يأتي الربيع كل عام ويجلب معه ذلك الزائر الرائع الذي طال انتظاره، فيحل على الرحب والسعة في الأسواق وعلى الموائد. انه الفريز (الفراولة). الجميع يغريهم مجرد النظر الى هذه الثمار المكتنزة الحمراء، التي يكبر حجمها وتزداد لمعاناً كل موسم. لكن ما هو السر وراء هذا المظهر الجميل؟ الحقيقة مأسوية. فالفريز هذه الأيام مليء ببقايا مواد كيميائية تسبب أخطاراً تهدد أجسامنا. وقد تم قياس مخلفات مبيدات سامة في عينات تم جمعها في لبنان، تجاوزت الحد المسموح بأربعة أضعاف في بعض الأحيان.
استعمال الكيماويات في الزراعة، من أسمدة ومبيدات، بطريقة غير منضبطة، يشكل خطراً حقيقياً على صحة الانسان. وهناك افتقار متزايد الى الثقة في ما نأكل. والفريز من أبرز ضحايا هذا الهوس في استعمال المبيدات، مما دفع اعداداً متزايدة من الناس الى الاحجام عن استهلاك هذه الثمرة المغرية.
كل عام، يصبح موسم الفريز أطول وطعمه يحاكي النكهات الاصطناعية، مما يثبت انه بات يزرع بطريقة تفتقر الى العنصر الطبيعي شيئاً فشيئاً. ولما كانت الشركات المنتجة للمبيد هي الجهات الرئيسية التي تسدي النصائح والارشادات الى المزارعين، فلا عجب ان يزداد باطراد استعمال المواد الكيميائية. والمؤسف ان المزارعين اللبنانيين، الذين يخضعون لضغط التنافس الخارجي، يختارون المبالغة في استخدام المبيدات كضمانة وحيدة لتحقيق معدلات انتاج مرتفعة. فالفريز نبتة حساسة تتعرض لأمراض كثيرة ناتجة عن الحشرات والفطريات، كما أن سعرها أغلى من معظم الفواكه والخضروات المنتجة في الموسم نفسه. لذلك فان السؤال الملح: من يستطيع ان ينبئنا بمدى خطورة الفريز الذي نأكله على أجسامنا؟
سوبرماركت المبيدات
في لبنان، تدرس لجنة الأدوية في وزارة الزراعة المبيدات الجديدة المستوردة، وهي التي تمنح اذناً باستعمالها على الأراضي اللبنانية. ويشير محمد أبوزيد، رئيس هذه اللجنة، الى أنه "رغم عدم السماح نظرياً باستعمال أي مبيدات محظورة عالمياً في لبنان، فان المشكلة تكمن في طريقة استعمالها". أما الدكتورة ليندا كفوري من كلية العلوم الزراعية في الجامعة اللبنانية فتشير الى ان هناك نوعين من المبيدات: "نوع يبقى على سطح النبتة ويمكن ازالته بواسطة الغسيل، والآخر يدخل الى نظامها. النوع الأخير من المبيدات هو الأكثر خطورة، اذ انه لا يتحلل إلا بعد الرش ببضعة أيام. فبغية جني ثمار فريز تحوي أدنى مستوى من مخلفات المبيدات، لا بد ان تكون قد مضت مدة زمنية معينة بين رش المبيدات والقطاف. والمؤسف ان المزراعين في لبنان، في غياب الرقابة، يقطفون الفريز مرة كل يومين، متجاهلين تماماً المدة الموصى بها".
يجب استعمال المبيدات باتباع معايير دقيقة جداً، منها التأكد من أنواع النباتات التي يجب رشها بها، ووقت الرش والمدة الفاصلة بين الرشة والأخرى وما الى ذلك. وبسبب ضعف المعايير وانعدام حملات التوعية والمراقبة من قبل السلطات، فان المبيدات لا تستعمل على النحو الصحيح. فمزارعو الفريز يستعملون، على سبيل المثال، بعض المبيدات المسموح بها على أنواع معينة من الفاكهة، لكنها ممنوعة في زراعة الفريز، وذلك ببساطة لعدم توافر الارشادات والرقابة. هناك حاجة ملحة اليوم الى اعتماد ممارسات زراعية سليمة، خصوصاً في زراعة الفريز. ففي دراسة اجريت عام 1998، وجدت الدكتورة كفوري ان مخلفات ستة مبيدات تمت دراستها تعدت المستويات المسموح بها عالمياً من قبل منظمة الأغذية والزراعة في معظم مواقع انتاج الفريز أثناء الموسم الزراعي. وقد تبين ان الشويفات هي المنطقة الأكثر اعتماداً على المبيدات. وأكدت هذه النتائج دراسة خاصة قامت بها مجلة "البيئة والتنمية" خلال شهر نيسان (أبريل) 2005 على عينات من الفريز، تم شراؤها عشوائياً من مراكز بيع متفرقة، اذ ظهر أنّ مستوى المبيدات يتجاوز في حالات كثيرة المسموح به ويتباين وفق المناطق.
