كشفت دراسة أجرتها خدمة ''بيئة على الخط'' بؤراً خطيرة للتلوث على طول الشاطئ اللبناني. لكن الدراسة وجدت، في المقابل، أن معظم الشاطئ ما زال صالحاً للسباحة وصيد السمك. وقد جمع البرنامج، الذي تديره مجلة ''البيئة والتنمية''، عينات من مواقع متعددة خلال شهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2005، تم فحصها في مختبرات الجامعة الأميركية في بيروت.
وأكدت نتائج الفحوص المخبرية لـ''بيئة على الخط'' استنتاجات الدراسات الميدانية الشهرية التي توصل إليها برنامج المراقبة البيئية للشاطئ اللبناني، الذي ينفذه المركز الوطني لعلوم البحار التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية. وبناء على مقارنة علمية لنتائج التلوث البكتيري ودراسات أخرى حول التلوث الكيميائي بالمعادن الثقيلة، وضعت ''بيئة على الخط'' خريطةللسباحة الآمنة، أظهرت أن مواقع الخطر تنحصر في أقسام محددة من الشاطئ حيث توجد تركيزات مصدرها تصريف المجارير والفضلات الصناعية بلا معالجة.
شاطئ أنطلياس أظهر أسوأ معدلات التلوث البكتيري، إذ تجاوز القياس في عينات ''بيئة على الخط'' الحد المسموح بمئة مرة (أكثر من fc 10,000 في كـل 100 مليليتر، مقارنـة مع حـد الخطر وهـو fc 100 في كل 100 مليليتر). واذا كان شاطئ انطلياس لا يستخدم للسباحة، فقد جاءت نتائج عينات أخذت في منطقة مصب نهر الكلب، التي تقوم عليها بعض المنتجعات الساحلية، سيئة أيضاً، فتجاوزت حد البكتيريا المسموح بأكثر من مئة ضعف. وتطابقت هذه النتيجة مع معدلات دراسة المركز الوطني لعلوم البحار لشاطئ انطلياس خلال السنوات السابقة. وكانت فحوص أجرتها منظمة ''غرينبيس'' أظهرت معدلات مرتفعة من الزئبق على شاطئ انطلياس، من مخلفات مصانع دباغة الجلود غير المعالجة.
وتبين أن منطقة الخطر الثالثة تقع في محيط الرملة البيضاء، حيث أظهرت تحاليل العينات التي جمعتها ''البيئة والتنمية'' تلوثاً بكتيرياً بلغ 20 ضعف الحد المسموح. وهذه النتيجة أفضل من معدلات المركز الوطني لعلوم البحار خلال السنوات السابقة، التي تخطت الحد المسموح بنحو 50 ضعفاً. لكن على الرغم من انخفاض تلوث الرملة البيضاء الى النصف، فهو ما زال فوق المعدل بأضعاف. وتم قياس معدلات مرتفعة في محيط شاطئ المنارة. أما منطقة التلوث البكتيري الرابعة فتم تحديدها على شاطئ صيدا، حيث بلغت 40 ضعف الحد المسموح وفق عينات ''البيئة والتنمية''، في حين وصل المعدل الى 10 أضعاف في قياسات المركز الوطني لعلوم البحار.
تضاف إلى بؤر التلوث البكتيري الأربع هذه بؤرة تلوث كيميائي على شاطئ شكا ـ سلعاتا. فقد تبين من دراسة أجراها الدكتور خالد نخلة من المركز الوطني لعلوم البحار عامي 2002 و2003 أن محتوى معدني الكادميوم والرصاص يتجاوز الحدود المقبولة بنحو عشرة أضعاف، وهو لا ينحصر في المياه القريبة من الشاطئ بل يصل الى مسافة ألف متر داخل البحر. كما أن معدل الحموضة في مياه الشاطئ الملاصق للمصنع أعلى من حدود السلامة بأضعاف، مما يشكل خطراً على السابحين.
