من يتأمل وضع الشعوب العربية على امتداد الوطن العربي الكبير، الثري بإمكاناته الطبيعية الهائلة، يفاجأ برؤية حجم البؤس والفقر والأمية والجهل والمرض والجوع والبطالة والفوضى، والتفرقة التكفيرية والاستبدادات الاستغلالية، وبالتالي الخصومات والتناحرات والاقتتالات.
ولو تأملنا الخيرات الطبيعية الموجودة في الوطن العربي من المحيطين إلى الخليجين (المحيطين الأطلسيوالهندي، والخليجين العربي واسكندرونة)، لرأينا كم هي كبيرة ومتنوعة، بل وكافية لو استغلت الاستغلال الأمثل لأن تجعل حياة المواطن العربي الأولى في العالم بالرفاهية المادية والثقافية والعلمية وبالتالي التقنية.
فعلى سبيل المثال، لو فعّلنا جانباً واحداً من ثوابتنا الروحية الكثيرة التي نتغنى بها لفظياً ليلاً ونهاراً، من دون أن نطبقها كما يجب، مثل أمر القرآن الكريم بالقراءة: "إقرأ باسم ربك الذي خلق"، ودعوة نبيه الأكرم للتعلم: "ليس مني إلا عالم أو متعلم"، لما كان هنالك أمي واحد في العالم الإسلامي، فكيف في الوطن العربي الذي يتجاوز أمّيوه البالغون 70 مليون أمي أبجدياً، ناهيك عن الأمية العلمية والتقنية والديموقراطية والتحررية.
ولننظر أيضاً الى بعض الجوانب المادية الثمينة المهدورة، التي يمكن تقييمها بتريليونات الدولارات سنوياً لو استغلت بشكل علمي، ولكنها تذهب بلا استغلال، ونحن شاخصو الأبصار فاغرو الأفواه ساهمون في جهلنا وبؤسنا وأميتنا، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر يمكن ذكر التالي:
أولاً: تقدر الثروة السمكية الممكن اصطيادها في مياه السواحل العربية الطويلة والدافئة بنحو 10 ملايين طن سنوياً. ولكن المصطاد منها عربياً أقل من 3 ملايين طن، في حين يصطاد الأجانب ما تبقى مجاناً. في الوقت الذي يعاني 90 في المئة من الشعوب العربية سوء التغذية ونقص البروتين والفوسفور واليود الممكن تعويضها من السمك بالدرجة الأولى.
ثانياً: تقيَّم كلفة برميل البترول المستخرج من الفحم بأكثر من 100 دولار. ولكن تحت تأثير قوى الهيمنة الإمبريالية وخوف المنتجين وطمعهم، يباع البترول العربي بأرخص الأسعار وبشكله الخام الذي يكرر ويصنَّع خارج الدول العربية، وبالتالي تكون حصة الدولة العربية المصدرة أقل من 20 في المئة من سعر البرميل النهائي للمستهلك الأخير.
ثالثاً: لا يزال العرب يصدرون منتجاتهم الزراعية والاستخراجية، من القطن والتبغ والحمضيات وحتى الفوسفات والبترول وغيرها، بالشكل الخام، في حين لو تم تصنيعها محلياً لشغّلت ملايين الأيدي العاملة العربية العاطلة عن العمل، ولكانت أضافت مئات مليارات الدولارات من القيم المضافة التصنيعية، فضلاً عن الخبرات العربية العلمية والعملية المكتسبة والتراكمية.
رابعاً: إن تريليونات البترودولارات التي تجمعت عبر التاريخ العربي في أيدي حفنة من المهيمنين على مقدرات شعوبهم، حُوِّلت وتحوَّل الى الخارج لتبذَّر ذات اليمين وذات اليسار، في وقت تعاني 80 في المئة من الشعوب العربية الفقر والحرمان والعجز عن إشباع الحاجات الضرورية، ولو استثمرت تلك التريليونات للتنمية لما كانت تلك اللوحة العربية المأسوية الحالية.
خامساً: إن الطاقة الشمسية والرياحية والباطنية، المهدورة في صحرائنا العربية المشمسة اللامتناهية، يمكن تقييمها بمليارات الدولارات سنوياً لو استغلت، كما تستغل في ألمانيا مثلاً رغم قلة الأشهر المشمسة هناك.
سادساً: هناك مليارات الأمتار المكعبة من المياه الفائضة شتاء، غير المحفوظة وراء السدود اللازمة والمهدورة في البحر رغم صلاحيتها للزراعة كما للشرب بعد معالجتها. وتقدر كلفة إعادة تحليتها من مياه البحر بمئات مليارات الدولارات سنوياً لاستعمالها زراعياً وغذائياً وصحياً وسياحياً، في حين أن بناء السدود يوفر ذلك، وهذه ربما تغطي تكاليفها في أقل من خمس سنوات.
سابعاً: إن الطاقة السياحية المناخية والشاطئية والجمالية والآثارية الهائلة، من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي ومن المحيط الهندي إلى خليج اسكندرونة مروراً بوادي النيل وما بين النهرين عبر عشرات الحضارات المتراكمة، لم تستغل حتى 5 في المئة من طاقتها الإنتاجية والاستيعابية. ولذلك فهي بمجموعها لم تجذب من السياح الأجانب ما تجذبه دولة أوروبية متوسطية واحدة مثل إسبانيا سنوياً، أو مدينة واحدة مثل باريس.
ثامناً: هدر الطاقة التشريعية، وعدم تفعيل طاقة المرأة كإنسان كامل الإنسانية، وعدم تفعيل مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والأحزاب والثقافات الاثنية والأيديولوجية الغنية وإمكانيات حقوق التعبير والإبداع، وبالتالي حرية النقد وتصويب الخطأ في حينه، وبما يمنع الكوارث الوطنية الناتجة عن القرارات والتصرفات الفردية الخاطئة والخرقاء، وتلك كلها طاقات هائلة كان بالإمكان أن تصب في طاحونة الوطن لو تم استغلالها، ولكن عدم استغلالها جعلها تضيع كضياع طاقات الشمس والرياح والحرارة الأرضية ومياه الفيضانات وغيرها.
تاسعاً: لعل الهدر الأكبر هو هدر الطاقة البشرية المتمثلة في العقول المبدعة المهاجرة، رغم ما صرف على إعدادها محلياً، كما في إمكانات الشباب العربي العاطل عن العمل وهو في أوج قوته الإنتاجية الفيزيولوجية والعصبية والفكرية.
ولكن ما يعزينا أنه ما زال في الإمكان تدارك الكثير مما تقدم ذكره من الهدر والتبذير، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السفينة الغارقة، على مبدأ أن القدوم وإن كان متأخراً خير من اللاوصول أبداً.