ولد محمد عبدالفتاح القصّاص عام 1921، في قرية برج البرلس الساحلية بمحافظة كفر الشيخ شمال الدلتا. ونال تعليمه الثانوي في الاسكندرية، ثم حصل على درجة بكالوريوس في العلوم ـ تخصص علم النبات ـ من كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1944. وأوفدته الدولة في بعثة، فنال عام 1950 درجة دكتوراه في علم البيئة النباتية من جامعة كمبريدج البريطانية. وعاد الى مصر ليلتحق بهيئة التدريس في كلية العلوم بجامعة القاهرة، حيث بقي في آخر سني حياته أستاذ شرف.
عند عودته الى الوطن، شرع الدكتور القصّاص في دراسة البيئة النباتية في الصحارى المصرية. وانتهج نهجا جديداً، إذ عكف على دراسة آليات تكوُّن أنماط توزيع النباتات في الصحراء، بدل الاكتفاء بمجرد وصف هذه الأنماط. وشاركه في هذه الدراسات الدكتور مصطفى إمام. وفي أواخر الخمسينات، اشترك مع ثلاثة علماء من أوروبا في تنفيذ مشروع مشترك بين منظمة اليونسكو ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لوضع خريطة بيومناخية وأخرى للغطاء النباتي في منطقة حوض البحر المتوسط. ولتنفيذ ذلك جاب الصحارى المصرية مع لفيف من تلاميذه النجباء، وشاركه في هذه الدراسة الدكتور محمود عبدالقوي زهران والدكتور سامي الأبيض والدكتور وليم عبداللـه جرجس. وقد مكنته هذه الدراسات الميدانية من أن يتفهم بكثير من الوضوح آليات حياة النبات في الصحراء والعوامل البيئية التي تؤثر عليها.
عمل الدكتور القصّاص في جامعة الخرطوم بالسودان فترتين، أولاهما من 1952 الى 1956 والثانية من 1964 الى 1968. في الفترة الأولى شاهد ظاهرة التصحر وتمكن من قياس معدلاتها، وفي الفترة الثانية تأكد من دقة ملاحظاته وتحقق من أن قياساته مخيفة فعلاً. وبين الفترتين، استطاع أن يقيس أيضاً معدلات النحر لشاطئ الدلتا عند قريته الساحلية قبل وبعد إتمام بناء السد العالي في أسوان. وعندما قدم نتائج هذه البحوث في المحافل العلمية أواخر الستينات، بهتت الأوساط العلمية العالمية من دقة قياساته ورصانة استنتاجاته وتحذيراته.
رائد للتنمية المستدامة
كان هذا هو الوقت الذي أخذت تتبلور فيه الحركة البيئية العالمية وتتشكل أجهزتها. وقد دعا رجل الأعمال الايطالي الشهير أوريليو بيتشي الدكتور القصّاص للانضمام الى ما سماه «نادي روما»، وهو مجموعة من كبار الخبراء العلميين العالميين، للتباحث في أمور العالم وتوعية الشعوب والقادة بالمخاطر البيئية المحتملة ونشر الكتب التي تضم ما ينتهون اليه من تحذيرات. وكان أول هذه الكتب، والذي أثار ضجة شديدة في العالم، كتاب «حدود النمو» (LimitstoGrowth) الذي نشر عام 1972. وصار القصّاص بذلك في موقع يتيح له أن يعطي نصائحه القيمة لمشاريع المنتدى البحثية ولمطبوعاته.
انتخب القصّاص نائباً لرئيس اللجنة العلمية للمسائل البيئية (SCOBE) التي أنشأها المجلس الدولي للاتحادات العلمية في باريس. فطلب من اللجنة الاهتمام بالمسائل البيئية للدول النامية، اذ أن المفهوم السائد وقتئذ كان أن المشاكل البيئية ليست سوى مشاكل التلوث في الدول الصناعية. وقد استجابت اللجنة لطلبه، وعقدت الاجتماع الدولي الأول للعلوم البيئية في الدول النامية بمدينة كانبرا عاصمة اوستراليا عام 1971، والثاني في نيروبي عاصمة كينيا عام 1974، والثالث في القاهرة عام 1983. وكان القصّاص هو الذي يضع المحاور ويختار المدعوين ويشرف على نشر النتائج. وفي 1971 عاون في إنشاء برنامج الانسان والمحيط الحيوي (MAB) في اليونسكو.
