يقول الدكتور سوامي ناثان، أبو الثورة الخضراء في الهند: ''الحماية بلا تمويل هي مجرد حديث". ان قرار وزراء البيئة العرب في كانون الأول (ديسمبر) 2004، بناء على مبادرة وزير البيئة في لبنان، انشاء مرفق البيئة العربي (AEF) واجتذاب استثمارات القطاع الخاص في البيئة، هو قرار جوهري ويدل على ان هناك تصميماً على مستوى سياسي رفيع للتصدي للتدهور البيئي في المنطقة. لقد حان الوقت الآن لاتخاذ الخطوات الضرورية لتنفيذ هذا القرار وترجمة الكلمات الى أفعال ملموسة.
المنطقة العربية، التي تقدمت العالم في ما مضى في ميادين العلوم والرياضيات والأدب، تواجه جملة من التحديات الانمائية والبيئية. وعلى رغم بعض التحسنات خلال السنين العشر المنصرمة، فان الأجيال المقبلة في المنطقة العربية ستستمر في مواجهة تحديات بيئية خطيرة، ما لمتبذل عناية كبيرة وتوظف الأموال لعكس اتجاه حالة التدهور البيئي السائدة، خصوصاً في ما يتعلق بندرة المياه ومشاكل التلوث والصحة وضعف المؤسسات البيئية والأطر القانونية.
ان مشاكل البيئة والموارد الطبيعية تمليها السمات الجغرافية للمنطقة ومناخها الجاف وشبه الجاف. ونتيجة لذلك، أدى توزع الموارد المائية والاراضي الصالحة للزراعة الى تجمع نحو 250 مليون نسمة في المناطق الساحلية وأودية الأنهار. هذه الظاهرة، التي رافقها تجمع مماثل للمراكز الصناعية والأنشطة الزراعية وخدمات النقل، خلقت مشاكل فريدة ومعقدة تتعلق بالادارة البيئية. وتتفاقم الضغوط على قاعدة الموارد من جراء الطلبات الناتجة عن ارتفاع نسبي في معدلات النمو السكاني واستمرار الهجرة من المناطق الريفية الى المراكز المدينية التي تزداد اكتظاظاً.
وعلى رغم بعض التقدم، ما زال 45 مليون شخص يعيشون من دون وصول الى مياه مأمونة. ويعيش 85 مليون شخص، أي نحو 30 في المئة من سكان المنطقة، من دون وصول الى خدمات صرف صحي مناسبة. وتعاني المنطقة أيضاً من خسارة الأراضي الزراعية وتزايد التدهور الساحلي. وتتقلص أراضي المحاصيل الدائمة، التي تشكل حالياً أقل من 6 في المئة من المساحة الاجمالية، نتيجة تدهور التربة وضغوط التنمية.
المشاكل البيئية في المنطقة ليست قضايا تجريدية لا تحتمل النقاش الا في أوساط الموسرين، كما كان يشاع في الماضي. فهذه المشاكل البيئية التي تدوم وقتاً طويلاً لها تأثيرات كبيرة على الاقتصاد وصحة الانسان. وبحسب التقديرات الواردة في خطط العمل البيئي الوطنية لبلدان المنطقة، تراوح الكلفة السنوية للأضرار البيئية بين 4 و9 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لبعض البلدان. وعلى سبيل المثال، تبلغ هذه النسبة في الجزائر 9,6 في المئة، وفي المغرب 8 في المئة، وفي سورية 7 في المئة، وفي لبنان 6 في المئة. وهذه التكاليف أعلى مما هي في أوروبا الشرقية (5 في المئة) وأعلى كثيراً مما هي في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2 ـ 3 في المئة).
العنصر الرئيسي في تحقيق تنمية سليمة بيئياً ومستدامة هو بناء قدرة مؤسسية وتقنية لاختيار وتطبيق وتكييف تكنولوجيات مناسبة في مجالات الطاقة والنقل والانتاج الصناعي والزراعي، تلك المجالات التي تساهم بالدرجة الكبرى في التدهور البيئي في المنطقة.
