هناك فيض من التقارير الإعلامية والدراسات التحليلية التي تحاول استقراء مستقبل الدول العربية بعد بداية ما سمي «الربيع العربي». وهو تمثل في تحركات احتجاجية شعبية وصلت إلى مرحلة الثورات التي قلبت الأنظمة وغيرت السلطة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ومواجهات عنيفة مع السلطة في سورية والبحرين، وحركات شعبية متتالية في الشارع من أجل تسريع الإصلاح السياسي في الأردن والمغرب والجزائر. ومع أن معظم التوقعات تشير إلى ظهور فجر عربي جديد يتميز بالمزيد من المشاركة الشعبية في صنع القرارات السياسية والاقتصادية، والتخفيف من غلواء السطوة الأمنية على مختلف مناحي الحياة في الدول العربية، والتوجه الجدي نحو مكافحة الفساد وتحسين حريات الإعلام والتعبير، فإن هذه التحولات العربية تبقى مفتوحة على جميع الاحتمالات، الإيجابية والسلبية.
كثيرة هي الأسباب التي دفعت المجتمعات العربية إلى الثورة والنهوض في وجه أنظمة الحكم السائدة منذ عقود. ربما تكون الخصائص الديكتاتورية والتسلطية لمعظم الأنظمة سبباً رئيسياً، كذلك الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية وتردي نوعية الحياة وزيادة الفقر والبطالة. وفي واقع الأمر، يمكن اختيار سببين استراتيجيين لنهوض الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي، هما القمع والفساد. ولكن من الأسباب الرئيسية التي لم يتم التركيز عليها في التغطية الإعلامية والتحليلية لهذه الثورات هو القمع الذي مارسته السلطات ضد المواطنين العرب عن طريق انتهاك حقوقهم في الموارد وفي البيئة النظيفة، كذلك الفساد الناجم عن سوء إدارة الثروات والموارد الطبيعية في معظم دول العالم العربي. فهذا أدى بفئات عديدة من الشعب إلى الثورة والاحتجاج بهدف تغيير أنماط الحكم واستعادة الهيمنة على الموارد والثروات الطبيعية.
ثمة علاقة مباشرة، وإن لم تكن واضحة، بين الثروات والثورات العربية. ففي الوقت الذي تعيد فيه الشعوب العربية تعريف الطريقة التي تريد أن تدار بها دولها، وتجنح نحو الديموقراطية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وتبدأ في بناء مستقبل جديد ومزدهر للأوطان، من المأمول أن تصبح خياراتها الاستراتيجية في مجال إدارة الموارد الطبيعية وتطوير الاقتصاد مختلفة عما كانت في ظل أنظمة شمولية لا تقبل الحوار.
من الصعب وضع جميع الأنظمة العربية في المعيار السياسي والتنموي والبيئي نفسه. ففي بعض الدول، تمكنت الأنظمة من توفير نمط حياة يفوق المعدل العالمي، عن طريق ضخ عائدات النفط إما في المشاريع التنموية والاستثمارية وإما في خلق الوظائف وتأمين الخدمات والسلع بأسعار زهيدة نسبياً عن طريق الدعم الحكومي، وهذا حقق نوعاً من الاستقرار. وفي دول حققت مرتبة متوسطة من النمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية، مثل المغرب والأردن وتونس ومصر والجزائر ولبنان وسورية واليمن، تأثرت الاقتصادات الداخلية بموجات العولمة وارتفاع الأسعار والاحتكارات الرأسمالية. في هذه الدول تحولت الرموز السياسية إلى رجال أعمال يحتكرون قطاع «البزنس» الدولي والإقليمي، بينما تغرق الفئات الكبرى من الشعب في مستنقع الديون والفقر والبطالة. ومع أن الأحوال الاقتصادية ـ الاجتماعية تتشابه في الدول المذكورة، فإن اختلاف مسارات الاحتجاجات فيها جاء نتيجة تباين مستويات القمع السياسي والأمني. فقد شهدت الدول التي مورس فيها القمع بمنهجية شديدة ثورات لم تقبل إلا بتغير نظام الحكم، بينما تمكنت الأنظمة التي وفرت بعض أجواء الحريات العامة من استيعاب الاحتجاجات الشعبية.
