لن تكون حماية البيئة هدفاً واقعياً إذا استمر عزلها عن التنمية الواقعية. سيردّ البعض أن الجواب الطبيعي على هذه المعادلة هو في ''التنمية المستدامة''، على اعتبار أنها توازن بين النمو الاقتصادي والاجتماعي وحماية الموارد الطبيعية. غير أن المشكلة ليست في هذه النظرية الرائعة، بل في الفهم السيئ لها، الذي يتساوى فيه نقيضان. فهناك من قرر أن يفهم ''التنمية المستدامة'' على أنها استمرار لممارسات التنمية المتوحشة بأي ثمن، في مواجهة الذين يرون فيها عودة عاطفية إلى الطبيعة، ترفض كل أشكال التطور العلمي والتقدم التكنولوجي. وهناك من يتبنى النظريتين معاً، كل يوم واحدة، وفق المصلحة أو رغبات الجمهور.
فالذين قرروا ردم الشواطئ لبناء منتجعات سياحية، من ''درة الخليج'' إلى ''لؤلؤته'' و''نخلته''، يقولون إن البحر يعيد بناء نفسه بعد الردم. هذا صحيح إذا تم اختيار الموقع المناسب، لكنه يبقى موضع شك إذا حصلت دراسة الأثر البيئي للشكليات فقط بهدف تبرير المشروع، بعد تقرير موقعه النهائي، بدلاً من اجراء دراسة متكاملة مسبقة لاختيار الموقع الأقل ضرراً على البيئة البحرية. أما الذين قرروا بناء منتجع على أعلى قمم لبنان وفوق أهم خزاناته المائية، فقد خولوا لأنفسهم، باسم التنمية السياحية، إعداد الخرائط النهائية للمشروع، الذي يمتد على مساحة 96 كيلومتراً مربعاً، قبل القيام بدراسة بيئية مفصلة على الأرض. وكأنهم أرادوا استباق صدور ''قانون القمم''، الذي من المفترض أن ينظم أشغال البناء والتطوير العمراني في الأماكن المرتفعة، حماية لمصادر المياه والتنوع البيولوجي. ولئلا يُساء فهمنا، فنحن مع تطوير سواحل الخليج ومرتفعات لبنان، لكن في الموقع المناسب وبالأساليب الملائمة، وفق نتائج دراسة تفصيلية للأثر البيئي، يتم اجراؤها قبل وضع الخرائط النهائية، وتتيح مجال الاختيار بين بدائل، بعد نشر النتائج ومناقشتها مع الجمهور، ولا سيما الاختصاصيين والمجتمع المحلي ودعاة حماية البيئة.
في الضفة المقابلة، نسمع نظريات تفسّر التنمية المستدامة وكأنها عيش مريح في ظل شجرة على ضفة نهر. وإذا كانت هذه الصورة الرومانسيّة تصحّ في الأحلام، فهي لا تنتمي إلى أرض الواقع. مسؤول في إحدى وزارات البيئة يحلو له ترديد قصة عن صياد سمك ليفسر مفهومه للتنمية المستدامة: كان رجل يصطاد سمكاً على ضفة نهر، وبعد أن يحصل على كفاف يومه يكمل ساعات النهار باللعب واللهو والتمتع بالطبيعة، وتتابع القصة: مر بقربه يوماً صناعي كبير، فقال له أنا أعمل بجد لبناء المصانع والانتاج وخلق فرص عمل، وعندما أتقاعد سأصطاد سمكاً مثلك وأتمتع بالطبيعة. ومرّ بقربه مهندس فأخبره أنه يبني الطرقات والمدارس والبيوت، ويتمنى عندما يتقاعد أن يقضي وقتهفي الطبيعة. وجاءه عالم فيزياء، فقال إنه يتمنى أن يرافقه في صيد السمك بعدما ينتهي من تطوير بعض الاختراعات. ووفق صديقنا المسؤول البيئي، أجاب صياد السمك: لقد سبقتكم جميعاً، فأنا منذ الآن أصطاد من السمك ما يكفي لسد رمقي، وأتمتع بالطبيعة. وخلص الى الاستنتاج: هذه هي التنمية المستدامة!
لو صدّق الصناعي والمهندس وعالم الفيزياء ما قاله صياد السمك، لقضى أكثر من نصف سكان العالم جوعاً. ففي عالم يسكنه ستة مليارات، لا يمكن إطعام الناس من نظريات الكفاف. ولولا طموح الصناعي والمهندس والعالم والفيلسوف للارتقاء بالبشرية، منذ آلاف السنين، لكان العالم يقبع في مجاهل التخلف. والتكنولوجيا، التي نحمّل بعض تطبيقاتها مسؤولية التسبب بتدمير مرتكزات التوازن البيئي، هي وحدها الكفيلة بالحفاظ على هذا التوازن إذا ما أُحسن استخدامها. فلنتذكر أن قمراً اصطناعياً واحداً، وزنه بضع مئات من الكيلوغرامات، يقوم اليوم بمهمة كانت تتطلب قبل سنوات آلاف الأطنان من الكابلات التي تمتد تحت المحيطات وعبر الجبال، بما في هذا من استنزاف للموارد وتدمير للطبيعة.
إن أفضل وسيلة لحماية الموارد هي تنميتها على نحو متوازن لخدمة حاجات البشر، وليس وضعها في متحف. وهذا يحققه الانسان الطموح النشيط الذي يعتمد العلم والتكنولوجيا ويُعمل العقل، وليس الخامل الذي يكتفي بصيد سمكة ليأكلها، ثم يضيّع الوقت حتى يجوع، فيصطاد غيرها. هذه النظرية تضع الانسان في موقف دفاعي، إذ تعتبره الحلقة الأضعف في سلسلة الكائنات وعناصر الطبيعة، وتبرر هذا بالقول إن البشر، وإن بلغ عددهم ستة مليارات، فهم أقل من آلاف المليارات من الحشرات والحيوانات. كما تعطي مثلاً على ضعف الانسان أنه إذا كان معدل عمره لا يتجاوز 75 سنة، فعمر بعض الأشجار يصل إلى آلاف السنين.
على الانسان، بلا شك، أن يتواضع أمام جبروت الطبيعة، وعليه أن يحافظ على التوازن بين الكائنات والموارد. ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أنه الحلقة الأضعف، لأن القوة لا تقاس بالكمية والسنوات، بل بالنوعية. فالعقل يجعل من الانسان الحلقة الأذكى، التي تستطيع نقل العلم والفكر والفن من جيل الى جيل. والانسان، بهذا المعنى، هو الأطول عمراً بين جميع الكائنات، لأن عمره من عمر العقل.
أظهر مؤشر الاستدامة البيئية الذي صدر مؤخراً عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس تراجعاً في الاداء البيئي لمعظم الدول العربية، مقارنة بتقرير سنة 2002. وفي ما عدا استثناءات قليلة، مثل عُمان التي تقدمت 37 نقطة والامارات التي تقدمت 31 نقطة، تدهورت مراتب الدول الأخرى على نحو ينذر بالخطر، مثل مصر بتراجع 41 نقطة والمغرب بتراجع 32 نقطة والسودان بتراجع 28 نقطة ولبنان بتراجع 23 نقطة. فهل كنا ننتظر أداء أفضل في ظل هذه الرؤية المجتزأة لمفهوم البيئة والتنمية التي يتبناها بعض المسؤولين؟
لا تصدّقوا أن بديل التنمية المتوحشة هو الخمول، ولا خيار بينهما. إن إرادة الحياة، التي يحركها عقل الانسان، وحدها مؤهلة لانقاذ هذا الكوكب المهدد.
|