الصيد ممنوع في لبنان منذ سنوات، لكن الصيادين لم يمتنعوا، بل هم يمارسون أساليب "خلاقة" في القتل الجماعي، من استخدام الفخاخ التقليدية الى غرز شجرة في القمم الثلجية. لكن قانون المنع الذي لم تفرضه السلطات فعلياً قد يفرضه وباء انفلونزا الطيور الآتي مع الأسراب المهاجرة
كان الصيد وسيلة الغذاء الأساسية للإنسان. ولما وصل تعداد البشرية إلى 200 مليون نسمة نحو العام 200 قبل الميلاد، أصبح من الصعب الاعتماد على الصيد وحده كقوت، فلجأ الإنسان إلى الزراعة كوسيلة لحل مشكلته التي تمثلت باختلال التوازن بينه وبين طرائده، لكنه حافظ على تقاليد الصيد التي توارثها حتى يومنا هذا.
إلا أن عدد سكان العالم أصبح اليوم يناهز 6,5 مليارات نسمة، الأمر الذي استدعى من القيمين على حماية الطبيعة، على المستوى العالمي، التدخل للحفاظ على الثروات الطبيعية بما تشمله من تنوع بيولوجي، خصوصاً الطيور التي انقرضت منها أنواع كثيرة خلال القرن العشرين. ومن أساليب التدخل هذه تنظيم الصيد وتحديث قوانينه لكي تتوافق مع مبادئ المحافظة التي كرستها الإتفاقية العالمية للتنوع البيولوجي والتي صدقت عليها معظم دول العالم في العقد الأخير من القرن العشرين.
من هنا جاء القانون الجديد (عام 2004) للصيد البري في لبنان الذي يتعاطى مع الثروة الطيرية على أساس مبدأ الإستخدام المستدام أو الحكيم. ومع أن قانون الصيد القديم الذي يعود الى العام 1954 كان قد منع أساليب الإحتيال في صيد الطيور، فإن القانون الجديد جاء ليفصّل أنواع الإحتيال هذه. ومع ذلك كانت عبقرية البعض من الذين يدعون الصيد تشطح إلى ما هو أبعد من تصور الإنسان العاقل. فابتكرت طرقاً لا تمتّ إلى الإنسانية والأخلاق بصلة وليس لها مع الحس البشري الطبيعي أي روابط ولا تدخل في أي قاموس يترجم معنى الصيد وأدواته. إنها طرق همجية وبربرية بكل ما في الكلمة من معنى.
ما هي هذه الطرق؟ وما هو تأثيرها على البيئة؟ هنا عرض لأساليب الاحتيال هذه، من أقلها قبحاً إلى أكثرها بشاعة، وهي جميعها تتعارض مع جميع قوانين الصيد في العالم كله، إذ انها لم تعد رياضة أو هواية شريفة بل أشكالاً من المجازر.
1. استخدام الفخاخ أو "الملاطش": يوضع عليها طعم، كالحبوب أو الديدان أو الحشرات، فيأتي الطائر ليأكل منها، فتنقض عليه قابضة على عنقه حتى يموت خنقاً.
2. استخدام شباك خاصة: هذه الشباك يستعملها عادة علماء الطيور للإمساك بالعصافير ووضع خواتم في أرجلها ومن ثم يعاد إطلاقها، من أجل دراسة مصادرها ومعرفة الأماكن التي تتجه إليها أثناء هجرتها وكذلك معرفة دروب الهجرة وممراتها. يتم الحصول على هذه الشباك بطرق احتيالية، ومن ثم تستخدم للإمساك بأعداد كبيرة من الطيور لغايات قتلها أو أكلها أو تحنيطها أو وضعها في أقفاص للزينة والإحتفاظ بها أو بيعها.
3. استعمال قضبان الدبق التي نهت عنها القوانين: ما ان يقف عليها الطائر ظناً منه أنها غصن شجرة حتى تلتصق أصابعه بها، فيأتي صاحبها ليقبض عليه للغايات ذاتها.
4. استخدام طائر مربوط أو محبوس: كأن يوضع حجل في قفص حيث يطلق نداءاته، فتأتي الحجال الطليقة التي ما أن تصل حتى يستهدفها إطلاق النار أو تعلق في شراك نصبت لها.