أما الحالة الليبية فهي استثنائية، حيث مكث نظام حكم خارج التاريخ على أنفاس الشعب لمدة 40 عاماً تقريباً، مضيعاً ما مجموعه ثلثا الثروة النفطية (حسب تقييم محمود جبريل أحد رموز المجلس الانتقالي) على مغامرات نرجسية نحو الزعامة الإقليمية والعربية، في غياب مشاريع التنمية والاستثمار وتطوير البنية التحتية.
الفساد البيئي في العالم العربي
شهدت الدول العربية العديد من حالات الفساد البيئي، التي تعكس إما عدم الاكتراث بأهمية الموارد الطبيعية وحماية حقوق المواطنين في بيئة سليمة، وإما حالات من السرقة الحقيقية لقيمة الموارد الطبيعية نتيجة سياسات الخصخصة وبيع الأصول، التي لا تتضمن تحسين الأداء بمقدار ما تهدف إلى تحقيق الأرباح الطائلة بطرق تتجاوز القانون.
في ليبيا، أهدر نظام القذافي ثروة الشعب النفطية في مغامرات طائشة وبذخ شخصي فاحش من دون الاهتمام بحقوق التنمية في البلاد. لكن الأمر تجاوز ذلك في تعمد تعريض المواطنين الليبيين للتلوث بالمواد السامة. فقد كشفت وثائق ويكيليكس أن القذافي رفض في العام 2009 التخلص من آخر شحنة من بقايا اليورانيوم المخصب من البرنامج النووي الليبي غير المكتمل، وكان يجب أن تشحن إلى روسيا للتخلص الدائم منها. وأبقاها في مركز أبحاث، غير مؤمنـة لا أمنياً ولا بـيئياً، في محاولة للضغط على سلطات مدينة نيويورك التي رفضت السماح له بإقامة خيمته الشهيرة في حديقة سنترال بارك أثناء مشاركته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وقد بقيت الشحنة في المركز منذ ذلك الوقت.
أما في تونس، فقد تناقل المجتمع التونسي قصصاً ووقائع حول قيام زوجة الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلتها بممارسة الضغوط على المواطنين والمؤسسات العامة، لتسجيل أراض زراعية خصبة بأسماء أفراد عائلتها، وتحويل مسمياتها من زراعية ذات ملكية للدولة إلى استثمارية ذات ملكية خاصة، لإقامة مشاريع سياحية وعقارية على أخصب الأراضي وأفضلها في تونس. مثل هذه الحالات من الفساد هي التي وضعت الشعب التونسي أمام خيار الثورة وتغيير النظام، على رغم تحقيق تقدم مشهود في مجال التعليم والتنمية والتصنيع، خصوصاً في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
وفي مصر، كان موضوع الفساد والهدر في إدارة الموارد الطبيعية من أهم الملفات الساخنة على منبر الثورة المصرية، خصوصاً قرار الحكومة بيع الغاز الطبيعي لإسرائيل بثلث متوسط السعر العالمي. وساهم ذلك في تأجيج المشاعر الشعبية والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذا الملف وتفجير خط الغاز الناقل إحدى عشرة مرة حتى شباط (فبراير) 2012. وجدير بالذكر أن هذا الخط نفسه ينقل الغاز الطبيعي إلى الأردن، الذي عانى الأمرين من انقطاع تدفق الغاز واضطراره للتعويض عن طريق شراء النفط من السوق العالمية. وهناك قضية أخرى أرقت الشارع المصري قبيل الثورة، تتعلق بضعف الدولة في الدفاع عن حقوقها في مياه النيل والوصول إلى تفاهم يستعيد الحصص المصرية التاريخية، التي يتم حالياً التفاوض بشأن إعادة تخصيصها بين دول حوض النيل في غياب مصري واضح.
