نفايات صيدا، ثالث أكبر مدينة في لبنان وعاصمة الجنوب، أضحت اليوم جبلاً ضخماً شامخ الرأس، عريض الكتفين، أبيض اللون، لا ينقصه سوى شجر الأرز، يربض على شاطئ المدينة الجنوبي مسبباً أخطر أنواع التلوث في البحر والهواء.
مدينة صيدا، سيدة البحار ورائدة المدن الفينيقية، التي جابت سفنها بحار العالم القديم حاملة العلم والمعرفة والبضائع النفيسة، أضحت اليوم تشحن نفاياتها السامة في البحر من دون أي خجل من تاريخها.
ذاك المكب المارد، على رغم الاختلاف في تحديد تاريخ ولادته الدقيق، دخل في رأي كثيرين العقد الخامس من العمر. كان في طفولته صغيراً، مجرد قطعة أرض في محاذاة البحر، يرمى عليها ما تبقى من نفايات المدينة. آنذاك كان أصحاب البساتين، التي كانت تغطي ما يزيد عن 90 في المئة من مساحة المدينة، يأخذون معظم النفايات المنزلية لاستعمالها كسماد طبيعي لبساتينهم ومزروعاتهم. ففي غياب الأكياس البلاستيكية والمعلبات المعدنية، كانت الغالبية العظمى من النفايات عضوية.
وفي أيام شبابه، نما الجبل بسرعة أكبر اذ ابتدأت النفايات البلاستيكية والطبية وغيرها تتغلغل في أحشائه شيئاً فشيئاً. ولكن لم يكن هناك أي طمر للأتربة بهدف تغطية النفايات، وكذلك لم يكن هناك أي احتقانات تذكر لغاز الميثان. ولكن في السنوات الثماني الماضية نما الجبل طولاً وعرضاً وارتفاعاً بسرعة لا يصدقها العقل، كنبتة تنمو نتيجة المنشطات الكيميائية. وبدأت بلدية صيدا تلزيم جمع نفايات المدينة الى شركة صيداوية، وكذلك فعلت بلديات معظم القرى المجاورة التابعة لاتحاد بلديات صيدا ـ الزهراني. هذه البلديات كانت سعيدة جداً للخطة، اذ جاء من يأخذ نفاياتها ويرميها بعيداً عنها ومن دون أي كلفة على الاطلاق. فسارعت الى بيع آلياتها وصرف موظفيها، لأن تكاليف الشركة الملتزمة تدفع من أموال صندوق الاتحاد التي هي ملك كل بلدياته.
نتيجة لهذه الخطة، صار المكب يستقبل يومياً مئات الاطنان من النفايات. وعندما أصبح حجم الجبل لا يستوعب المزيد، طلبت بلدية صيدا من معظم القرى ايجاد حلول بديلة لنفاياتها. فانتشرت المكبات العشوائية والمحارق في تلك القرى. وما زال مكب صيدا يستقبل رسمياً ما يقارب 150 طناً من النفايات المتنوعة يومياً، من صيدا وبعض القرى التي تعتبر امتداداً جغرافياً لها، وحيث يعيش عدد كبير من أبناء المدينة، وكذلك من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة. وهذه النفايات بمعظمها منزلية وعضوية، لكنها تتضمن كل النفايات الاخرى التي تنتجها المدينة من مسالخ ومصانع ومستشفيات ودباغات وحتى محطات وقود. فالمكب يستقبل كل ما لا يريده الانسان وكل ما يريد أن يتخلص منه. لا رادع ولا محاسب ولا من يراقب ما يدخل. وبعد أن ترمى النفايات على ظهر الجبل أو جوانبه، تسرع الشركة الملتزمة الى تغطيتها بأطنان من الأتربة لكي تخفيها عن أعين المارين والناظرين براً وبحراً، وفي محاولة يائسة لتجميله و"تفطيس" الروائح الكريهة التي تفوح منه على مدار الساعة.