ان غنى المنطقة العربية ككل بالموارد المالية والفكرية يمكنه التعويض عن التوزع غير المتكافئ للموارد الطبيعية. ولكن يجب ايجاد وسيلة لتجييش هذه الموارد من أجل الازدهار والاستقرار في المنطقة. هذا التعاون سيمكن البلدان العربية من التشارك في المعرفة والموارد البشرية والتكنولوجيا. واذا كان التمويل الضروري متوافراً، أمكن تبادل طرق لتحسين تكنولوجيات ادارة المياه وانتاج الغذاء والنقل والطاقة، بسبب أوجه الشبه الكثيرة في المناخ والأرض والثقافة. ان مرفق البيئة العربي خطوة هامة في هذا الاتجاه.
تمويل كافٍ... ومن مصادر عربية
في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وضعتُ لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي مسودة أول ورقة عمل لفكرة تأسيس ''مركز البيئة والتنمية للاقليم العربي واوروبا'' (سيداري). وكان القصد من المركز المساعدة في تنسيق وتوفير بعض التمويل لأبحاث حول قضايا بيئية وانمائية ملحة في المنطقة العربية. وبعد عدد من المشاورات بين البلدان العربية، تم تأسيس المركز في القاهرة بتمويل أولي من برنامج الأمم المتحدة الانمائي. وللأسف، لم تتحقق خطط تجميع موارد مالية اضافية كافية للمركز، وبقي نطاق أنشطته متواضعاً.
في العام 1991، اقترحتُ تأسيس ''بنك الشرق الأوسط للتنمية''، على غرار بنوك التنمية الافريقية والآسيوية والأميركية، مع فرق حاسم واحد: التمويل يجب ألا يأتي من الولاياتالمتحدة أو من بلدان صناعية غنية أخرى، وانما من مصادر مالية في المنطقة. بنك الشرق الأوسط للتنمية كان سيمول، بين أمور أخرى، مشاريع تحسينات بيئية، ويحض على خطط جريئة للمياه والطاقة المتجددة من شأنها أن تخلق وظائف وتعزز نوعية الحياة. وللأسف، فان الولايات المتحدة روجت للفكرة على أنها مبادرة متعددة المانحين، وبعد سنتين أو ثلاث سنوات من الاجتماعات والمناقشات لم تحرز الفكرة نجاحاً يذكر وتم إسقاطها.
اني أذكر هاتين المبادرتين هنا لكي نتعلم من تجارب الماضي والتاريخ الحديث: أن التمويل الكافي أمر حاسم، وفي حالة مرفق البيئة العربي يجب أن يكون من المنطقة ولأجل المنطقة. المهم أن نبدأ الآن ومن ثم نتطور مع الوقت ومع تغير الظروف. لقد كتب فيلسوف صيني مرة: ''ان شجرة لا يستطع رجل أن يضم جذعها بين ذراعيه تولد من برعم صغير".
تجدر الاشارة أيضاً الى أن البلدان المانحة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية رفضت تكراراً تمويل مرافق اقليمية أو تأسيس صناديق بيئية اقليمية، مفضلة عليها تمويل مرفق البيئة العالمي (GEF). ومنذ تأسيسه في العام 1991، تطور مرفق البيئة العالمي من برنامج تجريبي متواضع الى أكبر مصدر تمويل للبيئة العالمية، وأصبح عامل تحفيز مهم للتنمية المستدامة في البلدان النامية. في سجله أكثر من 17 مليار دولار، وقد ارتفع عدد البلدان الأعضاء فيه من أقل من 30 الى 176 بلداً. وهو مثال جيد على العمل الجماعي الدولي الذي يحقق فوائد على المستويات المحلية والاقليمية والعالمية. وفي الحالة التي نحن بصددها، فان مرفق البيئة العربي يمكنه أن يصبح تجسيداً للعمل الجماعي الاقليمي مع تحقيق فوائد على المستويين المحلي والاقليمي.
