تمثل آليات العولمة قوى تغييرية في محكّاتها المتعددة مع الواقع، خاصة منها الشركات المتعدية الجنسية. ومنظمة التجارة العالمية. فهي تمثل محوراً فاعلاً في التأثير على المجال البيئي المحلي والعالمي، في إطار علاقة عكسية بين نمو المصالح الاقتصادية بشكل مطرد وإهمال الآثار البيئية في المحيط الحيوي، لأنها تتخذ من مردودات الدخل الناتج عن التجارة الحرة مبرراً وسبباً منطقياً مباشراً نحو التدهور البيئي.
التوصيف الاحصائي للنظام البيئي المصري، الذي هو طبقاً للدراسات البيئية الكلاسيكية والمعاصرة عبارة عن دورة متصلة من العناصر التي تعرف بالمدخلات والمخرجات، يشير إلى أن حجم السوق البيئية في مصر عام 1992 نحو 430 مليون دولار، أي أقل من 2 في المئة من إجمالي صافي الإنتاج المحلي المصري. كما بلغ حجم هذه السوق 1150 مليون دولار عام 1997، ما يمثل نمواً سنوياً بمعدل 20 في المئة. ويصل نصيب الشركات الأميركية من هذه الأعمال الى 40 في المئة. وطبقاً لتقرير وزارة الاقتصاد المصرية، فان الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات تلعب دوراً مهماً في إدماج مصر بالاقتصاد العالمي، إذ تعمل فيها الآن أكثر من 400 شركة متعددة الجنسية. ومع بداية التسارع في عملية الخصخصة في مصر، ينتظر أن تزيد مساهمة هذه الشركات في الاقتصاد.
واذا كانت الرؤية التحليلية لخبراء البيئة تتجه، في اطار الاسهام المباشر لمنظمة التجارة العالمية في تلوث البيئة، نحو أنه اذا أدى تحرير الاستثمارات والتجارة الى توسيع الفجوة بين الدخول في الدولة الفقيرة، فقد يؤدي هذا الى تدهور البيئة من ناحيتين: بما قد يؤدي إليه من اضطرار الفقراء الى الإضرار بالبيئة من خلال جهودهم المستميتة لكسب الرزق أو حتى لمجرد البقاء على قيد الحياة، وما قد يؤدي إليه من تبني أصحاب الدخول المرتفعة لأنماط من الاستهلاك أقل حساسية لأثر هذا الاستهلاك في البيئة.
من ثم يكون السؤال: الى أي مدى يمكن أن يتسق النظام البيئي في مصر، باعتبارها دولة نامية، مع المعايير البيئية لمنظمة التجارة العالمية؟
في الإجابة، نميل نحو الاتجاه النقدي لأساسيات المنطق الذي تعتمده سياسات منظمة التجارة العالمية، انطلاقاً من أن تحديد الموقف النظري وطبيعة هذه السياسات في مسارها الإيجابي والسلبي سوف يكشف بالضرورة عن موقفها تجاه السياسات البيئية المحلية للدول الصناعية والدول النامية علي السواء. وكذلك، سوف يكشف عن العلاقة السلبية سياسات المنظمة والمصالح الوطنية للدول النامية، ومن ثم عن علاقة النظام البيئي في مصر بالمعايير البيئية لمنظمة التجارة.
وتستهدف سياسات المنظمة إزالة العوائق أمام حرية التجارة، وتخفيض التعريفة الجمركية، وتنسيق المعايير البيئية، واعتماد معايير موحدة منها خلال الإجراءات المتعلقة بحماية البيئة لتحسين القدرة التنافسية للصناعات وتحقيق جودة المنتج التي تحددها مؤشرات أهمها مدى استخدامه لمواد غير ضارة بالبيئة، فضلاً عن مدى مواءمة طريقة وأسلوب تلك الصناعات للشروط البيئية الدقيقة.
وعلى ذلك تنحصر الرؤية النقدية لمنطق سياسات منظمة التجارة العالمية فى النقاط الآتية :
أولاً، ان مبدأ تحرير التجارة يمثل إشكالية كبيرة للتنمية المستدامة. ففي وجود هذا المبدأ، كيف يمكن لأنماط الانتاج التي تستهدف دخول الأسواق أن تحترم القاعدة البيئية؟ وكيف لزيادة معدلات الاستهلاك على تنوعها ألا تتجاوز الحدود الممكنة بيئياً؟
ثانيا، تقوم سياسات منظمة التجارة على مبدأ تقرير معايير نوعية البيئة، بما يعني عدم الحيادية وعدم التسوية بين طبيعة البيئات المختلفة واعتبار وجود نوع من التمايز بينها. من ثم تعتبر نوعية البيئة هي المؤشر الفاصل في تقرير الحد الأقصى الذي يسمح بارتفاع معدلات التلوث للدول الصناعية والحد الأدنى للدول النامية. ويتوافق ذلك مع اشتراطات ومعايير خفض التلوث، المقصورة فقط على الدول النامية التي لا تستهلك نسبتها المسموح بها عالمياً، فضلا عن نوعية التلوث ذاته.
ثالثاً، ان مبدأ تشابه المعايير البيئية في الدول الصناعية يمثل إشكالية في مدى وجوب ازدواجية الموقف، بالنسبة لضرورة خضوع الدول النامية للاشتراطات البيئية المثلى التي تحددها المنظمة ومتطلبات المعايير البيئية المحلية.
رابعاً، ارتباط مبدأ تحرير التجارة بمواصفات الجودة العالمية للسلع (الأيزو) يتطلب نوعاً خاصاً من الاهتمام بالشروط البيئية كضرورة لاستمرارية الصناعات وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. لكن هل تتوافر للدول النامية أدوات ومقومات تحقيق معايير الجودة كما تتوافر للدول الصناعية؟ من هنا فان "الايزو" كمعيار مستحدث للنظام البيئي العالمي يعمل لصالح اقتصاديات الدول الصناعية، من خلال دفع الدول النامية وتحفيزها نحو رفع معدلات تصدير موادها الخام واستيراد الآلات والسلع من الدول الصناعية، فتنخفض أسعار صادراتها وترتفع كلفة ما تستورده.
خامساً، ما هي الاستراتيجية التي يمكن أن يقوم عليها دور الدول النامية في وضع سياسات منظمة التجارة وفق القواعد والأسس البيئية، لكي تساعد حركة الإنتاج والتصدير على التكيف مع المعايير التي تعتبر البيئة محورها الأساسي؟
هكذا، النظام البيئي في مصر يتدهور في خصائصه الحيوية لأنه يتأثر سلباً بالفروض الخاصة لبعض آليات العولمة. فمنطقياً، لا يتسق مع الأطر العامة للمعايير البيئية لمنظمة التجارة العالمية، لأنها تتحدد طبقاً للعلاقات الاقتصادية المصلحية بين الدول وليس طبقاً لإحداث التوازن العالمي.