تشهد المملكة العربية السعودية نمواً سريعاً في مجالات كثيرة، منها البناء، مما يعني المزيد من الطلب على المواد الخام المستخدمة، بما في ذلك الصخور. وتسبب أنشطة المحاجر ومقالع الصخور التي انتشرت بشكل كبير وعشوائي أضراراً كبيرة على البيئة والإنسان، يلمسها بشكل واضح ومباشر أولئك القاطنون قريباً منها. وقد تم تسجيل الكثير من المشاكل البيئية والصحية والاقتصادية في مناطق عدة من المملكة، ورفع بسببها العديد من الشكاوى والقضايا إلى المحاكم والجهات المسؤولة.
تقع منطقة نساح ـ وهي محور هذا المقال ـ في المنطقة الوسطى من السعودية، على بعد نحو 100 كيلومتر جنوب غرب العاصمة الرياض، وتتبع إدارياً محافظة المزاحمية التي تضم الكثير من المراكز والقرى. وتشهد المنطقة نشاطاً زراعياً جيداً، نظراً لتوفر المياه الجوفية الصالحة للري وملاءمة تربتها لزراعة كثير من المحاصيل كالنخيل والأعلاف والحبوب والخضر وبعض أنواع الفاكهة. كما تضم أعداداً كبيرة من الماشية والحيوانات الزراعية.
وتتميز المنطقة بطبيعة رائعة، حيث تلتقي الجبال بالكثبان الرملية الحمراء الجميلة، وتنتشر فيها الأودية التي تكون جافة معظم السنة وتمتلئ بالمياه عند هطول الأمطار. وتنمو فيها أنواع متعددة من النباتات الصحراوية الحولية والمستديمة مثل القرضي والعرفج والجثجاث والعشر والعوشز والنصي، كما تكثر فيها أشجار السدر البري وأنواع الطلح (الأكاسيا) التي من أهمها الطلح النجدي والسمر والسلم. وهي أنواع بالغة الأهمية في مثل هذه الأنظمة البيئية الحساسة والضعيفة، حيث توفر الغذاء والمأوى لكثير من الكائنات الحية، كما تضفي على المكان رونقاً صحراوياً جميلاً.
غير أن هذا النظام البيئي الهش يتعرض للانتهاك والتدمير المتواصلين، إذ تنتشر المحاجر والكسارات والمقالع في المنطقة، نظراً لتوفر نوعيات جيدة من الصخور في بطون الأودية وسفوح الجبال، وكذلك لقربها من العاصمة ذات الكثافة السكانية العالية والنشاط المعماري المتزايد. وهذا جعلها مصدراً مهماً لحجر البناء، ما شجع المستثمرين على العمل في هذه المنطقة والتوسع في استخراج الصخور بشكل محموم وفوضوي في كثير من الأحيان.
أنظمة لا تطبق
تخضع أنشطة التعدين والمناجم والمحاجر في السعودية لأنظمة وزارة البترول والثروة المعدنية، التي تشرف على العمل في هذا القطاع المهم اقتصادياً وتمنح رخص استخراج الصخور وبيعها في مقابل مبالغ مالية محددة وفق شروط وأنظمة معينة. كما تقع مناطق المحاجر والكسارات ضمن نطاق أراضي المراعي التي تشرف عليها وزارة الزراعة، وهذه بدورها تضع عدداً من الشروط والقوانين التي يجب التقيد بها للمحافظة على الغطاء النباتي ومجاري الأودية والسيول.