مبيد الفطريات "فيناريمول" Fenarimol غير المعتمد للفريز يستعمل تكراراً طوال الموسم في الشويفات، حيث بلغت مستويات مخلفاته المكتشفة ضعفي الحد الاقصى المسموح به. وفي مناطق أخرى، خصوصاً الجية وجبيل وبيروت، يستعمل هذا المبيد في بعض الأشهر بكميات مرتفعة تلامس الحد الأقصى للمستويات المسموح بها أو تفوقها. وتحدث مادة "فيناريمول" اضطرابات في نشاط الهورمونات الطبيعية في الجسم.
وتبين ان المبيد "بروموبروبيلات" Bromopropylat الذي يستعمل في مكافحة القراد (Acari)، موجود في الفريز المزروع في الشويفات والجية وضواحي بيروت بمستويات تفوق كثيراً الحد الأقصى. وقد تجاوز مستوى مخلفات هذا المبيد في عينات فريز اخذت من الشويفات أربعة أضعاف الحد الأعلى المقبول. وهذا المبيد يحدث اضطراباً في وظائف الكبد والكلية والغدد الدرقية.
أما المبيدات الحشرية فهي تستعمل أيضاً بكميات مرتفعة، مما جعل مخلفاتها في العينات التي تم فحصها تقارب الحد الأقصى أو تتعداه. وقد تبين ان المبيد "ديميثوت" Dimethoate تعدى المستويات المسموح بها في بعض عينات الفريز المأخودة من بيروت ومنطقة الشمال وسهل البقاع. أما في الشويفات وجبيل والجية فقاربت مستوياته الحد الاقصى في بداية الموسم، لكن آثاره الصحية محدودة. كما تم العثور على مخلفات المبيد "سيبرميترين" Cypermethrin بكميات تزيد عن المسموح بنحو 50 في المئة في عينات اخذت من الشويفات طوال الموسم. وفي الجية وبيروت، كانت مستوياته مرتفعة فقط في عينات أخذت خلال أشهر معينة. ويتسبب هذا المبيد بتهيّج في الجلد والجهاز العصبي، كما أن له آثاراً سرطانية.
التحريات والبحث العلمي
دراسة الدكتورة كفوري، التي أكدت استقصاءات "البيئة والتنمية" مؤخراً استمرار مفاعيلها، تبقى، على دقتها، غير شاملة. فهي انحصرت في الكشف عن وجود آثار للمبيدات الشائعة في السوق. لكن لا يمكن اجراء اختبارات مكتملة الا اذا كانت جميع المبيدات المستعملة في زراعة الفريز معروفة. وللأسف، فان أحداً لا تتوافر لديه هذه المعلومات. وقد أكد لنا بعض المطلعين ان مبيدات ممنوعة معينة يجري استيرادها واستخدامها بصورة غير مشروعة في زراعة الفريز.