ولكن كيف يمكن تجميل بؤرة سرطانية خبيثة بهذا الحجم المرعب؟ النتيجة كانت احتقاناً داخلياً لغاز الميثان يترجم انفجارات وحرائق متعددة ومستمرة أشبه بالمؤثرات الخاصة التي يقوم بها أفضل مخرجي هوليوود، ولكن الفرق أنها هنا واقعية والمسافة بين المكب والمنازل لا تتعدى مئة متر. وكان آخر انفجار وحريق للمكب في أواخر شباط (فبراير) 2005، والمدهش أنه لم يخمد حتى الآن على رغم آلاف الامتار المكعبة من المياه التي رشَّتها سيارات الاطفاء وعشرات الأطنان من الاتربة التي رميت فوق ألسنة اللهب. والمضحك المفجع أنه عندما تقوم البلدية بطمر احدى الفوهات التي تقذف الدخان تنفجر فوهة أخرى من مكان آخر. وهذا الدخان الكثيف الأسود الغني بالغازات السامة ينتشر مع الرياح في سماء صيدا وضواحيها، ناشراً الأوبئة والأمراض. والأخطر من هذا كله وجود أكبر أربع مستشفيات في صيدا ضمن محيط المكب، وأبعدها لا يتجاوز 500 متر.
الخطر الماثل في هذا المكب هو الانهيارات المتكررة التي تؤدي الى سقوط آلاف الاطنان من النفايات مباشرة في البحر. وهي تغطي القاع، خصوصاً المغاور والنتوءات الصخرية، فتقضي على بيوت الاسماك المقيمة. وتنتقل مع التيارات البحرية لتنتشر في حوض البحر المتوسط. وتشكل النفايات البلاستيكية، خصوصاً أكياس النايلون، 90 في المئة من هذه النفايات، فتتسبب سنوياً في موت عشرات السلاحف البحرية التي تبتلعها متوهمة أنها قناديل بحر، كما تدمر شباك الصيادين.
الانهيار العظيم
ماذا يفعل المسؤولون والقيمون على المدينة أمام هذه الكارثة البيئية والانسانية؟ وما هو الحل الصحيح لهذا المكب الذي يكاد يدمر المدينة التي أعطته الحياة؟
بلدية صيدا السابقة برئاسة المهندس هلال القبرصلي واجهت المشكلة بجدية وحاولت ايجاد بديل للمكب. وبعد انتظار طويل زاد عن 16 شهراً وضغوط شعبية ورسمية من أعلى المستويات على وزارة البيئة (حتى وصل الامر مع وزير البيئة السابق الدكتور ميشال موسى الى التهديد بالاستقالة) وافقت الوزارة على انشاء مصنع لمعالجة النفايات على حدود المدينة الجنوبية، وطبعاً على حساب البيئة البحرية، حيث تم طمر مساحة 39,000 متر مربع في البحر. لكن هذا المصنع لن يكون جاهزاً للعمل قبل سنتين. فما البديل الآن للمكب المرعب الرابض على البحر؟
بلدية صيدا الحالية التي يرأسها الدكتور عبدالرحمن البزري سيَّست قضية المكب بعدما وافقت على تبرع بقيمة خمسة ملايين دولار من مؤسسة الوليد بن طلال الخيرية لمعالجة المكب. بالطبع عم الفرح أهالي المدينة لاعتقادهم أن التخلص من جبل النفايات المرعب أصبح وشيكاً. ولكن بعد أكثر من سنة، وعلى رغم الوعود المتكررة ببدء عملية المعالجة، لم يباشر العمل حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
وخلال هذه السنة، عمدت البلدية الى تعريض مساحة الجبل بفتح طرق جانبية على ارتفاعات مختلفة بدءاً من الاسفل لرمي مزيد من النفايات والأتربة، ومن ثم عمدت الى رمي النفايات على ظهر الجبل مما زاد ارتفاعه بشكل هرمي. والأخطر من هذا كله أنها في نهاية الأمر، وعندما ضاقت أمامها الخيارات، عمدت الى رمي النفايات من الجهة الغربية المطلة مباشرة على البحر، وهذا أدى الى أسوأ انهيارات في تاريخ المكب، حين وقع في البحر من جراء ثلاثة انهيارات خلال اسبوع واحد في أوائل شهر أيلول (سبتمبر) 2005 ما لا يقل عن ثلاثة آلاف طن من النفايات. هذا أدى الى تغطية البحر بالنفايات من القاع حتى سطح الماء، ومن ثم حملتها التيارات البحرية والرياح ونشرتها في كل البحر اللبناني، وبالتأكيد ستنتشر في البحر المتوسط وتحط على شواطئ بلدانه.