وقد برزت مؤخراً مشاكل بيئية وصحية كثيرة نتيجة النشاط المتزايد في أعمال الحفر واقتلاع الصخور وتكسيرها ونقلها. وعلى رغم صرامة القوانين التي تنظم هذا النشاط، إلا أن ما يجري على الأرض لا يتطابق غالباً وتلك القوانين المنظمة، لعدة أسباب منها ضعف الرقابة الحكومية ونقص الوعي البيئي بشكل عام. وهذا ما يلاحظه الزائر لمنطقة نساح وأوديتها الكثيرة والمتشعبة وذات الكثافة الشجرية المرتفعة نسبياً. فقد شهدت بعض الأودية دماراً بيئياً كبيراً وتجريفاً للتربة وما عليها من نباتات، وتغييراً خطيراً لمجاري السيول الطبيعية، وتراكماً للمخلفات البترولية والحاويات والإطارات البلاستيكية. ومن هذه الأودية على سبيل المثال لا الحصر وادي سدير، الذي سمي بهذا الاسم لكثرة أشجار السدر البري فيه. كذلك يتأهب وادي الجفير، وهو أحد الروافد المهمة لوادي نساح الكبير، لاستقبال الجرافات وآلات الحفر والمعدات الثقيلة التي ستعبث بتركيبته الطبيعية وستقتلع أشجار السدر والطلح الكبيرة ذات الأهمية البيئية والجمالية التي لا تقدر بثمن.
ولا يقتصر تأثير أنشطة المحاجر على محيط العمل في وديان منطقة نساح، بل يمتد إلى المناطق السكنية القريبة. وقد اشتكى سكان تلك التجمعات من ضجيج الآلات والمعدات والتلوث والحوادث المرورية القاتلة وكميات الغبار والأتربة التي تجلبها الرياح وما لها من آثار صحية وبيئية سيئة. كما تناقصت المساحات الصالحة للرعي وتضرر النشاط الزراعي في تلك المناطق، حيث تنخفض إنتاجية الأراضي وحيوانات المزارع بسبب عواصف الغبار التي تهب باستمرار وبتركيز يفوق المعدل المأمون عالمياً، محدثة بيئة غير مناسبة للنمو والإنتاج.
وهناك مصدر آخر للخطر لا يقل أهمية، هو ما يطلق عليه البعض هنا اسم «مصائد الموت»، حيث تتشكل في بعض المواقع حفر عميقة ناتجة عن أعمال الحفر والتجريف في بطون الأودية. وفي مواسم الأمطار، حين تمتلئ الشعاب والأودية بالمياه، تصبح هذه الحفر غير مرئية، مما يتسبب في سقوط الأشخاص والسيارات داخل تلك الأفخاخ المميتة. وقد سجلت حوادث مؤسفة للمتنزهين والرعاة.
كل تلك الأضرار والمشاكل الناجمة عن النشاط المسعور لعمليات استخراج الصخور ونقلها دفعت سكان المنطقة إلى التحرك من أجل تفعيل القرارات المنظمة لهذه الأنشطة، والتقليل من آثارها السلبية على البيئة والإنسان ومصادر رزقه، ومطالبة الجهات الحكومية المعنية بوقف التعديات والانتهاكات التي تجري في تلك المواقع.
الحلول متوافرة
هناك الكثير مما يمكن عمله لتقليل الآثار الضارة لأنشطة المحاجر ومقالع الصخور. فالالتزام الصارم والدقيق بالأنظمة والقوانين التي تحكم عمليات استخراج الصخور ونقلها، خصوصاً في ما يتعلق بالحفاظ على الغطاء النباتي وعدم إعاقة مجاري المياه الطبيعية، هو من أهم الخطوات في هذا المجال. كما أن تفعيل النظام الرقابي المستمر على تلك الأنشطة للتأكد من التزامها بالقوانين والتشريعات هو أحد الضمانات لحمل مقاولي المحاجر على التقيد بالأنظمة والقوانين. وينبغي كذلك التشدد بمنع ممارسة أنشطة المحاجر قرب القرى والتجمعات السكانية والمناطق المخصصة للزراعة والرعي. كما أن التأكيد على التعامل الآمن مع النفايات بأنواعها، وعدم تلويث مواقع العمل وزراعة الأشجارحولها، وإعادة المكان قدر الإمكان الى الوضع الطبيعي عند مغادرة مواقع المحاجر، هي أمور ضرورية لتقليل الآثار السلبية الناتجة. ولا شك في أن استخدام التقنيات الحديثة الأقل تلويثاً للبيئة في استخراج الصخور وتقطيعها ستكون له آثار مهمة في الحد من التلوث بأنواعه.