ظهرت أيضاً في شعارات الثورة المصرية احتجاجات على إدخال المخصبات الزراعية المسرطنة إلى السوق المصرية، واستمرار المصانع في تلويث مياه النيل، وعدم جدوى مشروع توشكى للزراعة في الصحراء، واستمرار ظهور السحابة السوداء الكريهة في سماء القاهرة في كل فصل خريف نتيجة حرق قش الرز في الأسابيع الأخيرة من الصيف. وربما كان من أهم مشاهد الوعي في الثورة المصرية قيام شبان الثورة وشاباتها بتنظيف ميدان التحرير من المخلفات فور سقوط النظام، والبدء بإخلاء الميدان بعد نحو 20 يوماً من الاعتصامات والتظاهرات والمواجهات المستمرة.
حتى في البلدان التي لم تصل فيها الاحتجاجات إلى المطالبة بتغيير النظام، مثل الأردن، كان من أهم شعارات المتظاهرين وقف بيع أصول الدولة ومواردها للقطاع الخاص. فتم تحميل سياسات الخصخصة الكثير من المسؤولية على تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، خصوصاً بيع شركات الاستخراج والتعدين الناجحة مثل شركات الإسمنت والفوسفات والبوتاس، التي حققت عوائد وأرباحاً كبيرة بعد بيعها بمبالغ زهيدة نسبياً وعدم فرض مسؤولية بيئية عليها لتنظيف المناطق الملوثة الناجمة عن عمليات التعدين.
من الممكن ايضاً ملاحظة علاقة مباشرة بين الثورات في بعض الدول العربية ووصولها إلى قمة إنتاج النفط في مراحل سابقة ومن ثم تدهور الإنتاج النفطي والتراجع إلى مستوى استيراد الطاقة. وهذا ما حدث في مصر، حيث وصل إنتاج النفط إلى الذروة في العام 1987، وفي سورية التي بـدأ إنتـاج النفط فيهـا يتراجـع منذ العام 1994، وكذلك اليمن التي شهدت تراجعاً نفطياً منذ العام 2001. في هذه الحالات حدث تغير كبير في دور الدولة في توفير الأمن الاقتصادي والهوية الريعية للاقتصاد، لتصبح دولة تحتاج إلى استيراد حاجاتها من النفط والغذاء، وهذا ما أثر على الأسعار والأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
هل من طريق نحو مستقبل مستدام
في الربيع العربي؟
لا يزال مستقبل الدول العربية التي تخوض مرحلة التحولات الديموقراطية، إما بالثورة وإما بالتغيير الاحتجاجي، مفتوحاً على عدة احتمالات. فهناك الأمل في حدوث تطور في معايير الإدارة والقيادة والمعرفة، بحيث تنتقل هذه الدول نحو مرحلة الدولة المدنية الحريصة على حقوق الإنسان، ومنها الحقوق البيئية، أو تدخل في مستنقع من الفوضى والعشوائية تكون فيه نوعية البيئة أحد أكبر الضحايا.
الجوانب السلبية للربيع العربي في مجال البيئة ظهرت في بعض الحالات في تونس ومصر واليمن والأردن، بينما يمكن القول بأن المفاصل الأساسية للدولة في أماكن أخرى تعطلت، ومنها القدرة على الإدارة البيئية ومكافحة تحديات التلوث والتصحر ونقص المياه وغيرها، في ظل الأجواء العنيفة من الصراع منذ العام الماضي.
في تونس، واجهت المحميات الطبيعية الكثير من المشاكل في ظل تراخي الإدارة والمراقبة وتعرض الكثير من محتوياتها والبنية التحتية فيها إلى السلب، ناهيك عن الصيد والجمع غير المنضبط للأنواع الحية ومنها ما هو مهدد بالانقراض. لكن العمل البيئي المؤسسي شهد قوة في تونس، من خلال قيام مجموعات شعبية ومدنية بالضغط لتضمين الحق في بيئة سليمة في الدستور التونسي الجديد. كما ضمت الحكومة التونسية وزيرة بيئة من الناشطات في الثورة التونسية ولا يتجاوز عمرها 28 عاماً، وهذا في ذاته وإن كان يمثل نموذجاً فريداً للاقتناع بدور الشباب فإنه أيضاً يمثل تحدياً لا يستهان به.