وتشكل النفايات الصلبة تهديداً رئيسياً للشاطئ اللبناني، حيث توجد عدة مكبات على طول الخط الساحلي. واذا كانت التيارات البحرية تساعد في تخفيف حدة التلوث، فهي تنشر جميع أنواع النفايات على الشاطئ، مغطية المسابح الرملية القليلة المتبقية. وعدا عن محيط المكبات الكبرى على شواطئ صيدا وبرج حمود وطرابلس، تغطي النفايات الصلبة مساحات كبرى من الشواطئ الرملية، خاصة على سواحل عكار في أقصى الشمال. وينتج عنها في معظم الحالات تلوّث بصري، اضافة الى أنها تمنع السابحين من الوصول الى الشاطئ.
إلا أن معظم تلوث الشاطئ اللبناني يأتي من مياه الصرف الصحي غير المعالجة، التي يصل منها الى البحر نصف مليون متر مكعب يومياً. وإلى أن ينتهي بناء 12 محطة تكرير ساحلية يُنتظر إنجازها سنة 2012، على السابحين تجنُّب مصبات الأنهار والمجاري. وفي ما عدا هذا، يمكنهم أن يتمتعوا بالسباحة على معظم الشاطئ اللبناني، واستخدام برك السباحة ذات المياه المكررة في المنتجعات التي تقع ضمن المناطق غير المأمونة. وقد تبين أن أنظف الشواطئ، وفق فحوصات ''البيئة والتنمية'' التي أكدتها مجموعة دراسات أخرى، تتركز في الأطراف، اضافة الى شواطئ محاذية لجبيل والبترون وجونية والدامور والجية والرميلة والناقورة. وفي ما عدا بعض بؤر التلوث الحاد، فإن الأجزاء الكبرى من شواطئ بيروت صالحة للسباحة.
اختبارات في 21 محطة
اختبار البكتيريا القولونية (fecal coliform-fc) مؤشر رئيسي على صلاحية المياه للسباحة. وبحسب منظمة الصحة العالمية، لا يسمح بالاستحمام في أي مسبحعندما تزيد الكائنات القولونية على 100 مستعمرة في كل 100 مليليتر في أكثر من 50 في المئة من العينات التي يتم اختبارها، او اذا زادت البكتيريا القولونية البرازية في 10 في المئة من العينات على 1000 مستعمرة في كل 100 مليليتر.
يجري المركز الوطني لعلوم البحار اختبارات شهرية منتظمة لمراقبة مستوى البكتيريا القولونية البرازية في المياه اللبنانية، في 21 محطة متفرقة تمتد من طرابلس شمالاً الى الناقورة جنوباً. وبحسب مقاييس منظمة الصحة العالمية، تظهر مجموعة الاختبارات التي أجريت عامي 2001 و2002 وجود أربع مواقع تنذر بخطر، مما يوجب منع السباحة في محيطها، وهي انطلياس والمنارة (بيروت) والرملة البيضاء (بيروت) وصيدا. لكن الدكتور غابي خلف، مدير المركز الوطني لعلوم البحار، ابلغ مجلة ''البيئة والتنمية'' ان مجموعة الاختبارات التي أجريت في عامي 2003 و2004، والتي تتم دراستها حالياً، تظهر انخفاضاً في مستوى البكتيريا القولونية البرازية في الرملة البيضاء عن السابق، وربما كان السبب ان بعض مياه المجارير المتدفقة من جنوب بيروت بدأت معالجتها في محطة معالجة المياه المبتذلة في منطقة الغدير. وقد أكدت فحوص ''البيئة والتنمية'' الأخيرة هذا الاستنتاج.
وتقول الدكتورة ماري عبود أبي صعب، الباحثة في المركز الوطني لعلوم البحار، ان لبنان محظوظ بطبيعته ومناخه اللذين يسهمان في تخفيض مستوى البكتيريا القولونية البرازية من خلال العملية الطبيعية: ''لو أخذنا في الاعتبار ان غالبية مياه الصرف المنزلية غير المعالجة تصب في البحر، لوجدنا ان الوضع يمكن ان يكون أسوأ بكثير''. والحقيقة ان الفضل في ذلك يعود الى استقامة الشاطئ وغياب الخلجان المقفلة، مما يؤدي الى تشتيت مياه الصرف، فينخفض مستوى البكتيريا القولونية البرازية. ويلعب مناخ لبنان دوراً رئيسياً في ''معالجة'' مياه الصرف، لأن الرياح الجنوبية الغربية تسبب اختلاطاً في البحر يساعد في مزج مياه الصرف بمياه البحر، مما يخفض مستوى البكتيريا القولونية البرازية. كما ان وجود 300 يوم مشمس في السنة يسرع تحلل المواد العضوية في مياه الصرف.
