وسط التسيُّب في تنظيم استعمال الأراضي في لبنان، أحد البلدان العشرة الأعلى كثافة سكانية في العالم (400 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد)، وفي ظل التعديات على الأملاك العامة والبحرية والمحميات الطبيعية فيه، تأتي ''الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية''، التي وضعها مجلس الانماء والاعمار بالتعاون مع المديرية العامة للتنظيم المدني، لتكون الاطار العام لاستراتيجية تنظيم استعمالات الأراضي وتجهيز المناطق على المدى الطويل بما يحفظ خصوصيات كل منطقة، والمرجع الأساسي لوضع أنظمة التنظيم المدني. تنطلق الخطة من شعار اشراك القرى الكامل في اقتصاد البلاد وتسعى لتأهيل أكثر من 300 موقع مميز على طول الشاطىء. وتلفت الى ضرورة اجراء نقلة نوعية في قطاع النقل واستعادة كامل مسار خط السكة الحديد الساحلي، وتخصيصه كمسار لخط نقل مشترك يربط مدن الساحل بعضها ببعض من شمال لبنان الى جنوبه. ولكن جملة أسئلة تطرح حول خياراتها الرئيسية، وهي ما زالت موضع نقاشات مع أطراف مهنية وأهلية، قبل اقرارها رسمياً ووضعها موضع التنفيذ.
''البلد يعامل كعقار كبير معروض للبيع، إذ يمكن، بتفسيرات واجتهادات قانونية وبعض الشطارة اللبنانية، استثمار أي جزء من شواطئه وغاباته، عن طريق توظيف نفوذ المال والسلطة والطائفة''. بهذه الكلمات اختصر نجيب صعب وضع تنظيم استعمالات الأراضي في لبنان. ورأى، في فصل بعنوان ''برنامج للنهوض البيئي'' في كتاب ''خيارات للبنان''، أن تحديد استعمالات الأراضي شرط للادارة البيئية السليمة، ومع هذا فهو لم يلق اهتماماً جدياً حيث أن نحو 90 في المئة من الأراضي اللبنانية ما برحت غير مصنفة. ويعزز هذا الواقع الحاجة الى الخطة الشاملة لترتيبالأراضي اللبنانية، التي انجزت دراستها بين سنتي 2002 و2004، وضم فريقها الاستشاري معهد التنظيم الاقليمي ايل دو فرانس (IAURIF) ومؤسسة دار الهندسة (شاعر ومشاركوه).
نقيب المهندسين السابق عاصم سلام أيّد الخطة، لكنه تخوف من أن ''تبقى في الأدراج لأن القيادات السياسية التي يجب أن تتبناها ليس عندها بعد الجرأة أو القدرة الفكرية لاستيعاب أهميتها''. ووافقه الرأي المحامي عبدالله زخيا، الخبير في القانون البيئي، الذي يخشى أن "يرى المشروع النور بعد ضياع الأراضي التي تحتاج الى تصنيف".
بنود الخطة
يحدد مشروع ''الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية'' استعمالات الأراضي على اختلاف مواقعها وتصنيفاتها، والخطوات اللازمة للتنفيذ، وذلك وفق شعار ''ترشيد استعمالات الأراضي وتنميتها بالطرق السليمة التي لا تغير من طبيعتها أو تبدل من فرص استعمالها المستقبلية''. وتنطلق الخطة من مجموعة عناوين، كوحدة الأرض والانماء المتوازن للمناطق وفق اطار شمولي، وترشيد استغلال الموارد لضمان التنمية المستدامة، وتحسين الانتاجية والأوضاع المعيشية، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، والمحافظة على البيئة والتراث. وتحدد ثلاثة معايير رئيسية لاختيار الوجهة الفضلى لاستعمال الأراضي، وهي طبيعة الأرض وموقعها، وميزاتها، والمعوقات التي تتحكم بتطويرها.