ووثقت تقارير إعلامية مصرية العديد من الانتهاكات لنهر النيل في مرحلة ما بعد الثورة المصرية، ومنها السيطرة بالقوة على مئات الفدانات من الأراضي المحاذية للنهر، وتزايد وتيرة صرف المجاري والمخلفات في غياب الرقابة الأمنية الفاعلة.
وفي الأردن، تزايدت نسبة الاحتجاجات التي قادتها جماعات وعشائر محلية ضد إقامة المحميات الطبيعية في بعض المناطق، ومنها اليرموك في الشمال وجبل مسعودة في الجنوب، وذلك استناداً إلى ما تعتبره هذه المجموعات حقاً لها منذ ما قبل نشوء الدولة. وهي تمكنت من ممارسة ضغط كبير على الحكومة لتعطيل إقامة بعض المحميات المقرة في شبكة المحميات الطبيعية، أو المطالبة بإلغاء بعض المحميات القائمة. وفي الجانب الإيجابي، ساهم النشاط الشعبي المترافق مع الربيع العربي في منع إقامة كلية تدريب عسكرية كبيرة في قلب غابة برقش التي تشكل أحد أهم أنظمة الغابات النادرة في الأردن. كما تستمر الحملة الشعبية المناهضة لإقامة المفاعل النووي بكسب الزخم والتأييد الشعبي، بحيث أصبحت تملك قدرة كامنة على اتخاذ قرار وشيك بوقف المشروع في مرحلة مقبلة.
أما في اليمن، فقد أدت المواجهات المسلحة إلى تدهور وضع البيئة إلى الحد الادنى من الاهتمام السياسي والشعبي. فتزايدت الاعتداءات على البيئة وحالات التلوث وتراكم المخلفات، وحتى تهديد جزيرة سقطرى الفريدة التي طلبت الإدارة الأميركية إقامة قاعدة عسكرية أميركية فيها، وربما تكون الخطة قد ألغيت نتيجة تطورات الثورة.
ولكن في المقابل ثمة أسباب وجيهة للأمل. فالربيع العربي يقدم فرصة كبيرة لتغيير جذري في الإدارة في العالم العربي، باعتماد معايير الجدارة المهنية وليس نظام الوساطات التي تسيطر على الإدارة الحالية والسابقة والتي ساهمت في جعل الناس ينقلبون على السلطة الفاسدة. ان التحول المنشود للدول العربية من مرحلة الحكم الواحد إلى التعددية السياسية من شأنه أن يضع القرار في يد الشعوب التي تحدد مطالبها وأولوياتها. وفي السياق البيئي، لا يتطلب ذلك فقط تغييراً في نمط الوعي لدى صناع القرار، بل ايضاً ارتقاء البيئة والإدارة المستدامة للموارد إلى المواقع ذات الأولوية في أجندة العمل الديموقراطي والحزبي.
تبقى القضية الأولى على أجندة الإصلاح البيئي في العالم العربي ظهور القيادات البيئية الحقيقية في الإدارة الرسمية. فلا يزال معظم وزراء البيئة العرب، باستثناء قلة نادرة، من الأقل تأثيراً ونفوذاً في الحكومات. وعادة ما يتم انتقاؤهم من أقليات دينية أو عرقية أو سياسية، كنوع من إظهار إشراك جميع فئات المجتمع في الإدارة العامة للدولة. وفي دول تشهد عدة تغييرات للحكومات، مثل الأردن، تصبح عملية تغيير وزراء البيئة مشكلة حقيقية بسبب عدم منح أي وزير الوقت الكافي لترك بصمة واضحة في العمل. إن وزارات البيئة في العالم العربي تحتاج إلى وزراء أصحاب تخصص علمي، وإلى شغف حقيقي في تحسين نوعية البيئة وتحقيق قصة نجاح تبقى مرتبطة بسمعتهم المحلية والعالمية، بدلاً من قضاء الأشهر في المناسبات الاجتماعية وافتتاح الندوات والمؤتمرات والسفر في المشاركات الخارجية واستقبال مندوبي ورؤساء المنظمات الدولية في انتظار راتب تقاعدي مريح.
