إدعى عدد من العلماء مؤخراً أن الانقراض هو جزء من تطور الأنواع، ولذلك فإن جهود الحفاظ على الكائنات المهددة يجب ألا تكون ذات أولوية. فهل تنم هذه الرؤية عن معرفة عميقة للعالم الطبيعي الذي يحيط بنا أم أنها رؤية قاصرة تعكس جهلاً في فهم التطور؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية، أُعلن في الولايات المتحدة رسمياً عن انقراض أسد الجبال (البوما) الشرقي، وأصبح هذا النوع من القطط البرية الكبيرة خارج القائمة الفيدرالية الأميركية للحيوانات البرية والأنواع المهددة بالانقراض. وفي كينيا، شهد العالم موت آخر ذكر من حيوان وحيد القرن الأبيض الشمالي، تاركاً أنثيين فقط من سلالته على قيد الحياة.
أعداد الطيور في الريف الفرنسي انخفضت بمقدار الثلث منذ مطلع القرن، والحيتان الصائبة في شمال المحيط الأطلسي تقترب من الانقراض، وفي سنة 2014 وثّقت دراسة لباحثين من جامعة ستانفورد انخفاضاً حاداً في أعداد الحشرات واللافقاريات وصل مقداره إلى 45 في المئة على مدى العقود الأربعة الماضية. الأنشطة البشرية تتسبب بحصول ما بات يُعرف بـ "موجة الانقراض العالمي السادس للأنواع الحيّة". والمزعج أن هناك أصواتاً لبعض العلماء أخذت تدعو لتقبل الأمر والتعامل معه بمرونة!
موجة الانقراض العالمي السادس تطال البوما الشرقي
أحد هؤلاء العلماء كان الدكتور ألكسندر بيرون، الأستاذ المساعد في جامعة واشنطن، الذي نشر مقالاً في الواشنطن بوست جلب عليه الكثير من الانتقاد. الدكتور بيرون يرى أن «السبب الوحيد الذي لأجله يجب الحفاظ على التنوع الحيوي هو نحن، وذلك لأجل خلق مستقبل أفضل للبشر. صحيح أننا غيّرنا البيئة وآذينا الأنواع الحية، لكننا جزء من المحيط الحيوي. أعمالنا اختيارية، وعواقبها طبيعية تماماً».
المقال، الذي بدا كبيان صيغ من قبل المؤسسات اليمينية المحافظة التي تدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يأتي في وقت تتعرض فيه جهود الحفاظ على الأنواع الحية لهجمة من عدة أطراف، لاسيما في الولايات المتحدة، التي ألغت قانون الحماية الفيدرالية للأراضي ووضعت قانون الأنواع المهددة بالانقراض تحت المراجعة.
في السنوات الأخيرة، أخذ بعض الكتاب وعلماء البيولوجيا ينأون بأنفسهم عن فكرة حماية الأنواع، التي تعتبر أنه في عالم تزداد فيه هيمنة الإنسان يجب إيجاد السبل اللازمة لحماية وإدامة الموائل الطبيعية والكائنات الحية. من وجهة نظرهم، فالطبيعة التي تخضع للهندسة البشرية ويلحقها الدمار والتشظي هي التي تدفع باتجاه التكيّف والتطور.
بيتر كاريفا، الذي أصبح كبير العلماء في "منظمة الحفاظ على الطبيعة" The Nature Conservancy، دعا «حماة البيئة للتخلي عن الأفكار المثالية حول الطبيعة والمتنزهات والبراري لصالح رؤية أكثر تفاؤلاً ورفقاً بالإنسان. إن إبادة الحمام المهاجر لم تترك آثاراً كارثية أو حتى قابلة للقياس». الانقراض التام لأحد أنواع الطيور، الذي كانت أعداده من رتبة البلايين، يعد أمراً غير ملحوظ وهو يعبر عن "مرونة الطبيعة"، وفقاً لبيتر كاريفا.
كتاب عالم الأحياء البريطاني كريس توماس، الذي صدر مؤخراً تحت عنوان "ورثة الأرض: كيف تزهو الطبيعة في عصر الانقراض"، يخلص إلى أن تدمير الطبيعة يتيح الفرصة لتطور أشكال حياة جديدة تعوّض أية خسائر نتسبب بها. فكرة مفرطة في المثالية، ولعل الأجدى لتوماس ورفاقه أن يوجزوا أفكارهم بالقول: "إن الطبيعة غير جديرة بالاهتمام". في المبدأ: الانقراض لا يدفع باتجاه التطور، ما يفعل ذلك هو البقاء على قيد الحياة تحت ضغط المنافسة.
الانقراض لا يقود إلى تطور الأنواع
لنقارن ببساطة تنوع الأحياء في نصف الكرة الأرضية الشمالي، حيث تسببت العصور الجليدية المتكررة في مسح الأنواع الحية شمالاً، في حين استمرت الساعة التطوّرية في العمل طيلة الوقت في المناطق المدارية. إن بضعة فدادين في أميركا الشمالية قد تحتوي على 12 نوعاً من الأشجار، أما في منطقة الأمازون فإن مساحة مماثلة ستضم 300 نوع من الأشجار. أميركا الشمالية لديها 1400 نوع من الأشجار أما البرازيل فلديها 8800 نوع. أميركا الشمالية لديها 900 نوع من الطيور أما كولومبيا فلديها 1900 نوع. أميركا الشمالية لديها 722 نوعاً من الفراشات، وعلى ضفاف نهر تامبوباتا في البيرو نجد 1200 نوع.