وفق طبيعة الارض، تصنف الخطة الأراضي اللبنانية في أربع فئات: المناطق المدينية، المناطق الريفية، مناطق الثروة الزراعية الوطنية، ومناطق الثروة الطبيعية الوطنية. وتلفت الى ضرورة الافادة من مميزات لبنان، أي الشواطىء والمناظر الطبيعية الكبرى والمواقع الطبيعية المميزة، كشلالات جزين وجسر فقرا، والتراث التاريخي من قلاع وحصون أثرية، وتؤكد على دورها في تنشيط الاقتصاد السياحي.
وتؤكد الخطة على ضرورة ايجاد حلول جذرية لمعالجة المياه المبتذلة، خصوصاً في المناطق التي تكثر فيها التشققات والتصدعات لدرء خطرها على الينابيع والآبار التي تزود السكان بالمياه. وتدعو الى تخفيض عامل الاستثمار في المناطق المعرضة لخطر الفيضانات، من خلال عدم الترخيص فيها لمشاريع الافراز التي تهدف الى التطوير العقاري وعدم تجهيز هذه المناطق بالبنى التحتية بشكل يحفز العمران، اضافة الى منع البناء نهائياً ضمن مسافات معينة من مجاري الأنهار. وتنصّ على منع انشاء التصاوين (الأسيجة) المغلقة وإلزامية الاحتفاظ بما لا يقل عن 80 في المئة من مساحة الأرض كحديقة أو بستان. أما في المناطق المعرضة لخطر الانهيارات، فتلفت الخطة الى منع البناء على العقارات التي يتجاوز معدل انحدارها الطبيعي 10 في المئة، مع الاهتمام الجدي بأوضاع بعض القرى والبلدات المأهولة المعرضة لخطر الانهيار وتحديد نظام بناء واستثمار ملائم لها.
وفي ما يخص المناطق الصناعية، تشير الخطة الى ضرورة تحديد حزام أمان حولها، يتوافق مع حجم مخاطر اندلاع حرائق أو انفجارات أو تسرب النفايات السائلة، مع العمل على فك الارتباط المكاني بين السكن والصناعة تدريجياً بعدم انشاء المرافق التعليمية والصحية والبنى التحتية المساندة والنشاطات التي تستقطب الناس في محيط الصناعات الخطرة.
ويلفت المدير العام للتنظيم المدني المهندس جوزف عبد الأحد الى ''توفر خرائط تحتوي على معلومات من جميع الادارات الرسمية وصور جوية تبين تفاصيل المناطق، مثل مواقع الانزلاقات والمياه الجوفية''، للافادة منها في تصنيف المناطق وفق طبيعتها الجغرافية، واتخاذ التدابير الاحترازية في المناطق المعرضة للمخاطر.
خيارات الخطة الانمائية
بعد تحديد الأهداف والوجهة المقترحة لاستعمال الأراضي بصورة عامة، تأتي المشاريع المطروحة التي، من خلال الخطة، تعطي الأولوية لتعزيز الانماء الاقتصادي والاجتماعي في ثلاثة ''أقطاب مدينية'' وهي: مدينة طرابلس، ومدينتا زحلة وشتورا والبلدات الملاصقة لهما، ومدينة النبطية، بحيث تعتبر كل منها ''قطب توازن''. وتترجم هذه الأولوية عبر سلسلة مشاريع، منها انشاء ثلاث طرق مخصصة للأنشطة الصناعية والخدماتية في كل من البداوي ورياق والزهراني، وتجميع كليات الجامعة اللبنانية في ثلاثة مواقع: طرابلس وزحلة - شتورا والنبطية، اضافة الى مجمع الحدث. كما تدعو الى اعادة تأهيل سكك الحديد بين رياق والحدود الشرقية، واستكمال اوتوستراد الشمال حتى الحدود الشمالية، واستكمال الأوتوستراد العربي بين بيروت ودمشق واوتوستراد الجنوب في النبطية حتى مرجعيون في انتظار تنفيذ وصلته المقترحة باتجاه القنيطرة، وتعزيز شبكة الطرق التي تربط الأقطاب المدينية الرئيسية بالمناطق.