صحوة السياسيين
من المثير للاهتمام مدى زيادة الإدراك للقضايا البيئية لدى صناع القرار العرب. فعلى سبيل المثال، أكد الرئيس اللبناني ميشال سليمان على أهمية عدم تأثير الثورات العربية التي تحصل في العالم العربي على البيئة، وطالب رجال الأعمال بزيادة وتفعيل وتوطين الاستثمارات العربية في المجالات البيئية. فهي ستشكل محوراً أساسياً خلال السنين العشر المقبلة، ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة والعالم، في ظل التغيرات المناخية والتصحر وغيرها من المشكلات البيئية. وجاء ذلك في سياق افتتاحه لأعمال مؤتمر بيئي في أيار (مايو) 2011.
وفي موقف استثنائي، أعلن الملك الأردني عبدالـله الثاني «تضامنه» مع معتصمين من سكان مدينة الفحيص التي زارها قبل أشهر، وفيها مصنع إسمنت كبير يساهم في تلويث البيئة منذ عدة سنوات، علماً أن أغبرة المصنع تصل إلى قصر الملك القريب من المنطقة. وقال الملك للمشاركين إنه يعتصم معهم من أجل حقوقهم في بيئة آمنة.
وفي سياق متصل، أكد ممثلو الحكومات العربية المشاركة في الاجتماع التشاوري العربي التحضيري لمؤتمر قمة الأرض في ريو 2012، الذي عقد في القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 على أهمية تضمين البعدين البيئي والاجتماعي في السياسات الاقتصادية العربية. وأشارت الدكتورة ريما خلف، الأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، إلى أن الأزمات المالية العالمية تقوّض ما تبذله البلدان من جهود لتحقيق التنمية المستدامة ومكافحة الفقر وتحسين مستويات معيشة المواطنين. وأضافت: «المؤسف أن أسلوب التصدي لهذه الأزمات يعكس الخلل القائم في موازين القوى في العلاقات الدولية. فالأطر المؤسسية التي يتم اللجوء إليها في الأزمات تفتقر إلى الديموقراطية والشفافية». وقالت إن الحلول تُبحث في غرف مغلقة تقتصر على بعض القوى، ثم يُصار إلى إملائها على بقية المجتمع الدولي، مختتمة بأن هذا النهج لم يعد مقبولاً ولا يمكن الاستمرار في اتباعه بعد أن أثبت إخفاقه في معالجة العديد من التحديات العالمية.
نهضة المجتمع المدني
إذا كانت هذه الصحوة تحدث على مستوى القادة السياسيين، فإن من أهم مظاهر الربيع العربي نمو المجتمع المدني، خصوصـاً في دول شمال إفريقيا مثل مصر وتونس والمغرب والجزائر، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور في ليبيا. كما أن المجتمع المدني الراسخ في بلدان مثل لبنان والأردن سيحصل على فرص أكبر للمشاركة في صناعة القرار السياسي، من خلال التمثيل البرلماني النزيه والخارج عن التلاعب والتزوير في حال صدقت نيات الإصلاح. أما في دول الخليج العربي، فقد ظهرت عدة جميعات بيئية وتنموية في الإمارات والبحرين وقطر والكويت والسعودية، كما انتشرت مراكز الأبحاث والمؤسسات التعليمية ذات التأثير الكبير والموارد المالية الضخمة والتي أصبحت تستقطب العديد من الكفاءات العربية في مجالات الاستدامة، مما يبشر بوجود توجه لا رجعة عنه إلى تقوية المؤسسات الرديفة للحكومات.