عادة، يجب ان تجرى اختبارات لمخلفات المبيدات في جميع الأصناف الغذائية التي تباع في السوق. لكن للأسف فان هذا لا يحصل في لبنان. ومن المشاكل الرئيسية قلة المعلومات عن المبيدات التي يجري استعمالها في زراعة الفواكه والخضر. ونحن حالياً لا نعرف بالتأكيد جميع المبيدات التي ترش على الفريز وما هي الجرعات المستخدمة. لذلك فمن الصعب اجراء فحوص مخبرية سريعة وموثوقة وشاملة، لان هذا يتطلب تحريات استقصائية تواكب البحث العلمي. وباختصار، لا يستطيع أحد ضمان ان الفريز الذي نأكله اليوم في لبنان لا يحوي مخلفات كيميائية فوق المستويات المأمونة. وقد أظهرت دراسة أجراها قبل سنوات الدكتور نصري قعوار في كلية الزراعة في الجامعة الأميركية في بيروت ان بعض مزارعي الفريز كانوا يستعملون البنزين المحتوي على الرصاص كمبيد للحشرات. ولكنه أكد ان المشكلة لم تعد موجودة اليوم، بعدما تم منع هذا النوع من البنزين. وأضاف قعوار أن القيام بدراسة شاملة لرواسب المبيدات في الفريز يحتاج الى خمسة مختبرات تعمل بشكل متواصل طوال الموسم، وهذا غير متوافر.
تتعرض نباتات الفريز لكائنات ممرضة وخصوصاً عندما تزرع داخل خيم بلاستيكية. ومن الممارسات الشائعة استخدام غاز "ميثيل برومايد" لتطهير التراب قبل الزرع، مما يضر بطبقة الأوزون، علماً أن لا أثر صحياً مباشراً لهذه المادة. وقد بدأت منذ سنوات برامج نموذجية في عدة دول، بينها لبنان، لاستخدام بدائل "ميثيل برومايد"، تنفيذاً لمندرجات بروتوكول مونتريال لحماية طبقة الأوزون. وعلى أهمية هذه القضية، فمن الغريب اهمال المضاعفات الصحية المباشرة للمبيدات الكيميائية التقليدية. ولا بد من الاشارة الى أن الادارة المتكاملة للآفات تشمل كثيراً من جوانب الانتاج ولا تنحصر في استعمال المبيدات. ويمكن التقليل من امكانية حدوث اضرار نتيجة الأمراض والحشرات من خلال الاختيار الملائم للموقع وتعاقب المحاصيل وانتقاء المحراث ومعالجة التربة وغرس نبتات خالية من الأمراض. وهناك بديل آخر هو استعمال مبيدات عضوية قابلة للتحلل.
وقد أظهرت الأبحاث ان المبيدات تؤثر على مجموعات من الناس بدرجات متفاوتة. والأطفال، نظراً لأنماط نموهم وطبيعة جسمهم وسلوكهم، هم أكثر تعرضاً من البالغين. والتأثيرات المباشرة لجرعة معينة من مبيد على صحة الانسان يمكن ان تسبب أعراضاً متعددة، منها مشاكل رئوية واضطرابات في الجهاز العصبي وتفاقم حالات كانت موجودة من قبل مثل الربو. والمبيدات يمكن ان تسبب تهيجاً في العينين والأنف والحنجرة، وحرقة ووخزاً وحكّة وطفحاً وتقرصاً في البشرة، وغثياناً وتقيوءاً واسهالاً، وسعالاً وصفيراً عند التنفس وصداعاً وتوعكاً عاماً. ولأن هذه الأعراض مشابهة ومماثلة لأعراض تسببها أمراض أخرى، فغالباً ما يخطئ الأطباء في تشخيص التسمم الحاد بالمبيدات.
وعلاوة على ذلك، فان مجموعة كبيرة من الأدلة المخبرية تبين ان بعض المبيدات ترتبط بحدوث أمراض سرطانية واختلال في الوظائف التناسلية واضطراب في الغدد الصمّ وقصور في النمو. لكن التأثيرات الصحية المزمنة الناتجة عن المبيدات تصعب دراستها على البشر، لأن معظم الناس يتعرضون لجرعات منخفضة من خلائط المبيدات، ولأن التأثيرات الصحية المتأخرة يصعب ربطها بحالات تعرض سابقة.
يبقى أن الحفاظ على صحة الناس واجب المؤسسات الرسمية المختصة، التي عليها وضع المعايير وتأمين الارشاد والرقابة. وفي حال الفريز وغيره من المنتجات الزراعية، يجب اجراء فحوص يومية مستمرة في مختبرات مختصة، على عينات يتم جمعها من جميع المناطق، لتحديد مستوى مخلفات المبيدات ومعالجة الخلل فور اكتشافه. ان صحة الناس في الميزان. والى أن يحصل هذا، يُنصح المستهلكون بغسل الثمار جيداً قبل أكلها.