراد من شراهة الطور المهاجر لكل ما هو أخضر. ومما يزيد خطورة الجراد قدرته الهائلة على التناسل، وتجمّعه في أسراب هائلة تصعب مقاومتها، وارتحاله لمسافات طويلة بعيداً عن موطنه، ووجوده عادة في أماكن يصعب الوصول إليها.
في الماضي والحاضر
ظاهرة غزو الجراد ليست بجديدة على البشرية. وقد سجل فراعنة مصر أحداث تلك الهجمات وآثارها في مخطوطاتهم، كما ذُكرت في الكتب السماوية في أكثر من موضع. وقد حدثت غزوات عالمية خلال القرن الماضي استمر كل منها عدة سنوات، وتسببت جميعها في خسائر اقتصادية فادحة يصعب حصرها.
ويُعد هجوم الجراد الحالي الذي بدأ منذ الصيف الماضي الأسوأ منذ غزوة أواخر الثمانينات، التي أضرت بالمحاصيل الزراعية في أكثر من 30 دولة مسببة خسائر قدرت بنحو 300 مليون دولار. غير أن الخسائر المتوقعة للموجة الحالية قد تفوق ذلك، وقد يصل الأمر إلى حد تهديد ملايين السكان بالمجاعة ونقص الغذاء.
ويعود أصل الهجمة الحالية إلى توافر ظروف طبيعية مثلى لتكاثر تلك الحشرة وهجرتها، ومن ذلك هطول أمطار غزيرة في صيف وخريف 2003 في السودان ومنطقة الساحل وشمال غرب أفريقيا حيث موطن الجراد. وقد هيأهذا قدراً مناسباً من الرطوبة في التربة الرملية المختلط بها بيض الجراد لتساعده على الفقس منتجاً أعداداً حاشدة. بيد أن العوامل البيئية ليست المتهم الوحيد، فالقصور الإداري وضعف الأداء وانعدام وسائل المقاومة الفاعلة في كثير من الدول الأفريقية ساعدت على تصعيد الأزمة وتزايد الخسائر.
ابتدأ الجراد غزوته الحالية بالهجوم على موريتانيا والنيجر أول صيف 2004، منطلقاً من موطنه في شمال غرب أفريقيا والمغرب العربي. لكن بحلول خريف 2004 ظهرت موجات أخرى من الجراد الأحمر في السودان والشمال الأفريقي، خصوصاً مصر وليبيا. ففي مصر، التي لم تشهد مثل هذه الهجمة منذ أكثر من نصف قرن، كان الذعر على أشده، حيث غزت الأسراب طول البلاد وعرضها مسببة هلعاً وجدلاً لافتين. فقد ظهرت أولاً في مدن مطروح والسلوم قادمة من الحدود الليبية، ثم امتدت لتصل إلى القاهرة الكبرى. وبعد ذلك تتابع ظهور الأسراب في أماكن متفرقة لتعبر البحر الأحمر وخليج العقبة من ناحية والبحر المتوسط من ناحية أخرى، غازية البلاد المجاورة السعودية والأردن فإلى لبنان وسورية.
في السعودية ظهرت أسراب الجراد الأحمر في منطقة تبوك شمال غرب المملكة، كما تم الكشف عن تجمعات بالقرب من منفذ الدرة الحدودي مع الأردن، وفي ضبا وينبع على ساحل البحر الأحمر. وظهرت أيضاً في مدينة العقبة في الأردن وفي فلسطين عند إيلات. وفي سورية ظهر بعض الجراد في دمشق وشمال غرب سورية على الساحل المحاذي لحدود تركيا. أما في لبنان فقد ظهرت أسراب الجراد الأحمر بكثافة في البترون وجبيل والشوف وصيدا وحتى في بيروت، مما أثار حالة من اللغط والبلبلة أعادت إلى الأذهان ذكرى أسوأ موجة جراد ضربت لبنان إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914.
المقاومة... كيف ومتى؟
يكافح الجراد بثلاث طرق رئيسية: ميكانيكياً أو يدوياً، وكيميائياً، وبيولوجياً. وتشمل المقاومة الميكانيكية واليدوية جمع الجراد باليد ومكافحته بالحفر والتعفير أو الحرق أو إحداث جلبة بغرض إزعاجه وطرده بعيداً. وهي بصفة عامة وسائل غير فاعلة في القضاء على الأسراب الغازية.
أما المقاومة الكيميائية فتستخدم فيها المبيدات الحشرية. وتطبق على المساحات الخضراء الشاسعة، وتستخدم فيها طائرات الرش والمروحيات والرشاشات اليدوية. وهي طرق فعالة، ولكن يخشى من آثارها الجانبية التي تتمثل في حدوث أضرار صحية للأفراد الذين يأكلون جراداً ملوثاً بالمبيدات، أو نتيجة تلوث المزروعات بالمبيد.
