ارتفع الدخل من صادرات النفط في دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بمبلغ 465 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي حين بلغت العائدات الاضافية 50 مليار دولار عام 2003، فقد وصلت الى 126 ملياراً عام 2004 وتجاوزت 289 ملياراً سنة 2005. وحصلت الدول العربية المصدرة على نحو 85 في المئة من هذا الدخل الاضافي، فيما توزع الباقي على إيران وكازاخستان وأذربيجان.
هذه الأرقام جاءت في التقريـر الاقتصـادي الاقليـمي السنوي لصندوق النقد الدولي، الذي أعلنه في بيروت مدير ادارة الشرق الاوسط وآسيا الوسطى في الصندوق محسن خان.
وقد أثبت التقرير، بعبارات تصدر للمرة الأولى بهذا الوضوح عن هيئة مالية دولية، خطأ الاعتقاد السائد أن سعر برميل النفط وصل إلى أعلى حد له اطلاقاً هذه السنة. فالمقارنة الحقيقية يجب أن تأخذ في الاعتبار القوة الشرائيةوالتضخم. ويوضح التقرير أنه إذا أخذنا أسعار سنة 2003 كمعيار ثابت، فإن السعر الحقيقي للبرميل كان 80 دولاراً في 1980، بالمقارنة مع سعره الحقيقي المقدر بمبلغ 56 دولاراً خلال سنة 2005. ويبيّن التقرير أن الأربعين دولاراً التي بلغها سعر البرميل في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، توازي نحو مئة دولار بأسعار اليوم. إذاً، ما زال سعر برميل النفط، حتى في الحد الأقصى على عتبة السبعين دولاراً الذي بلغه هذه السنة، أقل من سعر السوق الحقيقي. وهذا التحليل السعري يقوم على أسس اقتصادية صرفة لا تأخذ العوامل البيئية في الاعتبار. فلو تم حساب الآثار البيئية لاستهلاك النفط كمورد معرّض للنضوب، لتضاعفت الأسعار.
أهمية هذا الكلام أنه يأتي من أبرز سلطة مالية دولية. وهو يؤكد ما قلناه مراراً من أن الأسعار الرخيصة غير الواقعية للنفط خلال العقود الماضية فرضتها الدول الصناعية، خارج الاعتبارات الواقعية للسوق. فلو كانت احتياطات النفط موجودة في الدول الصناعية، لكانت اعتبرتها مورداً وطنياً استراتيجياً وفرضت أسعار تصدير تبلغ أضعاف الأرقام المتداولة. ولم يكن غريباً في هذه الحال أن يكون سعر البرميل اليوم في حدود 200 دولار.
ولطالما استُعملت مصادر الطاقة البديلة مثل بعبع لتخويف الدول المصدّرة من رفع أسعار النفط، اذ تم إيهامها بأنه كلما ارتفع سعر البرميل تصبح المصادر البديلة أكثر جدوى اقتصادياً، مما يؤدي مع الوقت الى الاستغناء عن النفط. وهذا الكلام هراء، لأنه من المؤكد أن النفط سيبقى، على الأقل خلال السنوات الخمسين المقبلة، المصدر الأرخص والأسهل للطاقة. كما أن للنفط استخدامات صناعية أخرى، تبدأ بالكيماويات ولا تنتهي بالبروتينات والأنسجة. وقد أكد تقرير دولي صدر الشهر الماضي على نجاح تجارب لعزل ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن احتراق النفط، ومعالجته وتخزينه، مما يفتح آفاقاً واسعة أمام استخدام ''البترول الصديق للبيئة''. فلا خوف على أسعار النفط، بقدر ما يتحتم الخوف من هدر هذا المورد بالانتاج الاستنزافي. ومن الأفضل بيع مليون برميل بسعر مئة دولار للبرميل، بدلاً من بيع مليوني برميل بسعر خمسين دولاراً للبرميل الواحد. فهكذا يحصل المنتجون على الدخل نفسه، لكنهم يحتفظون بالنصف الباقي كاحتياطي.