وتتوخى الخطة تنفيذ سلسلة مشاريع في المنطقة المدينية المركزية، أي بيروت وضواحيها والمناطق المحيطة بها، لتمكينها من تبوّؤ أفضل المراكز بين الأقطاب المدينية الكبرى في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط على الصعيدين الاقتصادي والديموغرافي. وتلفت الى ضرورة اجراء نقلة نوعية في قطاع النقل واستعادة كامل مسار خط السكة الحديد الساحلي، وتخصيصه كمسار لخط نقل مشترك يربط مدن الساحل بعضها ببعض من شمال لبنان الى جنوبه، وتنفيذ اوتوستراد اضافي على الساحل الشمالي بين المعاملتين وانطلياس. كما تدعو الى انشاء شبكة من الممرات المخصصة لحافلات النقل المشترك داخل المدن الكبرى، في العاصمة وضواحيها وطرابلس وزحلة - شتورا، والمحافظة على كامل مسارات السكك الحديد في المناطق الداخلية حفاظاً على امكانية اعادة تشغيلها عند الحاجة في المستقبل.
وتلحظ الخطة وجوب ادخال الطبيعة الى قلب المدن، وانفتاح المدن الساحلية على البحر، وتحسين الأملاك العامة. ومن المعروف أن المنشآت والأبنية، المخالفة في معظمها، تحجبالبحر والشاطىء عن معظم المدن الساحلية. وفي موازاة ذلك، تسعى الخطة الى تنمية المناطق عبر "اشراكها الكامل في اقتصاد البلد وليس عبر توزيع المداخيل عليها مما تنتجه منطقة مزدهرة واحدة".
لكن يحذر عاصم سلام من الاعتراضات التي قد تعرقل التنفيذ، نتيجة الانعكاسات الاقتصادية للخطة على أصحاب المصالح والنفوذ والملاكين عامة: ''أي خطة لتصنيف الأراضي لها انعكاسات ارتفاقية على هذه الأراضي، بما معناه أنها تحصر النمو فيها ولا يعود يحق لصاحب الأرض التصرف بأرضه كما يشاء، مما يؤثر مباشرة في أسعار العقارات. فالقرار في النتيجة سياسي واقتصادي بامتياز''. وفي هذا الصدد يقول مدير المشروع فؤاد عواضة عن امكانية تنفيذ الخطة وتحديداً مسألة ربط بيروت بالمصنع من خلال سكة الحديد: ''طموحات الخطة تفوق القدرة الفعلية للتنفيذ على الأرض''، لافتاً الى أنها ستصادف مصاعب ومنها مثلاً التعديات علىالسكك الحديد وقلق بعض السياسيين من ازالتها. كما أشار الى أن المسؤولين الحاليين في مجلس الانماء والاعمار وفي الادارات الرسمية مقتنعون بالخطة لكنهم عرضة للتبدل في مناصبهم، مما يجعل مصير تنفيذ الخطة مجهولاً.
لبنان اخضر نظيف
تحتل البيئة حيزاً مهماً من اهتمامات الخطة، التي تلحظ مجموعة توصيات وتدابير لحمايتها وتعزيزها، منها تشجيع البلديات المعنية على انشاء مناطق صديقة للبيئة، قائمة على مبدأ التوفيق بين مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية من جهة ومستلزمات حماية البيئة والتراث من جهة أخرى.
وتدعو الخطة الى اعادة تأهيل أكثر من 300 موقع مميز على طول الشواطىء اللبنانية لحمايتها، فضلاً عن ازالة التعديات على الاملاك العامة البحرية، واعطاء حرية الوصول الى الشاطىء للجميع. كما تتضمن تنفيذ مشروع تشجير وطني على طول ''خط الأرز اللبناني''الواقع بين ارتفاع 1600متر و1900 متر عن سطح البحر.