امراض يلتقطها السابحون
وجدت الدراسات علاقة قوية بين المياه البحرية الملوثة بمياه الصرف وأمراض السابحين، كما أن هناك علاقة مباشرة بين الأمراض المعديّة المعوية المرتبطة بالسباحة ونوعية مياه الاستحمام. والأمراض المرتبطة بالسباحة لا تكون حادة غالباً ولا تهدد الحياة، لكنها قد تسبب معاناة كبيرة تؤثر في لياقة الأشخاص المتأثرين وراحتهم ورفاههم. وبعض حالات الالتهاب المعدي المعوي يمكن ان تكون خطيرة لدى بعض الفئات، مثل الأطفال والمسنين وأولئك الذين يعانون من ضعف في أجهزة المناعة.
والأمراض المرتبطة بالسباحة يمكن ان تؤدي الى جفاف الماء في الجسم وان تسبب تقيؤاً، وفي حالات قصوى انهياراً. والسابح الذي يلتقط مرضاً تنقله مياه الصرف يمكن ان ينقل المرض الى ألوف الأشخاص. ولاجتناب هذه المضايقات، ينصح بالسباحة بعيداً ما أمكن عن مصبات الأنهار، لأن الأنهار تنقل مياه الصرف، كما ينصح بالاستحمام بماء نظيف بعد التعرض مباشرة لمياه ملوثة.
اختبارات غرينبيس
لا توجد معلومات رسمية عن التلوث الكيميائي لمياه البحر في لبنان. لكن ''غرينبيس'' البحر المتوسط قامت في تشرين الأول (اكتوبر) 1997 بجولة على الشاطئ من صور الى عكار، واخذت أكثر من 100 عينة من مصبات مياه الصرف المنزلية والصناعية. وقد أظهرت نتائج الاختبارات العينية التي اجريت في مختبر ''غرينبيس'' الدولي في جامعة اكستر البريطانية ان مياه الصرف المنزلية الممزوجة بمياه الصرف الصناعي تلوث الشاطئ. وأظهر التحليل ان أكثر من ثلثي الرسوبيات البحرية التي تم جمعها تحتوي على مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة والملوثات العضوية. وفي بعض الحالات، يزيد المستوى كثيراً عن التركيزات في الحالات الطبيعية. ولكن تأكيد أثر هذه النتائج يتطلب فحوصات مستمرة، اذ لا يمكن الاعتماد على عينة عشوائية واحدة.
المعادن الثقيلة هي مكونات طبيعية لقشرة الأرض، لكن الأنشطة البشرية عدلت الى حد كبير الدورات البيوكيميائية لبعض المعادن الثقيلة ولتوازنها. وهي ملوثات بيئية ثابتة ودائمة الأثر لأنها لا تتحلل ولا تدمر، لذلك تتراكم في الأتربة والرسوبيات. ووجود مستويات مفرطة من هذه المعادن في البيئة البحرية يمكن ان يؤثر على الثروة النباتية البحرية ويشكل خطراً على مستهلكي المأكولات البحرية. ومن المعادن الثقيلة الخطرة المتسربة الى البحر الزئبق والرصاص والنحاس والكادميوم والزنك.
الزئبق يوجد بأشكال عضوية ولا عضوية، والأشكال العضوية أكثر سمية من الأملاح اللاعضوية. وبحسب ما هو معروف، فان تعرض الانسان لزئبق مثيلي لا يحدث الا من خلال استهلاك أسماك ومأكولات بحرية ملوثة. وكثير من الكائنات البحرية التي تؤكل يمكن أن تتراكم في أجسامها كميات كبيرة من الزئبق نتيجة غذائها، دون ان تسبب لها اذى على ما يبدو، لكنها تضر بصحة الانسان. وقد بينت فحوصات ''غرينبيس'' أن مياه صور وجونية وبرج حمود تحتوي على مستوى مرتفع من الزئبق، ويزيد المستوى في بعض الحالات عن خمسة أضعاف الحد الأقصى المسموح. وفي منطقة نهر الكلب، تبين ان الرسوبيات تحتوي على مستوى مرتفع جداً من الزئبق بلغ 8,1 مليغرام في كل كيلوغرام (الحد الأقصى يجب الا يتعدى 0,2 مليغرام)، وهذا قد يكون ناتجاً من صناعة المنسوجات أو الأصباغ أو الدهانات.