يكشف تقرير صندوق النقد الدولي أن 71 في المئة من الاحتياطي المؤكد للنفط موجود في دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال افريقيا. وتأتي السعودية في الطليعة، تليها العراق وإيران والكويت والامارات. كما تحتضن المنطقة نفسها نصف احتياطي العالم من الغاز، معظمه في قطر وإيران. لكن 41 في المئة فقط من صادرات النفط والغاز العالمية تأتي اليوم من هذه المنطقة، ما يعني أن حصتها ستزداد مع نضوب المخزون في مناطق أخرى.
جميع المؤشرات تدل، إذن، على أن دخل الدول المصدرة للنفط سيزداد خلال السنوات المقبلة. فكيف يمكن استخدامه في الاتجاه الصحيح، لتعم فوائده على شعوب الدول النفطية وجيرانها؟ تقرير صندوق النقد الدولي يشير إلى ان طريقة استخدام الدخل المتزايد من تصدير النفط ستحدّد ما إذا كانت هذه الفورة الاقتصادية نعمة أم نقمة. ويقدم الصندوق نصائح اقتصادية صرفة، تدعو إلى الاستثمار في مشاريع انتاجية تؤدي إلى تنويع مصادر الدخل وتخلق فرص عمل. ويحذّر من تركيز صرف المداخيل الاضافية في مشاريع عقارية وتجارية سريعة، تقود إلى ارتفاع سريع في مستويات الاستهلاك، مما يفاقم عوامل التضخم ولا يخلق قاعدة انتاج صلبة.
ونذكر أن إحدى الحكومات العربية تراجعت عن مشروع لانتاج الهيدروجين المضغوط وتصديره إلى أوروبا، لأن دراسة الجدوى أظهرت أن استرداد الاستثمار يحتاج الى عشرين سنة. وبمقياس مالي بحت، وجدت العائد ليس مجزياً بما فيه الكفاية مقارنة مع مشاريع التطوير العقاري والأسواق الاستهلاكية. وفات هذه الحكومات أن انتاج الهيدروجين كان سيدخلها شريكاً في تكنولوجيا تُعتبر طاقة المستقبل، مما يؤهلها لاعادة انتاج الثروة بدل هدرها. فهل يكون الدخل الاضافي من النفط حافزاً لنظرة جديدة إلى الاستثمار في برامج تؤمن استدامة التنمية، لا في مشاريع استهلاكية تشبه الوجبات السريعة؟
وإذ ينبّه التقرير الى أن احتياطات بعض دول المنطقة المصدرة للنفط اليوم، مثل عُمان، ستنضب خلال سنوات قليلة، يدعوها إلى المباشرة فوراً في تطوير بدائل تقوم على نشاطات انتاجية أخرى غير النفط. واذا كانت عُمان تحتاج إلى بدائل اقتصادية من النفط في المدى المتوسط، فجميع دول المنطقة تحتاج إلى هذه البدائل في المدى البعيد.
ما لم يشر إليه تقرير صندوق النقد الدولي أن أمام الدول المنتجة للنفط فرصة نادرة اليوم لاستخدام الدخل المتزايد في تطوير قاعدة العلوم والتكنولوجيا، وانشاء صناديق لرعاية البيئة، إذ بهذا فقط يمكن تحقيق التنمية القابلة للاستمرار. واذا كانت البيئة قد بقيت خارج اهتمامات الطفرة النفطية في السبعينات، لأن احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية كانت طاغية، فلا يجوز إلا أن تأخذ الاستثمارات البيئية حصة ملموسة من عوائد الطفرة الراهنة.
وما لم يشر إليه التقرير أيضاً ضرورة تطوير أطر فعالة للتعاون الاقليمي، فتعم فوائد التنمية جميع دول المنطقة، المنتجة منها للنفط والمستهلكة. فالتنمية المتوازنة هي طريق الاستقـرار والسبيل الأقرب إلى مكافحة الارهاب.