منذ صدر كتاب راشيل كارسون «الربيع الصامت» قبل 50 عاماً، نال نصيباً كبيراً من الجدل، وألهم أجيالاً من المناضلين البيئيين، وأطلق الى العلن قضايا حاولت الصناعات جاهدة ابقاءها طي الكتمان.
ألفت كارسون كتابها، الذي نشر في أيلول (سبتمبر) 1962، متأثرة برسالة كتبها صديق إلى صحيفة «بوسطن هيرالد» في كانون الثاني (يناير) 1958، يصف فيها نفوق طيور كثيرة نتيجة رش المبيد «د.د.ت» بواسطة الطائرات.
نتيجة الاستعمال غير المضبوط للمبيدات، تخيلت المؤلفة فصلاً ربيعياً لم تعد تسمع فيه زقزقات الطيور لأنها انقرضت جميعاً. وفي مقدمة الكتاب بعنوان «خرافة المستقبل»، تصف بلدة في قلب أميركا حيث تعيش جميع المخلوقات بوئام مع الطبيعة. لكن تصرفات الناس «أسكتت ولادة حياة جديدة». وحصل كثير من الوفيات التي لا تفسير لها بين الأطفال والبالغين، واختفت الطيور، ولم يعد النحل يحوم على الأشجار لتلقيحها، ونفقت جميع الأسماك.
وعلى رغم أن كارسون أشارت الى أن هذه الكوارث لم تحدث دفعة واحدة في بلدة معينة، إلا أن ذلك كان تنبيهاً صارماً الى ما قد يصيب الناس اذا لم يتصرفوا بمسؤولية.
استند الكتاب إلى أبحاث أجريت على مدى أربع سنوات، واستُعملت فيه أمثلة ساعدت في توضيح العلاقة المتبادلة بين الكائنات الحية. وهو يبين بالتفصيل كيف دخلت المبيدات السلسلة الغذائية لتتجمع في الأنسجة الدهنية للحيوانات وفي مستجمعات مياه الأمطار. وأكل الناس لحوم هذه الحيوانات، وشربوا من تلك المياه، فدخلت المركبات الكيميائية الى أجسامهم وتراكمت حتى بلغت مستوى معيناً، مسببة للأطفال والبالغين أمراضاً مثل السكري واختلالات الجهاز التناسلي وتباطؤ النمو وسرطانات الثدي والكبد والبنكرياس.
حملة على كارسون
قبل صدور كتاب «الربيع الصامت» لم يكن هناك حديث عن التأثيرات السلبية للمبيدات. وقد تم تصنيع الـ«د.د.ت» عام 1874، واستعمله بول هيرمان مولر لقتل الحشرات عام 1939، وهو نال جائزة نوبل عام 1948. وكال لاستعماله وقع كبير في الحرب العالمية الثانية، حيث ثبت أنه وسيلة فعالة للقضاء على القمل الذي غزا الجنود، وتنظيف الأماكن التي ابتلاها البعوض الناقل للملاريا. وعندما أصبح هذا المستحضر الكيميائي متاحاً تجارياً عام 1945، لم يتوقع الناس أن تكون له أضرار تحجب النجاحات التي حققها.
ولم يكن مفاجئاً أن يلقى الكتاب معارضة قوية، لكن النزعة العدائية كانت أبعد من أي تصور. وُصف الكتاب بأنـه دعاية زراعيـة سـوفياتية، وبأنه يدعو الناس للعودة الى عصور الظلام. وأُلصقت بالمؤلفة صفات الهستيرية والعاطفية والعنوسة. وهددت شركات كيميائية وزراعية برفع دعاوى قضائية ضدها.
لكن ذلك لم يردع راشيل كارسون.
«الربيع الصامت» دفع الرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1963 الى الطلب من اللجنة الاستشارية العلمية التابعة لإدارته تقصي ادعاءات كارسون. فكانت النتيجة ثبوت صحة تحذيراتها. وأدى ذلك الى تشديد أنظمة المبيدات الكيميائية. وتواصلت النجاحات المبنية على الوقائع التي أوردها الكتاب عندما فرضت الولايات المتحدة حظراً على بيع الـ«د.د.ت» عام 1972، وهي السنة التي تأسس فيها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (لكن الشركات الأميركية واصلت تصدير هذا المبيد حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين). كذلك شهدت الولايات المتحدة صدور قانوني الهواء النظيف والمياه، وتكريس «يوم الأرض»، وتأسيس وكالة حماية البيئة عام 1970 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
إنذار كاذب!
لم تباشر راشيل كارسون الحركة البيئية بمفردها، لكن كتابها شكل خطوة في الاتجاه الصحيح. وبدأ تحفيزها للحركة الشعبية عندما طلبت من ربات المنازل والجمهور المستهدف في كتابها الإبلاغ عن حالات تسمم حيوانات يجدونها نافقة خارج منازلهم.
كان الناس يرغبون في المساعدة، لأن كارسون أثبتت سابقاً أنها كاتبة ناجحة. وعندما بدأ الهجوم عليها، وقف الجمهور الى جانبها، إذ وجد أن الصناعة تهاجم كاتبة وامرأة صادقة. وهي قدمت بدائل عملية لمكافحة الحشرات، واستخدمت آراء كثير من الأطباء لدعم وجهة نظرها.
وبدأ هؤلاء الناس ينتظمون في مجموعات، ويعبرون للحكومة عن مخاوفهم المتعلقة برش المبيدات. وعزز قضيتهم تأسيس وكالة حماية البيئة ووكالات أخرى. وأدى ازدياد الاهتمام الى نشوء ما يعرف الآن بالحركة البيئية.
وما زال الجدل دائراً الى اليوم حول كتاب كارسون، التي توفيت عام 1964 مصابة بسرطان الثدي. وما زال العلماء والصناعيون يقارنون بين أضرار الـ«د.د.ت» وفوائده. وقامت خلال السنوات الأخيرة حملة على كارسون اعتبرت أن كتابها علم الناس دروساً خاطئـة، وأن حظـر الـ «د.د.ت» تسبب في وفاة ملايين الأشخاص لعدم استعماله في مكافحة الملاريا.
وعلى رغم أن كارسون لم تدعُ الى فرض حظر مباشر على استعمال المواد الكيميائية، بل ركزت على الحد من استعمالها العشوائي وغير المحسوب، فان ذلك لم يمنع صحيفة HumanEvents من اعتبار كتابها من المنشورات الأكثر ضرراً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى جانب «كفاحي» لهتلر و«المانيفستو الشيوعي» لماركس وإنجلز. كما لم يمنع منظمة غير حكومية من إقامة الموقع الإلكتروني rachelwaswrong.org(راشيل كانت مخطئة) الذي ينسب الوفيات الناتجة عن الملاريا الى محتوى الكتاب و»الانذار الكاذب» الذي أطلقته كارسون من خلال «رواياتها غير الدقيقة وإحصاءاتها غير الواضحة».
وفي المواجهة، يؤكد مؤيدو كارسون أن الـ «د.د.ت» لم يكن لينفع في أفريقيا على المدى الطويل في مكافحة الملاريا، لأن البعوض كان ليكسب مقاومة ضده.
وسط الجدل الذي أثاره «الربيع الصامت»، تبقى رسالته واضحة: القدرة على توليد وعي جماهيري لهشاشة الطبيعة، ودعوة المواطنين القلقين الى حماية صحتهم. وهو سيبقى في صدارة المكتبة البيئية العالمية، كما ستبقى راشيل كارسون رائدة تغيير بيئي ومصدر إلهام لكثيرين.