إن المنافسة بين الأنواع الحية تدفع إلى انتشار التخصصات المتنوعة بشكل مشابه لما يحصل في عالم البشر. فالمنطقة التي تحتوي على أنواع كثيرة من الأشجار تتسبب في تطور أنواع كثيرة من الكائنات العالية التخصص التي تنقل حبات الطلع، وهكذا يتم تلقيح العديد من النباتات المزهرة بفضل نوع واحد مختص من الحشرات أو طيور الطنان أو الخفافيش.
لا بد أيضاً من التفريق بين أنواع الانقراض لندرك بشكل أوضح آلية التطور. إن الانقراض الجماعي هو حدث عالمي يطال الأحياء في جميع أنحاء الأرض. لفد كانت هناك خمسة حوادث انقراض جماعي عبر التاريخ، وها نحن نشهد حدث الانقراض الجماعي السادس الذي يتسبب به النشاط البشري.
أما حالات الانقراض الإقليمي، كتلك التي حدثت خلال العصور الجليدية، فلا يمكن اعتبارها أحداث انقراض جماعي، وإن كانت تطال العديد من الأنواع. وحتى في غياب الاضطرابات العالمية أو الإقليمية، كان هناك عدد محدود من الأحياء يختفي بسبب التغيرات البيئية وظهور المنافسين الجدد. كما يوجد الانقراض الزائف، حيث تختفي الأشكال الحية القديمة وتظهر مكانها أشكال جديدة تطورت مع مرور الوقت. الدينوصورات لم تنقرض جميعها حيث توجد أنواع منها (الثيروبودات) استطاعت النجاة، وهذه الأنواع تطورت لما نسميه اليوم طيوراً.
في عالم الطبيعة، البقاء لا يكون بالضرورة للأقوى كما يظن الكثيرون، بل البقاء هو للأصلح. إن حيوان الكسلان يجب أن يكون بطيئاً لأنه إذا كان سريعاً، يلفت الأنظار وسينتهي كوجبة عشاء في عش أحد النسور. والدببة البيضاء ليست أقوى من الدببة البنية، فالفراء الأبيض الذي يساعد على التمويه في المناطق الثلجية سيخيف الفرائس ويجعلها تفر في المروج الخضراء. الدببة القطبية البيضاء تطورت عن الدببة البنية التي تعيش في مناطق التندرا، ثم تخصصت أكثر، وانفصلت لتصبح نوعاً مختلفاً. هذا النوع "الجديد" هو ببساطة سليل متخصص لنوع قديم.
إن الانقراض الحقيقي لا يولّد شيئاً، فجميع أشكال الحياة اليوم هي نتيجة لعدم الانقراض. كل نوع وكل فرد حي هو جزء من سلالة لم تنقرض طيلة بليون سنة. ولذلك فإن الإنسان الذي يتفوق على غيره من الأحياء بالقدرة على التفكير هو المسؤول أخلاقياً عن حماية الأرض والحفاظ على كائناتها من أجل الأجيال القادمة.
عندما كتب ألكسندر بيرون أن "الحفاظ على الأنواع ضروري لأنفسنا" كان عليه أن يشرح كيفية تحديد الأنواع التي نعتمد عليها بشكل مباشر. لا توجد علاقة وثيقة بين البشر والطواويس والحيتان الحدباء والنمور والطيور المغردة، فهل هذا يعني أن الحيوانات لا قيمة لها إذا لم نأكلها أو ننتفع بفرائها؟ إن الحيوانات التي "نعتمد عليها" تجعل الحياة ممكنة، ومع ذلك توجد حيوانات أخرى لا نحتاجها لكنها تجعل الحياة جديرة بالاهتمام.
هناك حيوانات لا نعتمد عليها لكنها تجعل الحياة أفضل
إن التعايش مع فرضية "الانقراض الحتمي"، الذي يدعو إليه بيرون ورفاقه، يتناقض مع قصص النجاح التي تحققت في مجال حماية الأنواع. قبل بضعة عقود لم تكن هناك طيور عقاب أو شاهين أو نسر أصلع تجوب سماء مدينة نيويورك، بسبب استخدام مبيد DDT وأنواع سامة أخرى من المبيدات. لكن هذا كله تغير عندما قررت مجموعة من الناس المطالبة بحظر هذه المبيدات، وبدأت مجموعة أخرى بتربية الصقور في الأسر لإطلاقها لاحقاً. هذه الجهود نجحت، واستطاعت إعادة الطيور الجارحة من جديد إلى سماء المدينة.
الانقراض ليس ثمناً للتقدم، بل هو كلفة غير ضرورية ناتجة عن عدم اهتمامنا. يمكننا تلبية احتياجات الكائنات الهشة من حولنا، وهي بدورها تستطيع التعايش مع التنمية التي نحققها. كل ما يتطلبه الأمر هو التفكير، والعمل الجاد، وإصلاح الضرر بكل ما هو متاح.