5. إشعال النار لكي تحدث دخاناً: الدخان يجلب بعض أنواع الطيور، كالسنونو والورور والبلشون، التي تعرف أن الحريق الحاصل يؤدي إلى هروب الحشرات من المكان المحروق وجواره. تقوم هذه الطيور بالتهام الحشرات الفارة وهي طائرة، لكنها تفاجأ بحملة البنادق ـ إذ لا يصح تسميتهم صيادين ـ ينتهزون فرصة تجمعها ليطلقوا عليها نيرانهم.
6. استخدام خلاصة بعض أنواع النباتات: لهذه الخلاصات خاصية "تطويش" الطيور، أي تخديرها. فتمزج مع بعض الأطعمة التي ما أن تتناولها الطيور حتى تسقط مخدرة ليتم التقاطها وقتلها.
7. استخدام أدوات المحاكاة: كأن توضع نماذج بلاستيكية لبعض أنواع الطيور كالبط ـ ومنها نماذج متحركة ميكانيكياً ـ على سطح بركة ماء أو مستنقع أو بحيرة، بحيث تجذب مثيلاتها عملاً بالمثل القائل "إن الطيور على أشكالها تقع". وحين تحط الطيور العابرة المنجذبة أو توشك على ذلك، تطلق عليها النار من مخابئ قريبة فتسقط منها أعداداً كبيرة.
قد يعتبر البعض هذه الطرق تقليدية إلى حد ما، أي معروفة ولا غرابة في تفاصيلها، إلا أن الطرق الآتية هي بلا شك حديثة ومدمرة في آن معاً:
8. استخدام آلات التسجيل أو المناداة: هذه الطريقة، التي تستخدم خصوصاً لطيور الفري والسمن، تستدعي وضع مسجلة في مكان مكشوف أثناء الليل تصدر أصواتاً للطيور المراد جذبها وهي تعبر المنطقة أثناء هجرتها الليلية. تتوافد الطيور إلى مكان الصوت وتحط على الأرض (كالفري) أو الشجر (كالسمن) ظناً منها أنها تلتحق بأترابها. وعند بزوغ الفجر يأتي الصيادون إلى المكان ويحصدون منها المئات مطلقين نيرانهم عليها من كل حدب وصوب. ولطالما انزعج أهالي القرى من الأصوات المرتفعة لهذه المسجلات طوال الليل، خصوصاً في المساء عندما يجلسون على شرفاتهم ليستمتعوا بهدوء الطبيعة فتقلقهم تلك الأصوات الرتيبة المتكررة. ولطالما أقلقت راحتهم الطلقات المكثفة في الحرب التي يشنها الصيادون على الطيور في ساعات الفجر الأولى.
9. الصيد الليلي على السطوح تحت الأنوار الكاشفة: لا يتورع كثيرون عن وضع شجرة على سطح بيوتهم ويسلطوا عليها الأنوار الكاشفة لجلب أي نوع من الطيور التي تهاجر ليلاً. فما أن تحط على الشجرة حتى يبادر الصياد إلى إطلاق النار على هيئة إبادة جماعية. وتعتمد هذه الطريقة على إلمام الصياد بطبيعة الطير المهاجر ليلاً والذي ينزل إلى الأرض ليرتاح عند بزوغ ضوء الفجر. فالأنوار الكاشفة بالنسبة الى الطير هي الفجر.
10. الصيد الليلي بالرسم على الجدران: تعتمد هذه الطريقة على المبدأ ذاته للصيد الليلي على السطوح تحت الأنوار الكاشفة. إلا أن الفرق يكمن في أن الشجرة المستخدمة على السطح تتحول هنا إلى رسم لشجرة على حائط مكشوف عن بعد، يسلط عليه ضوء كاشف وباهر. فيظن الطائر العابر ليلاً أن تلك شجرة، فيندفع نحوها ويصطدم بالحائط بشدة فيقع جريحاً أو فاقداً للوعي أو ميتاً.