المقاومة البيولوجية والوراثية هي من الطرق الواعدة وإن لم تثبت فعالية كبيرة حتى الآن، كما لم يتم التأكد بعد من سلامتها على الصحة العامة والبيئة. وهي تضم وسائل كثيرة، منها عقر ذكور الجراد وجعلها عقيمة قبل إطلاقها في البرية بغرض وقف إخصاب الإناث. ومنها أيضاً وقف هورمون النمو في الحشرة، والإكثار من أعدائها الطبيعيين. كما تجرى حالياً دراسة استغلال مسببات الأمراض والمستخلصات الفطرية ووسائل بيولوجية مستحدثة أخرى.
لكن طرق المقاومة يجب ألا تنفصل أبداً عن تفعيل الجهود الدولية والإقليمية والوطنية من أجل مقاومة تلك الآفة في معقلها، من خلال القضاء على البيوض واليرقات في مهدها وليس بعد هجرتها الى بلاد ليست مواطنها. كما يجب ألا تنفصل عن دعم الأبحاث العلمية الخاصة بالجراد وتحديث المراكز البحثية المعنية بالكوادر المدربة والمعدات والمبيدات الآمنة، وإنشاء مراكز للرصد المبكر، والأخذ بالطرق الحديثة في المتابعة والمقاومة، ووضع خطط مكافحة وإدارة واضحة.
الفاو تحذر: الخطر ما زال قائماً
الظروف الجوية، خصوصاً نسبة الأمطار ودرجة الحرارة، إضافة إلى جدية جهود المكافحة خلال الشتاء ثم الربيع، سوف تحدد حجم وخطورة الموجة المقبلة من أسراب الجراد، التي يتوقع أن تبدأ مع ربيع 2005 لتستمر حتى نهاية الصيف وربما الخريف المقبلين. فإذا ما تساقطت الأمطار، وكانت الحرارة مناسبة في مناطق التكاثر في السودان واقليم الساحل الأفريقي، فإن ذلك سوف يساعد على فقس بيوض الأجيال السابقة لتنتج أجيالاً جديدة حاشدة، تنطلق بعد ذلك مرتحلة إلى أماكن هجرتها الموسمية، تماماً كما حدث في هجمة الخريف الماضي. من هنا يشدد خبراء الفاو على أن خطر غزو الجراد للقارة الأفريقية ما زال قائماً، وأن "الوضع قد يصبح أكثر سوءاً خلال السنة المقبلة، وربما يمتد الخطر لعدة سنوات مقبلة".
ويبدو أن المنظمة محقة في هذه التحذيرات، فقد غزت مؤخراً مجموعات من الجراد البالغ غير المكتمل النمو شمال مصر وشبه جزيرة سيناء. كما وصلت بعض أسراب الجراد البالغ مناطق التكاثر الشتوية والأراضي المنبسطة لسواحل البحر الأحمر في جنوب مصر واليمن، قرب الحدود مع السعودية، وكذلك شمال شرق السودان، حيثاكتمل نمو البعض منها وبدأت بالتكاثر خلال شهري ديسمبر ويناير (كانون الأول وكانون الثاني) الماضيين.
لكن الأمر لا يخلو من تفاؤل، فهناك أمل بأن تحول العوامل المناخية خلال الفترة المقبلة دون ظهور أسراب جديدة. والأمل أيضاً في أن تشدد الدول المعنية تدابير المقاومة والرصد والمتابعة، مع تنسيق الجهود بينها، وهذا سيقوض إلى حد كبير احتمالية ظهور موجات جديدة من الجراد.
كادر
''خط أخضر'' لجراد الجزائر
باشرت السلطات الجزائرية في شباط (فبراير) حملة إعلانية واسعة، خصوصاً عبر التلفزيون، لإقناع سكان المناطق النائية والريفية الداخلية بالمشاركة في الحرب على الجراد، من خلال الابلاغ عن وجود أسراب.
وتطلب السلطات من سكان هذه المناطق الفقيرة الاتصال بـ''الرقم الاخضر'' المجاني 110 الذي خصص لإدارة هذه العمليات. وهذه المرة الأولى التي تلجأ السلطات الى الاستعانة بـ''رقم أخضر'' لمواجهة أسراب الجراد التي تهدد المحاصيل الزراعية والغطاء الغابي ''السد الأخضر'' الذي تتحصن به الجزائر من تهديدات التصحر الزاحف على المدن الداخلية.