وتلفت الخطة الى سلسلة مشاريع مياه وصرف صحي وكهرباء، وحل لمشكلة النفايات عبر تعزيز حجم الأموال التي توزعها الدولة على اتحادات البلديات وحثها على ايجاد مواقع للمطامر، ومعاقبة الاتحادات التي لا تجد حلولاً مرضية، كما تدعو الى تحديد المناطق التي يمنع فيها الترخيص للمقالع، أي المناطق الجبلية ما فوق 1600 متر، ونطاق الغابات والمواقع الطبيعية، وجميع المناطق الواقعة على بعد أقل من 500 متر من البلدات المأهولة ومن الشاطىء ومجاري الأنهر الرئيسية. وتشير الى ضرورة الحد من ظاهرة الأبنية المبعثرة فوق الأراضي الزراعية والطبيعية، نظراً لكلفة تجهيزها بالبنى التحتية ولأثرها السلبي على الموارد الطبيعية، ومن ظاهرة التمدد العمراني الشريطي على طول الطرق الرئيسية.
الخطة تنتظر في مجلس الوزراء
عن مصير الخطة، قال رئيس دائرة ترتيب استعمالات الأراضي في مجلس الانماء والاعمار المهندس سامي فغالي انها أقرت بصيغتها النهائية ووافق عليها المجلس الأعلى للتنظيم المدني ومجلس الانماء والاعمار، وأحيلت الى مجلس الوزراء. وحول اذا ما أهملت في مجلس الوزراء، قال فغالي ان التنظيم المدني ووزارة البيئة ومجلس الانماء والاعمار ستأخذ بتوصياتها على أي حال.
وبحسب جوزف عبد الأحد، "عندما تقر الخطة في مجلس الوزراء تصبح ملزمة للادارات الرسمية، بحيث تضع مشاريعها، سواء أكانت تنظيمية أو سياحية أو صناعية، وفق هذه الخطة الشاملة للأراضي".
أما عن ملاحظات التنظيم المدني، فأفاد عبد الأحد ''البيئة والتنمية'' بأن المديرية العامة للتنظيم المدني تشدد على انماء المناطق وليس الاكتفاء بتنشيط المدن الموجودة حالياً. "والمقصود وضع محفزات لوقف هجرة أهل الريف الى المدن، وذلك بخلق نشاطات مختلفة في المناطق لابقاء السكان في محيطهم قدر الامكان مع مراعاة خصوصية كل منطقة".
ويتلاقى عبد الاحد بذلك مع عاصم سلام الذي يؤكد: ''لا تنفع هذه الخطة اذا لم ترتبط بخطة انمائية للمناطق، تتضمن تأمين النية والمال والموارد لتطويرها''. ويرى أن من ''الاخطاء الأساسية التي وقع فيها لبنان سابقاً اعتماد المدن الأساسية كمدن أقطاب، مما أدى الى افراغ القرى وازدحام المدن''. ويحمل على الوزارات السابقة بالقول: ''ميزانية المناطق كانت موضوعة تحت تصرف النواب الذين صرفوها بما يخدم مصالحهم الانتخابية''. واعتبر عبدالله زخيا أن الخطة "جيّدة بشكل عام مع أنها مازالت تحتاج الى مزيد من النقاش والتعديل في التفاصيل. ولكن يبقى اقرارها أهم من اتمام هذه التعديلات، لأن التأخير سيؤدي الى استمرار الأوضاع الشاذة، وتصبح الخطة رهينة الأمر الواقع، الذي يفرضه المستفيدون من اضاعة الوقت لتأمين استمرارية تقاسم مغانم الثروة الطبيعية بين الحكام والمتنفذين".