ويمكن إظهار مدى التقدم في وعي المجتمع المدني العربي تجاه قضايا الاستدامة من خلال المساهمة الجماعية بوثيقة مرفوعة إلى سكرتارية اللجنة التحضيرية لمؤتمر قمة الأرض ريو +20، تم تقديمها من خلال الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية وركزت على عدة قضايا في التنمية المستدامة. وبالنسبة إلى شعار الاقتصاد الأخضر، أشار المجتمع المدني العربي إلى أن أي توافق على مفهوم الاقتصاد الأخضر يجب أن يعتمد على مبادئ التنمية المستدامة وقيمها التي تم إقرارها في ريو عام 1992، وألا يتحول المفهوم إلى استخدامه كأداة للحمائية الدولية أمام تدفقات السلع والخدمات من الدول النامية. ولكن من المؤكد أن مفهوم الاقتصاد الأخضر بات ينتشر بشدة في المنطقة، ويمكنه أن يمثل أداة مناسبة لتحقيق نقلة نوعية في الأدوات والسياسات الاقتصادية نحو آفاق أكثر استدامة، في حال تم تبنيها ودعمها عن طريق التحولات الديموقراطية التي تبعث الأمل في المنطقة.
ويمكن لجميع الدول العربية الجادة في التحول نحو مستقبل اقتصادي مستدام أن تستخدم توصيات وتفاصيل التقرير السنوي الرابع للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، الصادر في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 تحت عنوان «الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متغير» ليكون وثيقة تخطيط استراتيجي لهذه الدول. وتتمثل أهم الطموحات المحسوبة التي يطرحها التقرير في النقاط الآتية:
1. يمكن أن يؤدي التحول إلى الممارسات الزراعية المستدامة إلى توفير 5 ـ 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة زيادات انتاجية المياه ورفع مستوى الصحة العامة وحماية الموارد البيئية، وسيبلغ إجمالي هذا التوفير 100 بليون دولار سنوياً. كما أن إعادة إحياء القطاع الزراعي عن طريق الاستثمارات المناسبة والأبحاث والتطوير ستؤدي إلى تخفيض الواردات على مدى السنوات الخمس المقبلة بنسبة 30 في المئة، وهذا يعني بدوره توفير 45 بليون دولار سنوياً.
2. الدول العربية بحاجة إلى توظيف ما لا يقل عن 1.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً في مجالات الصرف الصحي والبنى التحتية للمياه وابتكارات كفاءة استخدام المياه وتقنيات إعادة التدوير، من أجل تلبية الطلب المتنامي على المياه وهذا ما يصل إلى 28 بليون دولار سنوياً.
3. يمكن تخفيض متطلبات الطاقة للكثير من العمليات الصناعية، حيث التحسينات في كفاءة الطاقة في صناعة الإسمنت مثلاً تخفض الاستهلاك ما بين 20 و40 في المئة لكل طن إسمنت، كما يمكن توفير 150 ألف بليون كيلوواط ساعة سنوياً من العمليات الصناعية عن طريق تحسين كفاءة الطاقة 30 في المئة، بقيمة 12.3 بليون دولار.
4. يمكن توفير ما يعادل 280 بليون كيلوواط سنوياً في قطاع النقل في حال استخدام السيارات الهجينة ورفع سوية النقل العام، أي ما قيمته 23 بليون دولار. كما يمكن تحقيق تحسين في كفاءة الطاقة بنسبة 40 في المئة في النقل بقطارات السكك الحديد.
5. يمكن أن يساهم تحويل الأبنية التقليدية إلى أبنية خضراء في معالجة مشاكل البطالة في المناطق الحضرية وخلق كوادر جديدة من العاملين. كما يمكن لإنفاق 100 بليون دولار في تخضير 20 في المئة من الأبنية الموجودة حالياً في البلدان العربية إنتاج 4 ملايين وظيفة جديدة.
إن احداث مثل هذا التحول الجذري في السياسات الاقتصادية يحتاج إلى تغير سريع وجذري في عقلية اتخاذ القرار في المنطقة. وهذا بدوره يتطلب المزيد من الوعي والضغط من قوى المجتمع المدني والرأي العام، للدفع نحو دمج البعدين الاجتماعي والبيئي بشكل مباشر في محاور تحديد السياسات الاقتصادية والتنموية.