رئيس بلدية صيدا اعترف أمام الاعلاميين في أيلول (سبتمبر) 2005، خلال اعتصام دعت اليه نقابة الغواصين المحترفين في لبنان و"غرينبيس المتوسط" مع العديد من الجمعيات البيئية الناشطة في لبنان، بأن البلدية "تسرعت" في قبول هبة الخمسة ملايين دولار لأنها ما زالت تنتظر موافقة وزارة البيئة على الحل المقترح للتخلص من جبل النفايات. وكانت البلدية اقترحت بناء سور داخل البحر ومن ثم تقوم بردم الجبل داخل الحوض الناتج عن بناء السور، فتتخلص المدينة من جبل الرعب بأسرع وقت وأقل كلفة. وقد أكد لي رئيس البلدية الدكتور البزري أن هذا الحل مقبول من مدير عام وزارة البيئة الدكتور برج هتجيان، وهو حل بيئي وكلفته لا تتعدى الثلاثة ملايين دولار.
أما الحل الآخر الذي طرحه رئيس البلدية فكان فرز ما يحتويه الجبل من نفايات، واستغلال ما يمكن إعادة تصنيعه، وضخ الأتربة مباشرة الى البحر. وبالتأكيد ستكون هذه الكميات كبيرة جداً نظراً الى قدم المكب وكميات الأتربة الهائلة التي طرحت فوق النفايات بشكل يومي. فلن يقبل أي انسان أو مؤسسة استعمال هذه الأتربة لما تحتويه من سموم قد تضر بالتربة والمزروعات. وكان رئيس البلدية اعترف بوجود نسبة عالية جداً من المعادن الثقيلة في الأتربة بعد فحصها مخبرياً، تتعدى 30 ألف مرة ما هو مسموح به، الا أنه أكد أيضاً كفالته أن هذه الاتربة بعد معالجتها ستكون نظيفة جداً من أي ملوثات.
ولكن، حتى الآن، لم يتقدم أحد لأخذ هذه الاتربة، وما زالت البلدية تنتظر جواب وزارة البيئة لرميها في البحر، وهذا ما سترفضه نقابة الغواصين المحترفين في لبنان ونقابات الصيادين والجمعيات البيئية. ووزارة البيئة حريصة على أن تبقى بعيدة عن المصائب البيئية العديدة في طول هذا الوطن وعرضه، وهي ما زالت تفتقر الى خطة وطنية شاملة لمعالجة ملف النفايات الصلبة. فتارة تروّج للمحارق، وطوراً لما تسميه الطمر الصحي، والأسوأ من هذا كله المراوغة والمماطلة في اتخاذ القرارات بشأن الحلول التي تقدمها البلديات التي تعاني من أزمة خانقة للنفايات الصلبة.
الدكتور البزري، الذي أعلن أنه بانتظار جواب من وزارة البيئة على اقتراح قدمته البلدية، وعد المواطنين مؤخراً بأخبار سارة قريباً. فنأمل أن تكون بداية النهاية قريبة لجبل الموت والأمراض، جبل نفايات صيدا، ولكن بالطرق العلمية الصحيحة كما عولج مكب النورماندي في بيروت، حرصاً على صحة الانسان والبحر.
كادر
حديث في الخفاء: لنطرح هذا الجبل في البحر!
قد يبدو الخيار الاسهل والأوفر لبلدية صيدا، التي بحوزتها 5 ملايين دولار هبة من الامير الوليد بن طلال، أن ترمي بجبل النفايات في البحر بعد فرز محتوياته لسحب النفايات الصلبة. وهناك من يقوم بدراسة الاثر البيئي لهذا المشروع لتمريره، بحيث تعطي وزارة البيئة الموافقة لبلدية صيدا للبدء بالفرز ورمي الاتربة في البحر.
ان رمي جبل النفايات في البحر خطير جداً لما يحويه من ملوثات خطرة ناتجة عن النفايات الطبية والكيميائية المختلفة التي رميت في المكب على مدى عقود. واذا حصل، فسيشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقيات دولية وقعها لبنان وأبرزها اتفاقية برشلونة واتفاقية لندن، وسيكون كارثة بيئية فظيعة ليس في لبنان فحسب بل في كل حوض البحر المتوسط. وقد أكدت الجمعيات البيئية ونقابة الغواصين المحترفين أنها ستعارض هذا الطرح وتواجهه بكل ما لديها من عزم، وستبلغ سكرتيرية الاتفاقيات الدولية المعنية بتلك المخالفات.