مناقشة مع الجامعات والمجتمع الأهلي
في اطار النقاش العام حول توصيات الخطة، نظم مجلس الانماء والاعمار ورش عمل موجهة الى طلاب وأساتذة الجامعات في لبنان، ووسائل الاعلام والجمعيات الأهلية، ونقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس، والمؤسسات العالمية التمويلية والموظفين العاملين في الادارات والمؤسسات العامة والبلديات، بالتعاون مع المديرية العامة للتنظيم المدني وبمساعدة مشروع التخطيط والبرمجة الاستثمارية الممول من الاتحاد الأوروبي. ويقول مدير المشروع المهندس فؤاد عواضة ان الهدف من هذه الجولات هو تعميم الخطة واطلاق نقاش عام حولها وأخذ الملاحظات في الاعتبار. ويشير الى أن الوضع الحكومي غير المستقر خلال الفترة 2004 ـ 2005 أعاق بحث الخطة في مجلس الوزراء، لافتاً الى أن بيانات الحكومات المتلاحقة ذكرت المخطط الشامل للأراضي، وفي ذلك تأكيد على أهمية هذه الخطة لدى المسؤولين والنية نحو التنفيذ.
وأفادت منسقة تسويق الخطة ندى حداد ''البيئة والتنمية'' أن مؤتمراً سيعقد في تشرين الأول (أكتوبر) الحالي مع بعض الاختصاصيين العالميين والمحليين، القيمين على النواحي القانونية للخطة. ويهدف الى عرض بعض التجارب العالمية في وضع الأطر القانونية لحماية الشاطىء والقمم وتنظيم المناطق الصديقة للبيئة، واقامة علاقات حوارية لمناقشة الأفكار حول استصدار قانون الشاطىء، وقانون القمم (فوق ارتفاع 1000 متر عن سطح البحر)، وقانون أنظمة الحماية (المحميات، المناطق البيئية المميزة، حماية المواقع)، التي لفتت الخطة الى ضرورة استصدارها.
وخلال احدى حلقات النقاش، رد عواضة على تساؤل ''البيئة والتنمية'' حول كيفية التعامل مع التعديات الحاصلة على ضفاف الأنهر بعد اقرار الخطة بالقول: ''هذه التعديات موجودة ولا يسعنا أن نهدمها، ولكن في حال انهيارها سيمنع أصحابها من اعادة البناء. والبلديات مجبرة على فرض التقيد بالخطة الشاملة على الأبنية التي ستنشأ بعد اقرارها''. ولكن التعاونيات الزراعية في الشمال والجنوب تخوفت من أن يقلل تحديد الأراضي المسموح البناء فيها من قيمة تلك الأراضي.
وانتقد أحد المشاركين في النقاش خلو الخطة من تدابير للوقاية من التلوث الذي ينتج عن المصانع مثل مصانع الاسمنت في شكا. وكان التفسير أنه سيعمل على مخطط خاص بتلك المناطق الحساسة.
واعتبرت الدكتورة فدوى كلاب، الاختصاصية في الاقتصاد الاجتماعي البيئي، أن الخطة درست الأراضي من الناحية الجغرافية والجيولوجية، ولم تعط عناية كافية للوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ورأى المهندس محمد فواز، المدير العام السابق للتنظيم المدني، أنه كان يجدر بالخطة تحديد الأهداف وطرق الوصول اليها. ودعا الى اعادة تنظيم ادارة التنظيم المدني، وتخصيصها باعتمادات تمكنها من وضع التصاميم والأنظمة التوجيهية والتفصيلية لكامل الأراضي اللبنانية، وتعديل قانون البناء الحالي الذي يسمح بعامل استثمار واسع في المناطق غير المنظمة ويشجع على بعثرة العمران.
وأشار المهندس ديران هارمانديان الى أن دراسة أي خطة لترتيب الأراضي تحتاج الى وضع تصور شامل لامكانيات النمو المستقبلي، معتبراً أنها كانت خجولة في الاشارة الى بعض التوجهات المحددة لموقع القطاعات المختلفة ودورها في نمو البلاد وتفاعلها مع توجهات النمو في المنطقة العربية والتحولات العالمية. وقال انها لم تأخذ في الاعتبار هيكلية لبنان الاقتصادية من اقتصاد أفقي يستند على المبادرة الفردية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الى اقتصاد عمودي يناقض طابع تكوين القوى الانتاجية في البلاد، مما أثر على التمركز السكاني المبالغ في بيروت وتهميش المناطق. واشتكى هارمانديان من أن الخطة تثبت المركزية في المدن الرئيسية وتغيّب الأطر الانمائية للمناطق.