في العام 1972، حينما عقد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الانسانية في استوكهولم بالسويد، قام الدكتور محمد القصّاص بجهد كبير لاعداد التقرير الوطني المصري. وشارك كعضو في الوفد المصري الذي رأسه الدكتور مصطفى كمال طلبه، صديق عمره الذي صار في ما بعد المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي انبثق عن المؤتمر. وفي المؤتمر ذاته، شارك القصّاص في وفد المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، التي كان قد شارك في إنشائها قبل ذلك بعامين. وهو عمل مديراً مساعداً للعلوم في المنظمة من 1971 الى 1978، وأنشأ خلال هذه الفترة عدة برامج بيئية للعمل العربي المشترك، منها: برنامج حماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، وبرنامج التربية البيئية على مختلف المستويات، ومشروع الحزام الأخضر لشمال أفريقيا، وغيرها. وعمل بعد ذلك كبير المستشارين في برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
انتخب القصّاص عـام 1978 رئيساً للاتحاد الدولي لصـون الطبيعـة (IUCN) في سويسرا، وظل في منصبه هذا حتى 1984. ومن خلال هذا المنصب، تعاون مع الدكتور طلبه في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا الذي كان رئيساً للصندوق العالمي للحياة البرية (WWF)، في إصدار الاستراتيجية العالمية لصون الطبيعة. وهي الوثيقة التي حوت لأول مرة تعبير «التنمية المستدامة»، الذي تقدمت به اللجنة الدولية للتنمية والبيئة التي شكلتها الأمم المتحدة عام 1983 لدراسة العلاقة بين هذين الأمرين الملحَّين في العالم. وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مفهوم التنمية المستدامة الذي رفعته اليها تلك اللجنة عام 1987، وأوصت أن تهتدي جميع جهود التنمية في العالم بمبادئه.
بالاضافة الى كل تلك الأعمال الجليلة، كان الدكتور القصّاص في مقدمة مجموعة العلماء الذين أعدّوا لمؤتمر الأمم المتحدة للتصحر الذي عقد في نيروبي عام 1977، ووضعوا خطة العمل العالمية لمكافحة التصحر، التي أسفرت في النهاية عن توقيع الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحر عام 1994. وكان في سنواته الأخيرة من أشد المتحمسين للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، الذي شارك في تأسيسه. ويمكن القول إن أستاذنا شارك في كل برنامج دولي للبيئة وفي كل منظمة دولية للبيئة ظهرت الى الوجود في العقود الأربعة الأخيرة.
على الصعيد الوطني، لا بد أن نذكر أولاً إنشاء الدكتور القصّاص مدرسة علمية من مجموعة متميزة من الطلاب والباحثين في مجال البيئة النباتية وعلوم البيئة عموماً. وهو الذي اقترح على جامعة القاهرة انشاء قسم للموارد الطبيعية ضمن معهد البحوث والدراسات الأفريقية، الأمر الذي تم تنفيذه عام 1971. وقد عمل على إنشاء اللجان الوطنية المصرية لبرنامج الانسان والمحيط الحيوي واللجنة العلمية للمسائل البيئية والاتحاد الدولي لصون الطبيعة، ورأس هذه اللجان من عام 1971 حتى عام 1981.
وساعد القصّاص على إنشاء جهاز شؤون البيئة في مصر عام 1983، كما أنشأ وحدة التنوع البيولوجي فيه عام 1992. وفي أوائل التسعينات أشرف على إعداد خطة العمل البيئي لمصر، وفي أواخرها أعد خطة مصر الوطنية للتنوع البيولوجي. وكان الناصح الأمين والموجه الحكيم لكل خطوة اتخذها جهاز شؤون البيئة منذ إنشائه. وقد اختير القصّاص عضواً في مجلس الشورى عام 1981.
بقيت كلمة حق يجب أن تقال عن كريم خصال أستاذنا وعن الخبرة التي يتلقاها كل من جلس اليه. فهو رجل لا طموحات مادية له، ولا رغبات شهرة، ولا أحقاد نحو أي كان. طموحاته كانت محصورة في خدمة وطنه والبشرية جمعاء. ورغباته كانت معاونة من حوله، ورعايتهم، و«فتح أبواب يكبر الناس منها» كما كان يحلو له أن يقول.
إن مغزى تكريمي هو رسالة من الأمم المتحدة، بما تمثله وترمز اليه، إلى الأطفال الذين يولدون بالآلاف كل يوم في القرى النائية في الأقطار الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. كأن الأمم المتحدة تمسح اليوم على رأس كل طفل وتقول له: انهض، هذا واحد مثلك، لم يمنعه المهد الخشن ولا العيش المضني ولا المسافة البعيدة بين القرية والمدرسة من أن يشق طريقه ليدخل مبنى الأمم المتحدة هذا الصباح مرفوع الرأس ليتلقى اعتراف المجتمع الدولي به وباسهاماته في المعارف العلمية والجهود الدولية. إنه رسالة للأطفال الذين يولدون في القرى النائية، تقول لهم إن الطريق، رغم عسره، ممكن سلوكه بالعزم والاصرار.
من كلمة محمد القصّاص عقب تسلمه جائزة «العالميون الخمسمئة» من برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 1978، خلال احتفال
أقيم في مقر الأمم المتحـدة
في نيويورك.