11. الصيد في أعالي القمم الجرداء: تقضي هذه الطريقة الإحتيالية بأن ينقل البعض شجرة كبيرة على متن سيارة بيك آب أو ما شابه ذلك إلى منطقة جرداء عالية، كالقرنة السوداء في أعالي سلسلة جبال لبنان. ثم يعمدون إلى تثبيت الشجرة منتصبة ويختبئون في مكان قريب منها. فلا تلبث الطيور المهاجرة نهاراً أن تحط على الشجرة لترتاح، ظناً منها أنها ستوفر لها الملجأ والغطاء بعيداً عما يمكن أن يتربص بها من أعداء طبيعيين، فتنهال عليها الطلقات. وقد أبادت هذه الطريقة أعداداً كبيرة من الصقور.
12. صيد الحمام البري: هنالك نوع من الحمام البري هو أصل الحمام الداجن الذي نعرفه، يعيش في المناطق الصخرية ويرتاح على حافاتها. وعندما يشتد الحر في الصيف أو البرد في الشتاء، يأوي إلى تجويفات صخرية تشبه الآبار، تحميه من حالات الطقس المتطرفة. هنا يأتي البعض ليغطي فوهة "البئر" بشباك، ومن ثم يرمي الحجارة إلى القعر. فيطير الحمام طالباً الهرب، ولكنه يصطدم بالشبك حيث تنتظره عصي يحملها الصيادون الذين ينهالون على رؤوس الحمام فيقتلونه. وبعد أن يطمئنوا إلى أن كل السرب قد مات، ينزلون إلى البئر لجمع الغنيمة. ولكن يبدو أن هؤلاء الصيادين اكتسبوا خبرة مفادها أن بعض الحمام يبقى مختبئاً في البئر ولو ألقوا الحجارة فيها، فابتكروا طريقة أخرى لاجباره على محاولة الهرب. تقضي هذه الطريقة بأن يستبدل رمي الحجارة بإلقاء كيس من الخيش (الجنفيص) في البئر وهو يحترق، مما يسبب هلعاً للحمام فيهرب، ولكنه طبعاً ينتهي مقتولاً عند وصوله الى الفتحة المغطاة.
جميع هذه الطرق التي تفتقت عنها عبقرية الإنسان يعاقب عليها القانون، لأنها تقع تحت بند الاحتيال على الطائر، وتقضي عليه بحملات إبادة جماعية ستؤدي حتماً إلى انقراض أنواع كثيرة. ومع ذلك فإنها تمارس بلا رقيب أو رادع، ويستمر الإنسان بزرع الخوف في الطيور التي كانت ولم تزل مصدر رزقه. فما الطيور الداجنة التي نتغذى عليها اليوم سوى طيور من أصول برية، بدءاً من الدجاج والبط إلى الحمام والحبش والنعام. وما المحاصيل الزراعية التي نجنيها اليوم سوى نتيجة للمساعدات التي تقدمها الطيور إلى المزارع، بتخليص حبوبه وخضره وثماره من الآفات الحشرية والفئران والجرذان. وها نحن نعمل بالمثل القائل " يرمي حجراً في البئر الذي يشرب منه"، فننكر الجميل ونقابله بالإساءة.
لقد زرع الإنسان الرعب في قلوب الطيور على مدى آلاف السنين، فهل جاء اليوم دورها لتزرع في قلبه الخوف من إنفلونزا الطيور؟ كلا، فالطيور لا تعرف الإنتقام، ولكنها ربما تدافع بذلك عن أنفسها. فالفيروس الذي قد تحمله الطيور المهاجرة من دون أن تصاب به لا ينتقل إلى الإنسان إلا إذا اصطاد هذه الطيور وأمسك بها. لذا من الأفضل أن يقلع عن الصيد كي لا يمرض أو يموت، فالوقاية خير من العلاج.
أليس من المفارقات أن قانون منع الصيد، الذي لم تفرضه السلطات عملياً ولم يلتزم به الصيادون، ستفرضه موجة إنفلونزا الطيور الآتية مع الأسراب المهاجرة؟
الدكتور غسان رمضان جرادي اختصاصي بالطيور، وهو أستاذ علم البيئة في الجامعة اللبنانية ومدير محمية جزر النخل في شمال لبنان.