ان انجازات مرفق البيئة العالمي هامة، ليس فقط بحد ذاتها، وانما أيضاً كنموذج لهيئات دولية أخرى. فصندوق الصحة العالمي، مثلاً، أنشئ الى حد كبير على غرار مرفق البيئة العالمي. وستكون هناك هيئات أخرى في المستقبل فيما يعتمد العالم طرقاً ووسائل للتعامل مع تنامي أجندة الموارد العالمية المشتركة. وفي رأيي، يمثل صندوق البيئة العالمي وصندوق الصحة العالمي الجيل الجديد من المؤسسات العالمية الصغيرة والكفوءة التي تستهدف أجندة عالمية محددة أو مورداً عاماً محدداً. وهما يقدمان نموذجاً لمؤسسات اقليمية وعالمية في المستقبل.
نموذج برسم التكييف
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من خبرة مرفق البيئة العالمي وتطبيقها على مؤسسات متخصصة أخرى مثل مرفق البيئة العربي؟ سوف أورد ستة مجالات:
1. العمل الجماعي. مرفق البيئة العالمي ترسخ بالمصادقة عليه في قمة ريو وقبول الاتفاقيات البيئية الدولية به كآلية مالية. هذه الأعمال الجماعية المتعددة الأطراف توفر الشرعية ومبرر الوجود لمرفق البيئة العالمي. كذلك، يجب ترسيخ مرفق البيئة العربي بقرار وزراء البيئة العرب الصادر عام 2004 وبمصادقة الجامعة العربية.
2. التنمية الوطنية المستدامة. في حين أن مهمة صندوق البيئة العالمي هي تعزيز البيئة العالمية، أدركنا منذ البداية أن هذا الهدف يمكن تحقيقه على أفضل وجه في سياق التنمية الوطنية المستدامة. فالطاقة المستدامة والحراجة المستدامة ومصائد الأسماك المستدامة والادارة المائية المستدامة عبر الحدود هي الوسائل اللازمة لتحقيق فوائد عالمية تتعلق بتغير المناخ والتنوع البيولوجي والمياه الدولية. فعلى مرفق البيئة العربي، حين يمول المشاريع البيئية، أن يدفع أيضاً الى الأمام قضية التنمية المستدامة في المنطقة. وعلى البلدان المعنية أن تدخل البيئة في تفكيرها وخططها الانمائية.
3. التمويل. لولا التمويل الاضافي أو المتزايد تدريجياً لما وُجد مرفق البيئة العالمي أصلاً، ولما وضعت الاتفاقيات الدولية التي يدعمها موضع التنفيذ مثل كثير من الاتفاقيات التي سبقتها. لكن موارد مرفق البيئة العالمي صغيرة بالمقارنة مع احتياجاته. ولهذا السبب استخدمت موارده بطريقة استراتيجية لجذب استثمارات اضافية من مصادر خاصة وحكومية، بما في ذلك البلدان المعنية. و''البورتفوليو'' الحالي البالغ نحو 17 مليار دولار يتكون من هبات من المرفق بقيمة 5 مليارات دولار وتمويل مشترك بقيمة 12 مليار دولار. ان اجتذاب تمويل اضافي وتمويل مشترك من القطاع الخاص واقامة شراكات حكومية / خاصة يجب ان يكونا عنصرين رئيسيين في المبادئ التشغيلية لمرفق البيئة العربي.
4. الادارة. الشراكة الخاصة بين البلدان النامية والمتقدمة تنعكس في الهيكلية المؤسسية لمرفق البيئة العالمي وادارته. فمن أصل 32 مقعداً في مجلس الادارة، هناك 16 معقداً لبلدان نامية و14 لبلدان متقدمة. واضافة الى ذلك، فان آلية التصويت مبنية على غالبية مزدوجة (عدد البلدان منجهة والتمويل من جهة أخرى). وبالنسبة الى مرفق البيئة العربي، سيتوقف النجاح على وجود ادارة شفافة تعكس مصالح مصادر التمويل الحكومية والخاصة اضافة الى المنتفعين.