وتشكل العناية بالمجتمعات الريفية القريبة من مناطق المحاجر، والمبادرة برصد أي مشاكل بيئية أو صحية قبل استفحالها، خطاً دفاعياً متقدماً وإنذاراً مبكراً للوضع البيئي ومدى تأثره بهذه الأنشطة. ولا بد كذلك من التأكيد على الالتزام التام بسلامة الطرق أثناء نقل الصخور في الشاحنات، وعدم الإضرار بالأنظمة البيئية الطبيعية المجاورة لتلك الطرق.
إن ازدياد الطلب على الصخور في الآونة الأخيرة هو نتيجة طبيعية لزيادة عدد السكان والنهوض العمراني وارتفاع مستوى المعيشة والرفاهية. إلا أن تحقيق التنمية المستدامة يتطلب أخذ الجوانب البيئية في الاعتبار لكي لا نبني بيد ونهدم بالأخرى.
الدكتور عبدالرحمن عبدالـله الصقير أكاديمي وباحث سعودي.
كادر
تأثيرات المقالع والكسارات على البيئة والإنسان
● ينتج تلوث ضوضائي عن عمليات التفجير التي تجرى لتفتيت الصخور إلى قطع صغيرة يسهل التعامل معها. كما أن حركة الشاحنات والمعدات تخلق ضجيجاً مزعجاً للمناطق القريبة.
● تؤدي الحركة المستمرة للمعدات والناقلات إلى تخريب التربة وما عليها من غطاء نباتي. كما أن تسرب المواد البترولية وزيوت التشحيم منها يتسبب في تلويث التربة وتسميمها والقضاء على الغطاء النباتي والكائنات الحية. وقد تتأثر المياه السطحية والجوفية بالملوثات، ما يسفر عن إخلال خطير بالنظم البيئية.
● تسبب عمليات التفجير تدميراً كبيراً للغطاء النباتي، وتلحق الضرر بالمواطن الطبيعية للكائنات الحية، مما ينتج عنه تدهور خطير في التنوع الأحيائي.
● أكوام التراب والصخور المتراكمة في المحاجر، والحفر العميقة الناتجة عن التنقيب، تؤثر بشكل سلبي على المجاري الطبيعية للسيول، مما يتسبب في تدهور المجتمعات النباتية الطبيعية في المنطقة ويحرمها من وصول مياه الأمطار بالشكل المعتاد.
● يتأثر النشاط الزراعي بشقيه النباتي والحيواني في المناطق القريبة من المحاجر نتيجة الغبار والأتربة المعلقة في الهواء وآثارها السلبية على صحة النبات والحيوان وإنتاجيتهما.
● يؤدي تقلص الغطاء النباتي الطبيعي وتدهور النشاط الزراعي في المناطق التي تكثر فيها المحاجر العشوائية الى اتساع دائرة التصحر تدريجياً، مع ما يصاحبها من خسائر بيئية واقتصادية كبيرة.
● تلوث الهواء الناجم عن احتراق وقود الشاحنات والمعدات، وكذلك حبيبات الغبار التي تتطاير بفعل أنشطة المحاجر وتبقى معلقة في الهواء، والأتربة الناتجة عن تفكك التربة، لها آثار صحية جسيمة على سكان المناطق القريبة من المحاجر، بما في ذلك الحساسية والأمراض التنفسية. وقد يمتد التأثير إلى مناطق أبعد بفعل عواصف الغبار والأتربة.
كادر
مصائد الموت
تتشكل في بعض المواقع حفر عميقة ناتجة عن أعمال الحفر والتجريف في بطون الأودية. وفي مواسم الأمطار، حين تمتلئ الشعاب والأودية بالمياه، تصبح هذه الحفر غير مرئية، مما يتسبب في سقوط الأشخاص والسيارات داخل تلك الأفخاخ المميتة. وقد سجلت حوادث مؤسفة للمتنزهين والرعاة.