وخلال حلقة النقاش مع الجمعيات البيئية، احتج أحد الحضور على عرض الخطة على الجمعيات بعد اقرارها بصيغتها النهائية من دون أخذ رأيها فيها، معتبراً أن الجمعيات يجب أن تعطي توصياتها بناء على حلقات حوار تعقد للخروج برؤيتها حول المشروع. فكان جواب فغالي أن الخطة عرضت على القطاعات الأساسية وأن جولات تعميمها التي يقوم بها مجلس الانماء والاعمار بمؤازرة مشروع التخطيط والبرمجة الاستثمارية، تأتي في هذا السياق.
وخرج المشاركون في ورشتي العمل في نقابتي المهندسين بعدة توصيات، منها: اعداد برنامج تنفيذي للخطة يوزع الأدوار على الادارات المعنية ويحدد جدولاً بأولوية المشاريع المطلوب تنفيذها على المدى القريب ومن ثم المتوسط والبعيد، واعتماد آلية محددة لتقييم تقدم العمل بشكل مستمر يسمح بتصويب الخطة، وتفعيل الادارات أو انشاء مؤسسات عامة أو مختلطة (عامة وخاصة) مهمتها تفعيل تنفيذ المشاريع الانمائية في الأقطاب الرئيسية، وتحديد المرجعية الادارية التي عليها تنفيذ هذه الخطة.
''العقل اللبناني يرفض القيود''
يرى عبدالله زخيا أن من المُلحّ اقرار الخطة الشاملة للأراضي بأقصى سرعة للحفاظ على نوعية الحياة وعلى ما تبقى من الثروة الطبيعية ولمواكبة النمو الاقتصادي المتراجع. ويتساءل: ''رأسمال النمو الأرض والانسان. فاذا ذهبت الأرض، ماذا يبقى؟''. ويتابع: "لبنان غني جداً بنوعية مناخه وتنوعه البيولوجي، وثروته هذه معرضة للمخاطر وتتطلب حماية كثيفة وتصنيفاً للأراضي".
أما عاصم سلام فيعتبر أن ''العقل اللبناني يرفض القيود على حرية تصرف المرء بملكه''. وأدى ذلك برأيه الى ''الفوضى في المال والاقتصاد والتنظيم المدني''. وهو يعزو اعاقة تقديم الخطة في الماضي الى ''الضغوط الاستثمارية العبثية التي طالما رفضت وضع قيود تنظيمية لاستعمال الأراضي، والتركيبة الطائفية والسياسية التي حكمت لبنان على مدىالاربعين عاماً الماضية''. وحول مباركة هذه الخطة سياسياً يؤكد جوزيف عبد الاحد: "لا دخل للمحسوبيات السياسية بالخطة. نحن نعطي ملاحظاتنا بتجرد من دون أي تأثير سياسي لا من قريب ولا من بعيد".