5. المعرفة وبناء القدرات. تبادل المعرفة، سواء حول تكنولوجيا معينة أو اصلاح سياسي، وبناء قدرات البلدان النامية لمعالجة القضايا المعقدة للبيئة المستدامة، كانا جزءاً لا يتجزأ من أنشطة مرفق البيئة العالمي. وقد تم دعم بناء القدرات في سياق مشاريع مستقلة، كنشاط قائم بذاته، أو كأنشطة تمكين للايفاء بمتطلبات الاتفاقيات الدولية. في المستقبل، يجب التعامل مع بناء القدرات كنشاط متعارض يتم دمجه في خطط التنمية المستدامة الوطنية واستراتيجيات تخفيض معدلات الفقر. ان المعرفة العلمية والخبرة التقنية يجب أن تشكلا أساس الاستراتيجيات الشاملة في المنطقة العربية لتحقيق أهدافها المتعلقة بالبيئة والتنمية المستدامة. كما ان استحداث مراكز امتياز وشبكات أبحاث وتدريب يجب أن يحظى بأولوية عالية.
6. المؤسسات الحديثة في مقابل المؤسسات القائمة. كانت النية دائماً ألا يصبح مرفق البيئة العالمي بيروقراطية جديدة. والنموذج الذي قبل به المجتمع الدولي في نهاية الأمر هو هيئة صغيرة لها أمانة (سكرتارية) كفوءة، تعتمد على منظمات قائمة وناجحة لتنفيذ عملها على الأرض. أما صندوق الصحة العالمي فتم تأسيسه كمنظمة جديدة ومستقلة. والوقت سيبين أي نموذج هو أكثر كفاءة وشفافية وفاعلية. وبالنسبة الى مرفق البيئة العربي، أعتقد ان الهيكلية المؤسسية يجب أن تعكس المميزات والاحتياجات الخاصة للمنطقة، لكن يجب أن تكون مبنية أولاً وقبل كل شيء على الكفاءة، لتحقيق أفضل استخدام للموارد وأكبر تأثيرات على الأرض.
من خلال تبادل هذه الدروس والخبرات المستقاة من مرفق البيئة العالمي، لا أدعي أن هذا المرفق هو النموذج المثالي الذي يجب تطبيقه في ما يخص جميع الأهداف الأخرى. ما أقوله هو أن هناك خصائص ومميزات رئيسية للمرفق ساهمت في نجاحه، وهذه الخصائص والمميزات يجب تحليلها في سياق الوضع المحدد وتطبيقها أو تعديلها وفقاً لذلك. أنا، شخصياً، أفضل اجتناب ''القياس الواحد الذي يلائم الجميع''، وأفضل المرونة التنظيمية التي تسمح بتعديلات تستوعب الظروف المتغيرة.
ان بداية القرن الحادي والعشرين هي وقت ملائم لاقامة تعاون عربي حول أجندة خاصة بالتنمية الاقليمية المستدامة، من شأنه أن يدعم نمواً اقتصادياً واسع القاعدة من دون المجازفة بالبيئة الهشة في المنطقة. ومرفق البيئة العربي يمكنه المساعدة في تحفيز الاستثمارات اللازمة لتخفيف المشكلات البيئية الأكثر إلحاحاً وللتقليل من التأثيرات البيئية المستقبلية من خلال تنمية مستدامة مسؤولة. ان نجاح مرفق البيئة العربي يحتاج الى ميثاق لا يدعم التعاون الاقليمي فقط، وانما يحشد أيضاً الموارد البشرية والمالية الاقليمية بطرق تعزز الاستقرار والازدهار والأمن على المدى البعيد في المنطقة العربية.