الرصاص يمكن ان يسبب تلفاً في الجهاز العصبي المركزي لا يمكن عكسه، وانخفاضاً في الذكاء نتيجة جرعات منخفضة للغاية. وعلى مستويات أعلى من التعرض، يمكن ان يسبب فقر دم (انيميا) وتلفاًحاداً في الكليتين. والأطفال معرضون بنوع خاص للتسمم بالرصاص لأن أجسامهم تمتصه بالنسبة الى وزنهم أكثر من البالغين. وقد أظهرت العينات مستوى مرتفعاً من الرصاص، خصوصاً قرب بلدة حالات، حيث يفوق الحد الأقصى المسموح بأكثر من خمسة أضعاف. وأكدت النسبة المرتفعة من الرصاص في مياه شاطئ سلعاتا والدورة دراسة الدكتور نخله، حيث تم قياس تركيزات تجاوزت عشرة أضعاف المعدل.
الكادميوم هو من العناصر الخطرة جداً على جسم الانسان. وهذا العنصر ومحاليل مركباته سامة للغاية حتى بتركيزات منخفضة، وهي تتراكم طبيعياً في الكائنات الحية والنظم الايكولوجية. وابتلاع كمية ملحوظة من الكادميوم يسبب تسمماً فورياً وتلفاً في الكبد والكليتين. والمركبات المحتوية على كادميوم هي مسرطنة.
وقد أظهرت دراسة الدكتور نخله ان تركيز الكادميوم في الرخويات والاسفنج قبالة المجمع الصناعي في سلعاتا يشير الى مستوى مرتفعمن التلوث الذي يغطي مسافة تبعد 1000 متر عن الشاطئ. وبينت الدراسة أن الرياح مسؤولة أساساً عن انتشار التلوث. فقد وصل محتوى الكادميوم الى 150 نانوغرام بالليتر، مقارنة مع 5 في البحر الأحمر وبين 0,5 و12 نانوغرام كمعدل في البحر المتوسط.
الحل الفعّال للتقليل من تلوث المياه البحرية هو تبني تقنيات تصنيع أنظف. كما أن انجاز محطات تكرير الصرف الصحي ومعالجة مشكلة النفايات الصلبة ضروريان لتنظيف بحر لبنان وشواطئه، التي تتمتع بميزات تؤهلها لأن تكون من أبرز مراكز الاستقطاب السياحي على المتوسط.
كادر
المركز الوطني لعلوم البحار
معظم الدراسات حول الشاطئ اللبناني يتولاها المركز الوطني لعلوم البحار التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، ومقره على شاطئ البترون في شمال لبنان.
تأسس المركز عام 1974 بمساعدة مالية وفنية من مؤسسة فورد والاونيسكو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وهويُعنى بدراسة بيولوجيا الاسماك والشواطئ وبيئاتها وفيزياء الشواطئ والتلوث الكيميائي والبيولوجي. وهو الى ذلك نقطة تنسيق معتمدة من منظمة علوم المحيطات وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والبرنامج الاقليمي لتربية الاحياء البحرية في حوض المتوسط، وغيرها من المنظمات الدولية والاقليمية.
يتولى المركز عملية رقابة بيئية دورية للشاطئ اللبناني. ومن مشاريعه استخدام المعطيات الاستشعارية للمياه الساحلية حول مدينة طرابلس لمراقبة وادارة تلوث المياه البحرية، وتتبع حركة الملوثات العضوية واللاعضوية الناتجة عن النشاط البشري في الاوساط الشاطئية للساحل السوري ـ اللبناني ووضع النموذج الرياضي لذلك. كما يقوم بدراسة التلوث البحري وتدهور الشاطئ اللبناني لتقييم الاخطار والحماية، ضمن برنامج تعاون لبناني ـ فرنسي. وينشط في الشبكة المتوسطية لتقييم وتحسين مراقبة وتنبؤ العمليات البحرية في منطقة البحر المتوسط (مشروع ماما).