الفوضى العمرانية مشكلة من؟
''الفوضى العمرانية التي يشكو منها لبنان هي نتيجة التنظيم المدني الافرادي للمدن والقرى اللبنانية''، في رأي عاصم سلام. الذي يلفت الى أن''التنظيم المدني هو الذي يسمح بتشييد مبنى من عشر طبقات على جانب طريق فرعية ضيقة عرضها ثلاثة أمتار ونصف متر. ويطالب بتغيير معظم قوانين التنظيم المدني ''لأنه ليس صالحاً لادارة مجمل العملية الانمائية في لبنان''. ولكن جوزف عبد الأحد يفسر ذلك بأنه، في غياب مخطط شامل للأراضي، يضع التنظيم المدني المخططات التنظيمية والتفصيلية لكافة المناطق اللبنانية الحساسة ''تفادياً لانتشار العمران العشوائي والكتل الحجمية التي لا تنسجم معطبيعة المنطقة أو النسيج المبني''. وبالنسبة الى المخالفات، يلفت الى ''عدم امكان تسوية أي مخالفة بعد تاريخ 1/1/1994 الا بموجب مرسوم وغرامة تبلغ عشرة أضعاف الرسوم والغرامات المعتمدة''. مع الاشارة الى أن التنظيم المدني ''يضع فقط اشارة مخالفة على الصحيفة العقارية، وليس معنياً بقمع المخالفات أي ازالتها''. وقد أصدر مذكرة الى البلديات بوجوب العمل على ازالة المخالفات وفقاً للقوانين المرعية الاجراء، وأودع مشروع كتاب لدى وزير الأشغال العامة والنقل لابلاغه الى وزارة الداخلية الوصية على البلديات والمسؤولة عن المحافظين والقائمقامين. وهنا مكمن الخلل في رأي عبدالله زخيا، الذي يعتبر أن المشكلة هي في القوى الأمنية "التي تتوانى عن قمع المخالفات وتطبيق القوانين".
سلام: تجربة الماضي لا تشجع
لم يتفاءل عاصم سلام بإقرار الخطة، مشيراً الى أن ''ممارسات الحكومات السابقة لا توحي أملاً بذلك''. لكنه يستدرك قائلاً أن "الجيل الجديد يعي المخاطر البيئية ويجب أن يشكل القوى الضاغطة على الحكم من خلال الانتخابات الحرة والبلديات لتصحيح الامور".
ويستخلص عبدالله زخيا: ''لا مشكلة مالية اطلاقاً، فالمشروع ممول من الخارج. ولا مشكلة فنية أو قانونية. المشكلة هي من سيطبق؟ وهل يطبق المشروع اذا كلف به علي بابا والأربعون حرامي؟ ''ولزخيا نظرته الخاصة بالحكم: "هناك حلف غير مقدس بين السياسي المفسد والموظف الفاسد. فالاول يحمي الثاني، والثاني يؤمن له الخدمات، وجلّها مخالف للقانون".
من هذا المنطلق يصّر زخيا على ضرورة اتخاذ بعض التدابير الاحترازية الفورية للحفاظ على الثروة الطبيعية، ومنها تعزيز الرقابة واعطاء الجمعيات الأهلية حق الادعاء ووقف كل المشاريع على الشاطىء حتى الانتهاء من اعادة تأهيله ووضع تنظيم مدني مسبق لكل منطقة يصار الى شق طريق فيها، كي لا تنتشرفوضى البناء. ويضيف الى هذه التدابير وضع مراسيم حماية للمواقع الحساسة والمميزة، خصوصاً الوديان، وإلزام أصحاب الأبنية في الأراضي الصالحة للزراعة بتأهيل مساحات مماثلة لمساحة البناء. كما يلفت الى ضرورة الاسراع في وضع واقرار المراسيم التطبيقية لقانون البيئة العام، خصوصاً مرسوم الانعكاسات البيئية، وبالتحديد قبل اعطاء الرخص لمشروع ''صنين زينة لبنان'' ومشروع ''محطة التزلج في اهدن''، نظراً لتأثيرهما الجدي على البيئة ومصادر المياه، واقرار القانون الذي يعدل قانون الآثار ومشروع القانون المتعلق باستثمار الاملاك العامة.
في النتيجة، يبدو أن الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية منسجمة مع تطلعات اللبنانيين الى انماء مناطقهم وخلق حوافز البقاء فيها، بدل النزوح الى المدن وخصوصاً العاصمة بيروت التي تختنق من الضغط السكاني الكثيف. ''انها خطوة الألف ميل''، بحسب تعبير عاصم سلام. ولكن هل سيُسمح لقطار التغيير بالسير على السكة الصحيحة؟